الإعلام المصري ومعظم قنواته التلفزيونية على وجه التحديد، لا يتمتع بالحد الادنى من الاستقلالية، وغالبا ما يعكس وجهة نظر الحكومة، اي حكومة، باستثناء حكومة الرئيس الاخواني محمد مرسي، التي اتخذ منها مواقف منذ اليوم، لانه مملوك في غالبيته لرجال اعمال كونوا ثرواتهم الهائلة اثناء حكم الرئيس المصري الاسبق حسني مبارك.
ومن هنا فإن هذا الإعلام هو التيرموميتر الحقيقي، الى جانب وسائط اخرى، الذي يمكن من خلاله وبرامجه، وحملاته الهجومية، قياس حرارة سياسات الحكومة المصرية ومواقفها تجاه هذا الطرف او ذاك، بل ومعرفة خطواتها العسكرية المقبلة.
هذا الإعلام، ونجومه، هيأ بشكل شرس للغارات المصرية على ليبيا، وعبأ الرأي العام المصري في هذا الاتجاه بعد الجريمة البشعة التي ارتكبتها “الدولة الاسلامية” المتشددة في حق 21 مواطنا مصريا قبطيا لا ذنب لهم الا لانهم مصريون اولا واقباط ثانيا، وهي جريمة مدانة تكشف عن دموية مرتكبها.
اليوم يعود بعض الإعلاميين المصريين ومحطات تلفزتهم للتحريض على ضرب غزة على غرار قصف الطيران المصري لـ'إمارة' درنة الاسلامية في شرق ليبيا، ولكن تحت ذرائع مختلفة وهي تسلل مجموعة فدائية اسلامية متشددة من القطاع الى شمال سيناء تمهيدا للاشتراك في هجمات ضد قوات الجيش المصري.
هذا التحريض يتزامن مع طلعات استطلاعية للطيران المصري داخل الحدود الفلسطينية، بل وفوق مدينة غزة ربما من اجل تحديد الاهداف التي يمكن ان يوجه اليها صواريخ طائراته القاذفة في حال صدور قرار سياسي بذلك.
الجيش المصري دمر اكثر من 1300 نفق كانت تشكل شريان حياة بالنسبة لمليوني محاصر في قطاع غزة، ومصدر رئيسي لتهريب السلاح لفصائل المقاومة لردع اي عدوان اسرائيلي، كما اقام الجيش المصري مناطق عازلة في الجانب المصري من الحدود لمنع التهريب وتشديد الاجراءات الامنية لمنع اي ضربة للحدود تحت الارض او فوقها، ولذلك فان السؤال الذي يطرح نفسه هو عن كيفية تسلل الخلية الفلسطينية في ظل كل هذه الاجراءات، واذا كانت تسللت فعلا، وهو ما نفته حركة “حماس″ بقوة، فان هذا التسلل يعكس فشلا امنيا مصريا اولا، او عدم كفاءة الاجراءات الامنية المتخذة وفاعليتها.
السلطات المصرية الحاكمة حاليا لا تكن اي ود لحركة “حماس″، وهذا امر معروف، ولكنها لا تكن ودا ايضا لمليوني فلسطيني في القطاع، وتتفنن في تعذيبهم واذلالهم من خلال اجراءاتها الامنية هذه، ولا نستغرب ان تطور هذا العداء وترسل طائراتها الحربية الامريكية الصنع لقصف الابرياء على غرار ما حدث في مدينة درنة الليبية، فعملية ذبح الاقباط المصريين تمت في مدينة سرت الليبية والقصف استهدف مدينة درنة في الشرق.
المقاومون الفلسطينيون في قطاع غزة لا يملكون اي دفاعات جوية يمكن استخدامها لمواجهة اي غارات للطائرات الحربية المصرية، وحتى لو امتلكوها فانهم لن يستخدمونها لان مصر تعتبر الام الحاضنة بالنسبة لابناء القطاع، ولكن السلطات المصرية اذا ما اقدمت على هذه الحماقة، فانها تخدم الجماعات المتشددة، وتوفر لها الذرائع للتسلل الى سيناء فعلا والاقدام على اعمال انتقامية.
السلطات المصرية تتخبط، وتعيش حالة من الارتباك بسبب تصاعد العمليات العسكرية ضد قواتها في سيناء، وفتحها جبهة اكثر خطورة ضد “الدولة الاسلامية” في ليبيا، وفشلها في الحصول على قرار دولي بدعم خطتها للتدخل العسكري لوضع حد لفوضى السلاح الليبية، ولذلك من غير المستبعد ان يدخلها هذا الارتباك من ارسال طائراتها الى قطاع غزة، لان القطاع هدف ضعيف لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولان هذا القصف في حال حدوثه سيجد ترحيبا من اسرائيل وربما الولايات المتحدة وبعض الدول العربية أيضا.
نأمل أن تتحلى السلطات المصرية بالحكمة والتعقل، وعدم الاقدام على خطوة كارثية كهذه لانها ستكون الخاسر الاكبر، صحيح ان القطاع المحاصر المجوع من قبلها سيكون خاسرا ايضا، ولكن اكثر من ثلاثة عدوانات اسرائيلية لم تركعه وتكسر ارادة مقاومته، ولن يكون حال اي هجوم مصري أفضل.