السياسة الشعبوية في الغرب.. الجذور والتداعيات السياسية

الأحد 8 يناير 2017 04:01 ص

اقتضى شرط الإذعان لمطالب الناخبين في الدول الديمقراطية أن تتحول منصاتها السياسية إلى «منابر شعبوية». إلا أن الشيء الذي يقف وراء هذه الموجة التي تنتشر في العالم الغربي في الوقت الراهن، هو نفاد صبر الشعوب من القيود التي تضعها الحكومات الديمقراطية، والتي تحولت إلى ما يشبه المنهج الاستبدادي. 

وعندما افترض بريت باير مضيف قناة «فوكس نيوز»، بأن الجيش الأميركي سوف يرفض أوامر دونالد ترامب بتعذيب «الجهاديين» الذين يتم اعتقالهم، قال ترامب ببساطة: «ولكنهم لن يرفضوني بذاتي».

وعلى أن المفهوم المتداول من أن في وسع القادة المنتخبين من الغالبية الشعبية، أن يهزؤوا بالمعايير والقوانين الدستورية وأساليب الرقابة على الممارسة الديمقراطية، بات جزءاً من مفهوم «الديمقراطية المتعصبة» التي تلقى التشجيع في المجر من رئيس الوزراء فكتور أوربان، كما أن هذا المفهوم هو السائد في صلب تعاليم «حزب القانون والعدالة» البولندي الذي ارتقى إلى السلطة في شهر أكتوبر الماضي.

وبالرغم من أن «الشعبوية الاستبدادية» غالباً ما تختفي تحت غطاء الحقوق السياسية، فإنها تتقاطع مع بعض الخطوط الفكرية. ومن الأمثلة الشائعة عن معتنقي هذا المنهج في أوروبا، أولئك الأعضاء المتطرفين في «حزب سيريزا» اليوناني الذين يعملون بطرف خفي بوحي من التعاليم الماويّة واللينينية. 

فهم لم يكتفوا بالوقوف في وجه دائني اليونان الأوروبيين، بل أعلنوا جهاراً تحللهم من «الرأسمالية ذاتها». وفي شهر يناير الماضي، احتفل أعضاء مجلس النواب المنتخبين في إسبانيا بتأدية اليمين الدستورية. وكان مما يشذّ عن التقاليد السياسية المألوفة هناك، أن يكون عدد كبير من النوّاب محسوبين على الجناح اليساري لحزب «بوديموس» الذين قدموا لناخبيهم وعوداً صريحة بالعمل الجاد على تغيير الدستور.

ويتلقى «الشعبويون الاستبداديون» الدعم من مصادر متعددة في بلدان مختلفة. ويمكن تشبيه الأمر هنا بأحوال العائلات التعيسة التي تحدث عنها «تولستوي»، وحيث كانت كل منها تمارس تعاستها على طريقتها الخاصة بها. وها هم الشعبويون اليوم، إن كانوا من الجناح اليساري أو اليميني، يستغلون مشاعر الظلم والقهر في الوقت المناسب والمكان المناسب.

 

دور المشكلات السياسية

ولقد اجتازت اليونان صعوبات اقتصادية لا قِبل لها بها منذ بداية الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وعانت المملكة المتحدة وألمانيا من مشكلة التدفق غير المسبوق للمهاجرين من أوروبا الشرقية وطالبي اللجوء السياسي من دول الشرق الأوسط. وتعرضت فرنسا وبلجيكا لهزّة قوية من «الإرهاب». 

ولا تزال بعض الدول الأوروبية تعاني من الإرث التاريخي للنزعات القومية المتفشية فيها، فيما اقتصر دور بعضها التي تقع على أقصى الشرق، على الوقوف كالسدّ في وجه الأطروحات الدعائية الروسية. وأما الولايات المتحدة التي تعد رائدة الديمقراطية الليبرالية في العالم، فإنها تعاني بدورها من مشاكل عويصة أخرى من النوع الذي لا نرى شبيهاً به على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.

ولا يبدو أن الخطاب ذا الطابع الأكاديمي الذي يهدف إلى تفسير السبب الذي يدفع الناخبين الأميركيين لدعم الأحزاب الشعبوية، يمكنه أن يحقق مبتغاه بشكل دائم. ولا توجد حتى الآن أي علاقة مقبولة أو معقولة بين معدلات الهجرة ودعم الأجنحة اليمينية للأحزاب الشعبوية. 

والصحيح هو أن الدعم الذي يتلقاه الشعبيون يرتبط بنوازع أيديولوجية مثل معارضة التعددية الثقافية ومعاداة الهجرة وضعف الثقة بأداء وتوجهات النخب السياسية. وأظهرت دراسة حول مواقف «الفلاندرز» من سكان شمال بلجيكا الناطقين بالألمانية، أن الخوف من أن يتحولوا إلى محرومين من حقوقهم في وطنهم، هو الذي يدفعهم إلى دعم الشعبويين، ولا يعود السبب لأوضاعهم الاقتصادية أو الاجتماعية.

وعلى كل حال، لا يمكن اعتبار هذا التركيز على العوائد الكامنة في السلوكيات المبنية على الأيديولوجيات التي تدفع الناخبين للوقوع ضحية الشعبويين، بمثابة المصل الواقي من الأمراض السياسية المعاصرة. وإذا أردنا أن نكتشف السياسات التي يمكنها أن تقتلع هذه الظاهرة من جذورها، يكون علينا أن ننظر إلى الصورة الكاملة للمشهد السياسي القائم أمامنا الآن.

 

الأزمات والتطرّف

وخلافاً للبيانات المجتزأة لعمليات سبر الآراء والتي يتم استشفافها من دول مختلفة، فإن هذه الصورة المتكاملة تتميز بوضوحها وعدم غموضها. ويمكننا أن نستقرئ منها أن الأزمات المالية هي التي تولّد التطرف. ولقد أثبتت دراسة حديثة أن كل الأزمات المالية التي شهدها العالم بين عامي 1974 و2014، زادت من الدعم الذي تتلقاه أحزاب اليمين المتطرف بمعدل 30 بالمئة.

ويكون علينا أن نتذكر أيضاً أن الهجمة الشعبوية الراهنة ليست حديثة العهد. فبعد أزمة الركود العظيم لعام 1929 وحالة الكآبة التي سادت العالم بعدها، ازدهرت الحركات المتطرفة اليسارية واليمينية في العالم الغربي. وكان نموها أكثر بروزاً بكثير في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية الأضعف أو تلك التي كانت تعاني من هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وتبعت ذلك فترة من الأداء الاقتصادي الضعيف الذي زاد الطين بلّة.

وهناك طرح مناقض شائع لهذه الفرضية يقول إن الموجة الشعبوية الراهنة تزداد قوة في البلدان الناجحة اقتصادياً أيضاً. ولقد أثبت اقتصاد الولايات المتحدة خلال مرحلة التعافي من أزمة عام 2008 أنه أكثر ديناميكية ومرونة من الاقتصاد الأوروبي، إلا أن السياسات الأميركية الراهنة ضلّت طريقها السوي للدرجة التي جعلتها تأتي لنا بدونالد ترامب.

وتنطوي الدنمارك والنمسا على مثالين مشابهين. فالدنمارك تعتمد على حكومة يؤيدها «حزب الشعب القومي الدنماركي» ذو النزعة المتطرفة. وفي النمسا، كان هناك خوف من أن يتم انتخاب مرشح اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية.

 

مؤشرات وشكوك

وتجسّد هذه الظاهرة مدى التحوّل العميق الذي طرأ على طريقة فهمنا للنجاح الاقتصادي. واليوم، يكاد الناتج المحلي الإجمالي في كل من النمسا والدنمارك يساوي ما كان عليه عام 2006. وبالرغم من أن الولايات المتحدة كثيراً ما تزعم أنها تعدّ مثالاً نموذجياً عن النجاح في التعافي من الركود الخطير، فإن معدل النمو السنوي للإنتاجية فيها بلغ 1.3 بالمئة منذ عام 2005 بالمقارنة مع 2.8 بالمئة في العقد السابق لهذا التاريخ. 

وفي عام 2014، تراجع متوسط دخل العائلة الأميركية بنحو 7 بالمئة عن القيمة القياسية التي سجلها عام 1999. وخرجت أعداد كبيرة من الأميركيين من سوق العمل أغلبهم من الرجال.

ونتيجة لذلك، فلو كنت دنماركياً متوسط الحال أو نمساوياً أو أميركياً، فإن المشكلة ستبقى هي ذاتها من أن مستوى معيشتك سيكون مخيباً للآمال إذا وضعته قيد المقارنة والمقايسة مع التوقعات التي كنت قد توصلت إليها قبل عقد أو عقدين من الزمان.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن التطور المتواصل في مستوى المعيشة يمثل جزءاً أساسياً من العقد الاجتماعي الذي يمنح الشرعية للرأسمالية الديمقراطية، فإن هذا التحوّل باتجاه الشعبوية السياسة في الغرب لن يبدو محيّراً على الإطلاق.

ولن يكون من العسير إجراء عملية الربط بين هذا التحليل وبين نمو الميول الشعبوية البديلة التي أتينا على ذكرها. وذلك لأن كل المؤثرات الشائعة الآن، والتي تساهم في دعم الشعبوية مثل:

رفض التعددية الثقافية، ورهاب الأجانب، والخوف من تغير الأسس والأعراف التي يقوم عليها المجتمع، والإحساس بأن السياسات المعتمدة باتت أكثر غموضاً وبعداً عن تحقيق مصالح الناس، تكون أقرب إلى مشاعر الناس عندما ينشغلون في البحث عن وظيفة أو يحاولون الفوز بفرصة سانحة لبناء حياتهم.

وليس من قبيل الصدف أن يلاحظ المرء ميلاً أقل للاستياء من المهاجرين في المراكز التجارية والمالية ذات الصفة العالمية لمدينة لندن، بالمقارنة مع بقية مناطق وأحياء مدن وأرياف المملكة المتحدة الأكثر حرماناً والتي تقل فيها نسبة المهاجرين.

 

القومية المسؤولة

ونظراً لأن الخلل المسجل في المؤشرات الاقتصادية هو السبب الأساسي لاندلاع الثورة التي نشهدها الآن ضد النُخب السياسية، فإن ذلك يمثل دافعاً لصنّاع القرار لمحاولة امتصاص الغضب الشعبي بالإعلان عن تمسكهم بالأفكار والأطروحات الشعبوية. وربما يكمن أخطر مثال عن هذا التحول في الدعوة التي أطلقها وزير الخزانة السابق لورانس سامرز للتمسك بفكرة «القومية المسؤولة» التي تعيد إلى الأذهان فكرة «الليبرالية الجديدة» المبنية على أسس ومبادئ من أهمها: «التدمير الخلاّق» والتجارة الحرة وفتح أبواب الهجرة.

وتكمن المشكلة الأساسية للقومية المسؤولة في معرفتنا التي لا مراء فيها من أن الحمائية التجارية وتقييد الهجرة سوف يكرسان المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الغرب عموماً، تماماً مثلما أدت سياسة «القومية الاقتصادية» إلى زيادة تداعيات أزمة الانهيار العظيم لعام 1929 سوءاً.

 

القوانين المرنة

والسؤال المهم الآن: ما العمل إذن؟

إن بعض عناصر مشكلة النمو في الدول الغربية لا يمكن علاجها استناداً إلى مشاريع الإصلاح الاقتصادي.

من ذلك مثلاً أن التغيرات السكانية «الديموغرافية» التي تقلل من حجم القوة العاملة وتخفّض بالتالي من معدل النمو، ليس من الممكن أن تستجيب لحلول سهلة. 

تستأثر اليابان بأفضل مثال عن هذه الظاهرة. وهناك عناصر مشابهة أخرى مثل الشيخوخة المجتمعية التي تعاني منها كل المجتمعات الغربية من دون استثناء. وحتى هذه المشاكل الديموغرافية يمكن التغلب عليها، بشكل مؤقت على الأقل، عن طريق زيادة معدلات الهجرة. وفيما لا تكون سياسة الحدود المفتوحة مرغوبة أو مقبولة سياسياً، فإن المرونة في تطبيق القوانين المتعلقة بتقييد الهجرة يمكنها أن تحقق الكثير من المكاسب والعوائد الاقتصادية.

 

دور التطور العلمي

وفي هذا الوقت بالذات، أصبحت التطورات العلمية والتكنولوجية التي نشهدها، من علم الوراثة وحتى الذكاء الصناعي، تدحض الفكرة القائلة بأن الجنس البشري قد استنزف كل قدراته على الإبداع والاختراع. وأغلب الظن، وفي بيئة تنظيمية وسياسية أفضل، يمكن للتقدم العلمي أن يُترجم إلى تحسّن كبير وسريع في مستوى المعيشة. 

بناء على دراسة حديثة أنجزها اقتصاديون في «جامعة ديوك» بولاية كارولاينا الشمالية وبالتعاون مع «مركز ميركاتوس»، فإن الأعباء المترتبة على تنفيذ اللوائح والقوانين الفيدرالية في الولايات المتحدة تؤدي إلى تخفيض معدل النمو بنحو 0.8 بالمئة سنوياً. وتقول الدراسة: «لو أن التقيد بتلك اللوائح بقي ثابتاً على المستوى الذي كان عليه عام 1980، لزاد حجم الاقتصاد بنسبة 25 بالمئة».

وحتى لا ننساق بجريرة هذه النتائج، لا بد من أن نشير إلى أن الالتزام بتطبيق اللوائح المعقدة لا يمثل إلا الجزء الأصغر من المشكلة. وأما الشيء الأكثر أهمية، فيتعلق بالتساؤل عن مدى تأثير هذه القوانين المعيقة على إضعاف القدرة على ابتكار الأدوات والتطبيقات التكنولوجية ذات العوائد التجارية. 

فمثلا، يمكن للقرار سيئ السمعة الذي اتخذته «الإدارة الفيدرالية للطيران» عام 1973 بمنع تحليق طائرات النقل التجاري الأسرع من الصوت في أجواء الولايات المتحدة، أن يفسّر السبب الذي أدى إلى إبطاء التطورات الطارئة على تقنيات السفر الجوي خلال العقود الأربعة الماضية. 

وشهدت أوروبا عوائق تنظيمية مشابهة عندما منعت أكثر من نصف الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا وألمانيا، مزارعيها من زراعة المحاصيل المعدلة وراثياً، على الرغم من الافتقار للأدلة التي تؤكد ضررها على الصحة البشرية والبيئة. ويبدو من الواضح الآن أن القوانين ذات الأذرع الثقيلة سوف تقضي على مستقبل الطائرات من دون طيار «الدرونز» أو السيارات التي تقود نفسها بنفسها، قبل أن تتمكن هذه الصناعات الابتكارية من اختراق حياة الناس.

وبالطبع نحن لا ندعو للتمسك الأعمى بنظرية «دعه يذهب، دعه يمر» التي يقوم عليها الفكر الرأسمالي، لأننا ندرك أهمية الدور الذي تلعبه الحكومة في مجالات مهمة متعددة مثل: وضع القوانين واللوائح التنظيمية ومراقبة تنفيذها، ومكافحة الاحتيال والفساد، والاهتمام بأوضاع المهمشين والمحرومين والضعفاء. إلا أن من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأهداف قد نالت حظها من التطبيق الفعلي.

* داليبور روهاك باحث بمركز «أميركان إنتربرايز»، متخصص في الدراسات الأوروبية.

  كلمات مفتاحية

الغرب السياسة الشعبوية القومية المسؤولة الأزمات الاجتماعية الاقتصادية التطرف الأيديولوجي المشكلات السياسية التطور العلمي القوانين المرنة