صراع الحكومة العراقية و«داعش»: بين «وزارة التفويض» و«إمارة الاستيلاء»

الاثنين 8 ديسمبر 2014 03:12 ص

يقول أحد الثوريين في القرن السابق إن طواحين التاريخ تطحن ببطء ولكن طحنها ناعم ودقيق. من هنا فإن السجال الحالي حول «داعش» قد استقر في معظم الجهات على معرفة هل هي وجدت لتبقى أم هي نتاج بيئة عارضة. لكن الآمر الناهي في الساحة السياسية الذي يفترض أن يكون اميركا، يعتقد من خلال الحقائق القاسية على الأرض بأن المواجهة العسكرية مستمرة وتحتاج الى تعقيدات لوجستية يمكن توفيرها من خلال الممارسة اليومية. والسبب المباشر لهذه الازدواجية العسكرية التأجيلية يتصل بالسياسة الخارجية الأميركية، وهي عمليا معقدة ومركبة أكثر من أن تحتملها المؤسسات الداخلية المسؤولة عنها. إن التردد ليس حالة انسانية محضة، بل هو مثل الاندفاع والنكوص، تعبير فكري عن ميزان القوى المادية الموجودة على الأرض.

البيئة أم القيادة

وتجزم المعلومات الأساسية التي تشكل الهيكل الجوهري لوجود «داعش» قبل استيلائها على المناطق التي تديرها في العراق، بأن هذا الكيان الجديد وبغض النظر عن العوامل الاقليمية والدولية التي غذت نموه وصعوده، هو وليد السياق السياسي العام الذي فرضه الاحتلال العسكري الاميركي في العراق واستجاب له مفهوم الكوندومينيوم السياسي اقليميا ودوليا. ان العملية السياسية الاميركية لا تستهدف بناء الدولة كما تزعم الأبواق الاميركية ومن يتعاون معها. من هنا، فإن الصراع الاجتماعي حاليا والذي اتخذ اشكالا دينية ومذهبية، هو الذي يحدد الديموغرافية السياسية الداخلية، وله الدور المفصلي في صياغة الجغرافيا السياسية الاقليمية. لقد طرح الاحتلال مرة ثانية مفهومَين متلازمَين متناقضَين، يخدمان موقتا سياسته الخاصة في الاستقرار والتحكم بحياة الناس: الأول بناء «امارة الاستيلاء» بحسب المفهوم الماوردي السلطاني، والثاني تشكيل «وزارة التفويض» استنادا الى المفهوم المذكور ذاته. ان الجهود التي بذلت، ولا تزال، لا تخرج عن النطاقَين، وبغض النظر عن التمسك المذهبي بتلاليب كل منهما، فالنتيجة واحدة. إن نوري المالكي وحزب «الدعوة»، كانا يريدان بناء «حكومة الدعوة» تمهيدا لتحقيق دولتها، وقد فشلا فشلاً ذريعا، ما مهد الى ظهور امارة الاستيلاء البغدادية لملء الفراغ عمليا. وقد كان هو حريصا على توحيد الجهود لاعادة صياغة حكومته التشاركية في المحاصصة الطوائفية، لكنه أخفق كلياً في ذلك، ما عبَّد الطريق إلى ولادة «وزارة التفويض» العبادية.
الدين والسياسة.. التدين والتسييس

في آذار العام 1991، تمكنت القوات العسكرية «للمجلس الأعلى» – قيادة عبد العزيز الحكيم ـ الموجودة على الحدود العراقية ـ الايرانية في الجانب الجنوبي الذي يربط الأحواز بالبصرة، من العبور الى البلاد والانضمام الى الانتفاضة العفوية، التي عمت معظم ارجاء العراق، وقد استطاعت ان تستثمر الحالة وتقود العملية السياسية والعسكرية بنفسها. كان الانهيار الشامل للجيش العراقي بعد الدخول الى الكويت نتيجة الهجوم الدولي بقيادة اميركا، هو السبب المباشر لتحرك الحشود لاستعادة المبادرة بعد الفراغ السياسي والعسكري. وحين سارعت ادارة بوش الاول الى اطلاق العنان لقوات الحرس الجمهوري العراقي في مواجهة التمرد الشامل، خوفا من استحواذ التشيع السياسي وبمؤازرة ايران على السلطة السياسية، تمكنت القوات العراقية من اخماد الانتفاضة وابادة قوات المعارضة واعادة الامور الى مجاريها. ان المقارنة التاريخية هنا مجدية وفعالة بين هذه التجربة السابقة المميزة وبين تجربة داعش الحالية في إخراج دولته للعلن، ناهيك عن التجربة الوسيطة والمميزة بينهما، وهي بحق تجربة المقاومة العسكرية للتسنن السياسي بعد الاحتلال الاميركي للعراق في العام 2003. لكن الجذور التاريخية لتحويل عفوية الانتفاضة الى تيار إرادي شبه مستقر يختلف في المضامين الفكرية للتيارين، التسنن والتشيع. ففي الخلافة لدى السنة هو تسييس الدين، وفي الامامة لدى الشيعة هو تديين السياسة. ومن الناحية التطبيقية، أي في «البراكسيس» السياسي والاجتماعي، لم يعد بامكان احدهما ممارسة الدين بمعزل عن السياسة أو ممارسة السياسة بمعزل عن الدين. 

السياسة والدولة

من هنا، فإن «داعش» ليست طائفة سرية تعمل كالخلد تحت الأرض، ظهرت الى العلن بفعل قوى عالمية واقليمية فقط، مع طقوس خاصة في القتل والسيطرة على العقل بالقوة الواقعية. إنها نموذج تاريخي مكرر، ظهرت بعض أشكاله في اوروبا المسيحية الصاعدة رأسماليا وفي الشرق الآسيوي في مرحلة نظام الانتاج الخراجي السابق للرأسمالية. إن الغاية المباشرة للعمل المسلح لهذه المجموعات الاجتماعية هو بناء «دولة» جديدة، وبغض النظر عن المحتوى الديني – السياسي لها. وهي تريد تحقيق هدفَين مباشرَين : أولهما السيطرة على البيئة الاجتماعية وتطويعها واعادة انتاجها بالتوافق مع أغراضها السياسية بالتسلط التام. ثانيهما الهيمنة على الفرد واختزاله، حيث تطمح «داعش» حتى الى قيادة الاتصالات الداخلية للفرد وتفكيره الخاص بالتكامل مع ادارة الاتصالات الاجتماعية وإعلامها السياسي المباشر. وهناك في السياق الرأسمالي المعاصر حالتان شبيهتان، ولكن في مجتمع صناعي متطور، بتجربة «داعش» في القبض على السلطة السياسية خارج السياق التاريخي المفترض للعراق والمنطقة، حيث سار «موسوليني» الى روما وسيطر عليها لاستلام السلطة وخصومه يرددون أنه لا يمتلك برنامجا سياسيا! فأجابهم ان برنامجه هو السلطة وبناء الدولة الفاشية! والثانية كيف ان هتلر حين صرخ بعد استلامه للسلطة السياسية واحرز انتصارات باهرة في بداية الحرب العالمية الثانية: «الدولة لا تقودنا.. نحن نقود الدولة».

ان اميركا تعرف جيداً من خلال أجهزتها الاستخبارية معلومات دقيقة عن «حقائق الأرض» تؤكد أن «داعش» ليست عابرة، حتى وان لم تكن أميركا مساعدة على نموها وبروزها، لأن مرحلة «داعش» ضرورية لاعادة بناء «دولة الوكالة»، ويأتي هذا في إطار جهود واشنطن الهادفة إلى وقف تدهور هيمنتها السياسية على العالم. ان دول «الوكالة» الجديدة التي تبغي اميركا تأسيسها ليست بالضرورة ان تكون في محيط الارادة الاميركية المباشرة ولكن يكفي ان تحقق مرادها الاستراتيجي على أرض الصراع الراهن. بمعنى آخر تعويق اعادة بناء الدولة الوطنية المنشودة للعراق ولشعوب المنطقة.

حدود الكوندومينيوم وتخوم «داعش»

ان الكوندومينيوم يعبر عن نفسه الآن في صُوَرٍ متعارضة في الشكل ولكنها متساوقة في المضامين. وتتعايش هذه التناقضات من خلال وحدة العمل السياسي وانعكاساته على الحرب العسكرية الدائرة يومياً، ويقيض لها ان تمتد الى سنوات عديدة قادمة. إن وزارة «التفويض» العبادية بمواجهتها امارة «الاستيلاء» البغدادية، هي ملاحقات عسكرية تعكس مواقف سياسية مدروسة. الأولى تعبر مباشرة عن «حدود» مقيدة لبناء التوجه البيروقراطي للحكومة، ضمن ما هو متوفر من تحالفات طوائفية أو اثنية. والثانية تعرب عن غرضها المركزي القاضي ببناء توجه ثيوقراطي لحكومات محلية بطابع ديني ملحقة بالخارج كليا. ان وزارة «التفويض» هي تجميع ميداني موقت يراد به ان يحقق معادلات جديدة، من نمط تأسيس الحرس الوطني، ليكون قوة عسكرية قادرة على مواجهة «داعش» ومن شأنها فتح الطريق مجددا على إعادة تشكيل حكومة ما بعد الحرب الواعدة.

أما امارة «الاستيلاء» البغدادية، فهي دولة الفراغ المثالية، لها وظيفة الامتصاص لسياسات القوة، ومنها تنطلق أحابيل التسويات السياسية والمساومات التاريخية. فالسياسة هي رياضة حقيقية في المزاعم والحرب. لقد عبر الجنرال «قاسم سليماني» بدقة عن هذه المعادلة الخاصة، حين قال: «لنا الأرض ولاميركا الجو». هو في هذه الكلمات يكشف أن ايران سياسيا تعرف جيدا ماذا يريد الاحتلال الاميركي عسكرياً، وأن اميركا عسكريا لا تفهم جيدا ماذا تريد ايران سياسيا وما هي بالضبط حدود قوتها وتخوم ضعفها. وهو يستغل ببراعة المرض المزمن الذي تعاني منه اميركا وهو «الخوف من الضعف» في المواقف الفاصلة في تاريخها الحربي. بل إنه في ممارساته اليومية يدفع اميركا الى التساؤل عن ماهية الحدود والتخوم التي تربط بين الحالة التاريخية التي تحتويها ايران مع العراق وبين الجغرافيا السياسية التي تضغط على الطرفين، العراقي والايراني، في مواجهة الغريب الاميركي.

ثأر الجغرافيا السياسية

بيد أن التناقضات الحادة بين أطراف الكوندومينيوم، اميركا وايران وتركيا والخليج، لا تؤسس وحدها لمفهوم الحرب الشاملة، ومن خلال مقولة «توماس هوبز»: حرب الجميع ضد الجميع. كما أن كتابات «تشارلز تيللي»، المهمة جدا، حول عنف المكونات وأفكارها في السيطرة المسلحة على السلطة السياسية والثروات الطبيعية، لا تفسر كليا ظهور أو استمرار «داعش» وخلاصها ودورها المركزي في الحرب القائمة، بل واصرارها «الاستراتيجي» على مقاتلة الجميع، وادعاءات اعلامها بأن النصر سيتحقق لها. إن المسألة الجوهرية هنا تظل هي السعي الحقيقي والفعال إلى ضرورة اعادة بناء «الدولة» في ظل الفراغ السياسي والأمني والتدخلات الخارجية والاحتلال العسكري الاميركي. ان «الدولة» هنا هي مركز العلاقة الجدلية العضوية بين الصراع الاجتماعي الداخلي، خصوصاً، والجغرافية السياسية الخارجية. فحين ينهار الصراع الاجتماعي، كنتيجة لاستبداد السياسي والتدخلات العسكرية الأجنبية، تثأر الجغرافية السياسية وتحاول استعادة المبادرة من أجل اعادة صياغة العلاقات القائمة، المحلية فيها أو الاقليمية.

وفي حالة انهيار الجغرافيا السياسية بفعل الحروب الاقليمية المستمرة، ومنها الصراع العربي الاسرائيلي ومشروعية استرجاع فلسطين العربية، وبالتوافق مع الضغوط العسكرية أو الاحتلالية، لا سيما الاميركية، ينهض الصراع الاجتماعي، وليس بالضرورة أن يكون موحداً بل بالعكس، قد يصبح حاداً ودموياً نتيجة الفشل السابق لكل التيارات الحية في المجتمع، ويقد يتخذ أشكالا عديدة وصفات مموهة، منها ما هو ذو طابع ديني أو مذهبي أو طوائفي مبعثر. وهذا يعني عمليا الرجوع الى مرحلة ما قبل الدولة؛ ولكن الهدف الثابت يستمر هو نفسه من أجل اعادة بناء الدولة على أسس مآلات الصراع السياسي الجديد. هنا يكمن جوهر التناقضات القائمة حاليا بين «المشروع» الغربي بقيادة اميركا لمحاربة «داعش» وبين المشروع، الواجب وطنيا وقوميا، الحقيقي لأهل المنطقة في محاربتهم «داعش» والسعي الجاد لإعادة تأسيس الدولة الوطنية والقومية. 

 

المصدر | طارق الدليمي، السفير

  كلمات مفتاحية

العراق أمريكا الحكومة العراقية داعش الدولة الإسلامية

وراء الإطاحة بـ«هيغل».. توترات بسبب سوريا وفريق «أوباما»

الحرب على «الدولة الإسلامية» تحتاج ”قدرات مختلفة“ و«هيغل» تنحى تحت الضغط

«أوباما» لقادة جيوش التحالف: الحملة على «الدولة الإسلامية» ستكون "طويلة الأمد"

الحرب على «داعش»: المسلحون يتقدمون واستراتيجية أمريكا الجوية يُرثى لها

استراتيجية الولايات المتحدة في سوريا ضد «الدولة الاسلامية» لا تبشر بالنجاح

«المالكي» يرفض تسليم طائرته الرئاسية إلى الخطوط الجوية العراقية