«ستراتفور»: لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة مغادرة الشرق الأوسط؟

الأربعاء 16 ديسمبر 2015 10:12 ص

بدأت هياكل السلطة التقليدية في منطقة الشرق الأوسط في التداعي، مما يمهد الطريق لمجموعات وتهديدات جديدة ترتفع من تحت الأنقاض. ونتيجة لذلك، فإن الولايات المتحدة سوف تضطر إلى إعادة النظر في استراتيجياتها في المنطقة. كما مهدت الانتكاسات التي تعرض إليها تنظيم القاعدة لازدهار تنظيم «الدولة الإسلامية»، لذلك، فإن الجماعات الإرهابية الأخرى سوف تتحرك لملء الفراغ الناجم عن تراجع «الدولة الإسلامية» في نهاية المطاف. سوف يشكل الإرهاب تهديدا للأمن القومي الأمريكي، في المستقبل المنظور، وصناع القرار في واشنطن ليس لديهم خيار سوى مواصلة طرق أكثر استدامة لمواجهته. لذلك فإن الولايات المتحدة سوف تحول في نهاية المطاف تكتيكاتها في المنطقة، بهدف تحقيق التوازن بين تمكين قوات الأمن المحلية، والنشر الانتقائي لقوات مدربة ومجهزة خصيصا، في محاولة لقلب الموازين في الحرب ضد الإرهاب.

إعادة بناء المنطقة

وقد تم تشكيل الشرق الأوسط عبر الحروب والاستعمار وموجات تفتيت ما بعد الحرب الباردة إلى مجموعة من الدول التي تحكمها الجيوش والممالك. ومع ذلك، وعلى مدار العقد الماضي، فإن موجات من التدخلات الخارجية والانتفاضات الاجتماعية المحلية قد مزقت الكثير من هذه الهياكل السياسية. في الوقت نفسه، فإن أطراف قوية مثل الولايات المتحدة قد انسحبت من تحالفاتها في المنطقة، وتسببت في تقويض موازين القوى، حيث كان وجودها يعمل في كثير من الأحيان ككفل بين الجهات الحكومية وغير الحكومية الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.

وسط هذه الاضطرابات المفاجئة، فإن تركيزات القوى الإقليمية آخذة في التبلور في تركيا، إيران، مصر، (إسرائيل)، إضافة إلى المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. ولكن مساحات من الأراضي بينهما لا تزال غارقة في الفوضى، بينما تركت المجتمعات تواجه الانقسامات العرقية والطائفية. ويتجلى هذا بشكل أكثر وضوحا في كل من العراق وسوريا.

وبينما تواصل منطقة الشرق الأوسط تمزيق نفسها، فإن الجماعات المتشددة تستفيد من فراغ السلطة الناجم عن ذلك في النمو والتكاثر. وخلال اشتباكها على نحو متزايد مع القوات العسكرية الأكثر تماسكا والمتمركزة في جميع أنحاء المنطقة، فإنها سوف تستخدم تكتيكات غير متماثلة مثل الإرهاب في ساحة اللعب، وتقوم بتوسعة استخدام هذه التكتيكات على نطاق كبير.

الحرب العالمية ضد الإرهاب

لم تبدأ الولايات المتحدة في تفهم التهديد الذي يشكله الإرهاب حتى تعرضت له في عقر دارها في أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001. في أعقاب الهجمات، أدرك زعماء الولايات المتحدة أن الجماعات الإرهابية لديها القدرة على استهداف وقتل أعداد كبيرة من المواطنين الأمريكيين على الأراضي الأمريكية. لمنع وقوع هجوم على شاكلة 11 سبتمبر/أيلول مرة أخرى، أطلق الرئيس الأمريكي الأسبق «جورج دبليو بوش» هجوما واسع النطاق ضد الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء العالم حتى أنه أطلق عليها اسم الحرب العالمية على الإرهاب.

هذه التسمية خاطئة بشكل ما. الولايات المتحدة لا يمكنها مهاجمة كل مجموعة إرهابية في العالم. إنها ببساطة لا تملك الإرادة أو الموارد للقيام بذلك. وعلاوة على ذلك، فإن الإرهاب هو تكتيك، وهو غير قابل للقضاء عليه نهائيا بحكم طبيعته. بدلا من ذلك، اختارت واشنطن استهداف الجماعات العابرة للحدود (وشبكات دعمها)، والتي أظهرت النية والقدرة على مهاجمة مصالح الولايات المتحدة وحلفائها من خلال وسائل غير متماثلة.

هذه الاستراتيجية ليست مرتبطة بمجموعة واحدة، على الرغم من أن منظمة واحدة قد تشكل خطرا أكبر وأكثر إلحاحا من غيرها في أوقات معينة. على سبيل المثال: في البداية، كانت الاستراتيجية تركز إلى حد كبير على إيجاد وتفكيك جوهر تنظيم القاعدة المسؤول عن تنسيق هجمات سبتمبر/أيلول. الآن، بعد أن تحقق هذا الهدف إلى حد كبير، فقد تحول تركيز الولايات المتحدة إلى «الدولة الإسلامية»، حيث أنها ستظل على الأرجح قائمة خلال السنوات القليلة القادمة، وسوف يعمل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة على الحط من قدرات المجموعة الجهادية.

ولكن حتى لو نجحت الولايات المتحدة في تهميش «الدولة الإسلامية»، فإن العناصر الأساسية التي مكنت التنظيم من الصعود لن تختفي في وقت قريب. مع استمرار الصراعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فإن مجموعات أخرى تظهر على السطح مع قدرات ونوايا مماثلة. هذه الجماعات لن تكون جميعها بالضرورة سنية أو دينية. على سبيل المثال، فقد هاجم حزب التحرير الشعبي الثوري الماركسي بالفعل أهدافا أمريكية في تركيا، وكذلك فعلت الميليشيات الشيعية في العراق.

في مواجهة هذه التهديدات القادمة، من الصعب تجاهل الإشارة إلى أن واشنطن تتخلى ببساطة عن المنطقة. الشرق الأوسط هو المورد الاستراتيجي من النفط في السوق العالمية، والرابط الأساسي الذي يربط أفريقيا وآسيا وأوروبا. لذا فإن تركه لمواجهة مصيره لا يعد خيارا.

الغزو مقابل الهجر

من الواضح بشكل متزايد أن نهج الولايات المتحدة في القضاء على تنظيم القاعدة، الذي كان يتم عبر الغزو الكامل أولا في أفغانستان ثم في العراق، هو نهج غير قابل للاستمرار على المدى الطويل. وكان الهدف من كل غزو بري هو ضرب أحد الجماعات الجهادية في معاقلها الآمنة. وفي حين أن كلا التدخلين يمكن أن يكون ناجحا بمعنى من المعاني، فقد فشلا أيضا في القضاء على التهديدات بشكل حاسم. في أفغانستان، تمكن مقاتلو القاعدة من الفرار عبر الحدود غير المؤمنة وتلاشوا في التضاريس الصعبة لتفادي محاولات الإيقاع بهم. ومن هنا فقد اعتمدوا على مزيج من أساليب حرب العصابات والإرهاب لشن حرب طويلة الأمد ضد القوات الأجنبية.

في العراق، كانت بقايا نظام «صدام حسين» قادرة على إعادة تنظيم نفسها سريعا إلى أحد أشكال التمرد، في حين استغلت الميليشيات الشيعية المحلية الأوضاع لشن هجمات هي الأخرى. في كلتا الحالتين، أدرك القادة الأمريكيون سريعا أنهم سوف يحتاجون إلى إبقاء قواتهم لفترات طويلة لقمع التهديدات الجديدة. ذلك لم يحل مشكلات بغداد أو كابول تماما، وإن كان قد وفر درا من الاستقرار النسبي في كل منهما. أصبحت الأعداد الكبيرة من «قوات الاحتلال» حافزا لزيادة التجنيد في هذه الجماعات المسلحة، مما أدى إلى تفاقم المشكلة.

وبسبب عدم قدرتها على تدمير أعدائها بشكل كامل أو التعامل مع حرب طائفية دامية، فقد بدأت الولايات المتحدة في البحث عن استراتيجية للخروج. لا الولايات المتحدة ولا أي من حلفائها يستطيعون أن يواصلوا نشر أجزاء ضخمة من جيوشهم لخوض حروب بلا نهاية. ونتيجة الالتزام الزائد من الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، فقد أضرت بقدراتها العسكرية في أماكن أخرى من العالم.

وفي الوقت نفسه، كان الضغط السياسي يدفع إلى إنهاء العمليات في العراق وأفغانستان. في خضم ركود حاد، تم إجبار صناع السياسة الأمريكيين أن يختاروا ما بين إجراء تخفيضات كبيرة في الميزانية، أو تحمل المزيد من الديون لتمويل النزاعات في الخارج. وفي الوقت ذاته، ارتفع عدد القتلى بشكل مطرد، وأصبح الرأي العام الأمريكي أقل استعدادا للتضحية بجنوده.

وهكذا، تغيرت استراتيجية مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة. كان الهدف الجديد هو استبدال جميع القوات التابعة للولايات المتحدة وحلفائها واستبدالها بمساعدات من بعيد. أصبحت المساعدات المالية وتبادل المعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجستي أدوات الغرب الأولية للنفوذ. بيد أن هذا الموقف قد فشل أيضا. تدهور الأمن في أفغانستان جنبا إلى جنب مع خفض الولايات المتحدة لتواجدها. وفي العراق، بمجرد أن غادرت القوات الأجنبية، فإن غياب القوى الغربية قادرة واندلاع الحرب الأهلية في سوريا المجاورة قد مكنا تنظيم القاعدة في العراق من إعادة تشكيل نفسه ليتحول إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق والشام.

البحث عن التوازن

في ضوء هذه التطورات، كان على الولايات المتحدة أن تعدل نهجها مرة أخرى. أوقفت واشنطن وحلفاؤها بالفعل المزيد من سحب القوات من أفغانستان، وقاموا بتوسيع الجداول الزمنية لمهماتهم وفي بعض الحالات تم عكس قرارات تقليص الوجود العسكري على الأرض. وفي غضون ذلك، نقلت الولايات المتحدة بعض قواتها إلى مسرح العمليات في العراق وخارجها في محاولة لتحقيق الاستقرار في المنطقة بعد الانتشار السريع للدولة الإسلامية. وفي الآونة الأخيرة، دفعت واشنطن وحدة صغيرة من قوات العمليات الخاصة الأميركية الى سوريا بعد أن فشلت الجهود المبذولة لتدريب قوات محلية مرارا وتكرارا.

ومع ذلك، لا تزال واشنطن تسعى للبحث عن التوازن المثالي بين سياسة الغزو واسعة النطاق وسياسة الفك الكامل للارتباط. وحتى الآن، فإن محاولات إعادة الانخراط الجزئي في العراق وسوريا والدعم العرضي للقتال إما حقت نجاحا محدودا أو فشلت فشلا ذريعا. استعادت القوات المدعومة من الغرب بعض الأراضي خلال العام الماضي، ولكنها كانت مكاسب بطيئة ومكلفة. على الجانب الإيجابي، على الرغم من ذلك، فإن استراتيجية الاشتباك المحدود هي أكثر استدامة بكثير من أي من سابقاتها.

بينما تخوض الولايات المتحدة معركة طويلة الأمد ضد الإرهابيين الذين يرغبون في مهاجمتها، فإنها سوف تواصل البحث عن وسائل فعالة دون أن تستنفذ مواردها. ما نشهده هو تحول بطيء للجداول عبر إضافة أجزاء صغيرة من القوة القتالية المباشرة لاستكمال دعم القوات المحلية الموجودة بالفعل.

في نهاية المطاف، فإن هذا التهجين الجديد سوف يسمح بالجمع ما بين الدعم المباشر وغير المباشر في أجزاء كبيرة من المنطقة. من ناحية، سوف تواصل واشنطن دعم حلفائها المحليين عبر التدريب والاستخبارات والدعم اللوجستي والقوات الجوية. من جهة أخرى، فإنه سوف يتم استخدام أجزاء صغيرة من وحدات وقوات العمليات الخاصة لتحويل وتيرة المعركة لصالح الحلفاء. وسوف يتطلب ذلك من قوات العمليات الخاصة التنسيق مع الوحدات البرية الصغيرة الأخرى التي يمكن شن غارات وإدارة المعركة، إضافة إلى تنسيق استخدام مجموعات متنوعة من الذخائر بما فيها الذخائر دقيقة التوجيه والمدفعية والدعم الجوي القريب.

في حين يمكن أن تسفر هذه الاستراتيجية في النهاية عن تدمير «الدولة الإسلامية»، فإن الشرق الأوسط ككل سوف يظل يعصف به من قبل الاتجاهات المختلفة وهياكل السلطة الجديدة والتحالفات التي تظهر وتتفكك. هذا البيئة سوف تكون قابلة لاحتضان المزيد من الجماعات المتشددة التي ستستمر في تحدي الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. وهذا بدوره يجبر واشنطن على البقاء مشتبكة تماما في الشرق الأوسط حتى يتمكن المخططون من التعامل مع التهديدات القادمة سواء كانت مشابهة لسابقاتها أو مختلفة عنها كليا. من أجل تحقيق مستوى مقبول من الاستقرار، فإن ذلك سوف يتطلب، من وجهة نظر الولايات المتحدة، التزام عشرات الآلاف من العاملين على الأرض وفي سماء المنطقة، لسنوات عديدة قادمة.

  كلمات مفتاحية

الشرق الأوسط الدولة الإسلامية الولايات المتحدة العراق سوريا أوباما الإرهاب العرب

«ناشيونال إنترست»: البحث عن استراتيجية جديدة لهزيمة «الدولة الإسلامية»

«الدولة الإسلامية» ليست لغزا: كيف نفهم تحركات التنظيم الاستراتيجية؟

نظرة أمريكية شديدة التفاؤل للشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي

التنافس الأمريكي الروسي في الشرق الأوسط

«الاحتواء الجديد»: استراتيجية أمريكية للأمن الإقليمي بعد الاتفاق النووي

«أوباما» وفوضى الشرق الأوسط

تنبؤات «ستراتفور»: التغيرات المتوقعة في الشرق الأوسط خلال عام 2016

«و.س. جورنال»: لماذا يجب على أمريكا أن تدعم السعودية في مواجهة إيران؟

مستقبل العلاقات الخليجية الأمريكية: ما الذي ينبغي على الإدارة الأمريكية المقبلة أن تفعله؟

لماذا يجب على الولايات المتحدة التدخل مجددا في الشرق الأوسط المضطرب؟

هل يمكن للولايات المتحدة أن تنهي حروبها في الشرق الأوسط؟

هل يمكن صياغة مقاربة للأمن الخليجي تقوم على المشاركة بين السعودية وإيران؟