لماذا لا تصلح سردية الصراع الإسلامي العلماني لتفسير محاولة الانقلاب التركية؟

الجمعة 22 يوليو 2016 07:07 ص

بعد أن نجح في الهبوط في مطار إسطنبول بعد رحلة مروعة في الجو، جرى خلالها محاولة استهداف الطائرة التي تقله من قبل مقاتلات «إف- 16» الداعمة للانقلاب، فإن «أردوغان» أقدم على تصرف عجيب. لقد اتهم «فتح الله كولن»، الزعيم الديني، وأنصاره بالوقوف وراء محاولة الانقلاب.

لم يكن ذلك غريبا بسبب التهمة نفسها، ولكن لأن ذلك كان واحدا من بين عدد من الأمثلة التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، والتي أكدت حجم خطأ الحديث حول السياسة التركية باستخدام مصطلحات التمييز الواضح بين الدين والعلمانية. كان حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه «أردوغان» وجماعة «كولن» حلفاء حتى وقت قريب، كما كانا يتشاركان نفس وجهات النظر حول الدور الذي يجب أن يلعبه الإسلام في الحكم والحياة اليومية للجمهورية التركية. وقد استخدم «أردوغان» أنصار «كولن» في مساعيه لترسيخ سيطرته على الجيش.

يوظف «أردوغان» الآن الأجزاء الموالية له من الدولة من أجل تدمير «الدولة الموازية» لأنصار «كولن». إذا كانت الأمور تسير وفق قاعدة الأبيض والأسود، فإن المناورات التي نراها الآن لم تكن لتحدث. ينتمي كل من حزب العدالة والتنمية وحركة «كولن» إلى المعسكر الإسلامي، ويفترض بهما ألا يكونا متنافسين. ورغم ذلك، فإنهما يتنافسان الآن على القيادة الفكرية للعلمانية التركية بعد الكمالية، والتي تسمح للدين بلعب دور في المجتمع المدني.

هناك مشاهد أخرى لا تقل دلالة. في الوقت الذي كانت تجري فيه محاولة الانقلاب، تم التبرؤ منها من قبل قادة حزب الشعب الجمهوري، وهو الحزب الذي أسسه «مصطفى كمال أتاتورك»، مؤسس الدولة التركية الحديثة. هذا على الرغم من حقيقة أن مدبري الانقلاب أعلنوا في بيانهم أنهم يرغبون في حماية العلمانية من «أردوغان». في اليوم التالي، اصطف حزب العدالة والتنمية وقادة حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردستاني في جلسة استثنائية للبرلمان أعلنوا فيها عن دعمهم للديمقراطية ولقيادة «أردوغان».

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الجيش، المعقل المفترض العلمانية الصارمة في تركيا، وقف أغلبه على الحياد أثناء محاولة الانقلاب. صحيح أن فصيلا من الجيش هو من قام بهندسة الانقلاب للإطاحة بـ«أردوغان» من السلطة، ولكن «أردوغان» لم يكن ليبقى على قيد الحياة ما لم يقم قائد الجيش الأول «أوميت دوندار» بإعلان الولاء له. وحظي «أردوغان» أيضا بدعم العديد من القادة الآخرين والجنرالات الذين رفضوا الانضمام إلى الانقلاب، ناهيك عن المحتجين العلمانيين الذين شاركوا في المظاهرات ضده. نحن بحاجة إلى إطار أفضل لفهم ما رأيناه في تركيا خلال نهاية الأسبوع الماضي، ومحاولة تفهم كيف يمكن أن يشكل هذا الإطار مستقبل تركيا.

صعود الدولة القومية

من أجل ذلك فإنه يتعين علينا أن نرجع قليلا إلى البداية. وعلى وجه التحديد إلى تلك الفترة التي أسس فيها «أتاتورك» الجمهورية التركية في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية. اقتسم الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الأولى مقتنيات العثمانيين، وتم تقنين ذلك في معاهدة عرفت باسم معاهدة سيفر.

في الواقع، فإن نهاية الحرب العالمية الأولى تزامنت مع نهاية الإمبراطوريات الأوربية متعددة الأعراق. كانت القومية تصعد كقوة سياسية منذ قرن من الزمان أو ربما أكثر، ولكن الحرب العالمية الأولى كانت هي المسمار الأخير في نعوش الإمبراطوريات. تم تحطيم جميع الإمبراطوريات من الإمبراطورية العثمانية إلى النمساوية المجرية إلى القيصرية الروسية.امتدت التغييرات أيضا لتشمل الحيازات الاستعمارية البريطانية والفرنسية مع إنشاء عصبة الأمم، وظهور فكرة الانتداب، والتي عنت أن تلك الإمبراطوريات كانت تسيطر عل هذه المناطق حتى تصبح ناضجة بما فيه الكفاية للدفاع عن سيادتها الوطنية (أو على الأقل كان هذا هو المنطق المعلن وراء الأمر).

في خضم هذا العالم، صعد «أتاتورك» ليصبح رئيسا لتركيا. أدرك «أتاتورك» القوة الكبيرة التي تمثلها القومية. ورأى حجم التقدم الذي حققته الدول الغربية بالمقارنة مع العثمانيين الذين كانوا أقوياء يوما ما. كما أدرك مدى الدمار الذي حل ببلاده بعد خسارة الحرب. وقد ألقى بالجزء الأكبر من اللوم في زوال الإمبراطورية على القيادة الدينية التي اكتسبت المزيد من القوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر على حساب السلاطين. وهكذا، ألغى «أتاتورك» السلطنة، وقام بإنشاء الجمهورية التركية الحديثة. وبنى دولته حول كادر من النخبة العلمانية التي تركزت حول إسطنبول، وقام بتهميش الدين من المجال العام.

عند محاولة فهم تركيا اليوم، فمن المهم أن نضع هذا التاريخ في الاعتبار. من التبسيط المخل أن نقول إن «أردوغان» وحزب العدالة والتنمية يسعون لاستبدال الكمالية بشكل من أشكال الإسلام السياسي، وأن الجيش هو معقل العلمانية التركية الذي سوف يدافع عنها بعض النظر عما يقوله الدستور. بشكل من الأشكال، كان صعود العدالة والتنمية بالأساس تعبيرا عن الرغبة في رؤية دور أكبر للدين في المجال العام. ولكن الدين لم يكن هو السبب الوحيد أو حتى الحاسم في حيازة حزب العدالة والتنمية لهذا القدر من النفوذ الذي لم يسبق أن حازه أي حزب من الأحزاب الدينية في أي وقت سابق.

المركز والأطراف

خلال حقبة الثمانينات، جلبت الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي نفذتها الحكومة بعض المنافع الاقتصادية إلى الأناضول التي كانت دوما منطقة ثانوية وهامشية. تسبب تدفق رأس المال ونمو الصناعة في الأناضول في ظهور فئة جديدة من المواطنين الأتراك الأكثر محافظة وتدينا من النخب في إسطنبول، والذين يفضلون نمطا من السياسة «غير التدخلية» وبخاصة حين يتعلق الأمر بالاقتصاد. هذا، جنبا إلى جنب مع تدفق العديد من المهاجرين الأتراك من المناطق الريفية إلى المدن الصناعية بحثا عن وظائف وفرص جديدة. وضعت هذه التغيرات المركز الأتاتوركي في اتصال مع محيطه الأناضولي بطريقة لم يسبق لها مثيل. تسبب ذلك في تغيير دائم في السياسة التركية.

ومع ذلك فإن هذه التطورات لم تغير الرغبة التركية الشاملة في دولة علمانية. في عام 2007، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة الدراسات الاجتماعية الاقتصادية التركية أن ثلثي الأتراك يصنفون أنفسهم كمتدينين، في حين أن الثلث فقط كانوا يرون أنفسهم كعلمانيين. وفي عام 2015 أجرت مؤسسة «بيو» استفتاء سألت فيه المشاركين من بلاد المسلمين إذا ما كانوا يعتقدون أن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون هي القانون الرسمي. وجدت «بيو» أن 12% من المسلمين الأتراك فقط هم الذين يفضلون ذلك.

لفهم تركيا اليوم، عليك أن تعرف أن الأتراك يشعرون بالفخر بدينهم (بعض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة لكل فرد)، ولكنهم يثمنون أيضا المبادئ العلمانية (وإن لم تكن تطبق بشكل حرفي) التي تأسست بلادهم وازدهرت عليها خلال القرن الماضي.

يبدو من الصعب على الغربيين تفهم هذا الأمر نظرا لأن تصنيف «أردوغان» كإسلامي والجيش كتكتل قومي علماني هي الطريقة الأسهل للتمييز بينهما. المشكلة الوحيدة هي أنها، كما ظهر نهاية الأسبوع الماضي، وسيلة غير دقيقة لتصور ما يحدث في تركيا.

من أجل تجاوز هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، تم تأسيس الدولة التركية بمركز قوي للسلطة في إسطنبول ومحيط أناضولي مهمش، وضعيف التمثيل. في الوقت الذي يبدأ فيه هذا الصدع في الالتئام وتشرع الأمة التركية في الالتحام، فإن تركيا سوف تصبح أكثر ثقة بنفسها وأكثر قوة على المدى الطويل. على المدى القصير، ليس لدي أي شك في أنها سوف تبدو فوضوية وعنيفة أحيانا. حقيقة إذا ما كانت تركيا سف تبقى دولة ديمقراطية أو أن «أردوغان» سوف يظل في السلطة تبقى أمورا غير مؤكدة يعود الأمر فيها إلى الأتراك.

خلاصة الأمر هي أنه من المهم ألا يتم اختزال ما يحدث في تركيا إلى معركة دينية علمانية. وفي نفس الوقت علينا ألا ننسى أن الفجوة، رغم تضخيمها، لا تزال موجودة. ولكن في المقابل ليس في إمكاننا استخدام أي من تلك الأطر كعدسة وحيدة لفهم التطورات التي تحدث في البلاد. كما لا يمكن الحد من الصراع الداخلي المحتدم في البلاد إلى مرتبة صراع بسيط بين العقل والوحي. الأمر يتعلق بالسلطة ومن يسيطر عليها. وما سوى ذلك ليست إلا واجهات مختلفة.

المصدر | جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

تركيا أردوغان كولن الجيش التركي أتاتورك الدين العلمانية

فشل الانقلاب: الطبقة الوسطى المتدينة ترسم مستقبل تركيا على حساب النخبة الكمالية

«أردوغان» يروي تفاصيل ليلة الانقلاب ويؤكد: العالم ليس هو الاتحاد الأوروبي

«فورين أفيرز»: لماذا فشل الانقلاب العسكري في تركيا ونجح في مصر؟

«واشنطن بوست»: لماذا فشل الانقلاب الأخير في تركيا؟

المشكلة في «أردوغان» أم في «إسلامية» الحكم التركي؟

الانقلاب التركي بين العرب والغرب

الجذور الهشة للعلمانية التركية: لماذا تخلع تركيا ثياب أتاتورك؟

كيف نجح أردوغان في حشد الجماهير في الشوارع؟

التكلفة الباهظة والفرصة التاريخية لمحاولة الانقلاب الفاشلة