«القاهرة تقتلنا».. لسان شباب النوبة الحالم بالعودة إلى أرض الأجداد

الخميس 9 فبراير 2017 11:02 ص

قبل يومٍ واحد من الإطاحة بالرئيس المصري «حسني مبارك»، في 11 فبراير/شباط عام 2011، كان هو اليوم الذي شهدت فيه الناشطة النوبية «فاطمة» إمام مشهدًا للبلد التي طالما حلمت بها.

كانت فاطمة تقف في ميدان التحرير، عندما ظهرت مجموعة من الناس كانوا في مسيرة، وصلوا من طريق جانبي. كان عشرات النوبيين يهتفون بلغتهم: «دافي دافي، واو مبارك»، بمعنى «ارحل، ارحل يا مبارك».

وقالت فاطمة لـ «ميدل إيست آي» على مقهى بالقاهرة: «لقد كنت سعيدة جدًا لرؤية النوبيين يهتفون بلغتهم. ذابت المسيرة بعدها وسط الحشود. هذه هي مصر التي نريدها، مصر تحتوي الجميع، مصر تقبل اختلافاتنا وتنوعنا».

وتقع النوبة جنوب مصر بالقرب من الحدود السودانية، وكانت واحدة من أقدم الممالك في أفريقيا. ومع تمتّعهم بإرثهم الثقافي الفريد، يكافح النوبيون منذ وقتٍ طويل للحفاظ على ما تبقّى من حضارتهم القديمة.

أربع موجاتٍ من النزوح

كان النوبيون عرضةً لسلسلة من عمليات النزوح خلال القرن الماضي، شهدت 4 مراحل حدثت بين عامي 1902 و1963. كان النزوح الأول بسبب فيضان النيل عام 1902 والذي أغرق العشرات من القرى النوبية. وحدث الأمر ثانيةً عام 1912 وأغرق 8 قرى إضافية، ثمّ 10 أخرى عندما فاض النيل من جديد عام 1933.

وأوضحت فاطمة أنّه خلال المآسي الثلاثة الأولى، استيقظ النوبيون على المياه تجرف منازلهم. وقالت: «تمّ ترك النوبيون يواجهون مصيرهم وحدهم».

لكنّ النزوح الرابع لم يكن بفعل كارثةٍ طبيعية، بل كانت كارثة من صنع الإنسان على النوبيين، عندما تمّ تهجيرهم من أراضيهم ومنازلهم قسرًا من أجل بناء السد العالي عام 1963. وتمّ تهجيرهم جميعًا إلى بلدة كوم أمبو الزراعية القريبة على بعد 50 كيلومتر شمال أسوان.

وأوضحت فاطمة: «في هذه الموجة الرابعة، أجبر النوبيون على مغادرة منازلهم للأبد. وعندما تمّ تسكينهم في كوم أمبو لم تكن المنازل قد انتهى تجهيزها. وقد كانت المنازل مبنية بالأسمنت، وليس الطين اللبن الذي اعتاد النوبيون البناء به».

ولم تكن «فاطمة»، التي تبلغ 35 عامًا، قد ولدت بعد حين حدث النزوح، لكن يمكنها وصف كل تفصيلة صغيرة من الرحلة الموجعة، كما لو أنّها قد شاهدتها بعينيها.

وهذا أيضًا نفس الأمر للآلاف من شباب النوبة، الذين لم يشهدوا موجات النزوح، لكنّهم مرتبطين للغاية بتاريخ شعبهم.

وترعرعت «فاطمة» على يد أسرة شرّبتها بذاكرة كل التفاصيل عن ثقافتها وتاريخها، على الرغم من ارتحالهم إلى القاهرة، وعدم قدرتهم حتّى على التحدّث باللغة النوبية.

وقالت فاطمة: «نحن نستمع إلى أغاني النزوح في أفراحنا. لقد هجّرنا مع وعد بالعودة إلى هذه الأرض، ولن ننسى أبدًا هذا الوعد». وأضافت: «العودة بالنسبة لنا ليست فقط عودة إلى الأرض، لكنّها أيضًا عودة إلى ثقافتنا وإرثنا، للتحدّث بلغتنا وممارسة تقاليدنا».

وبالإضافة إلى نزعهم عن أوطانهم، تم نقل النوبيين إلى أراضٍ بعيدة عن النيل، وهو أساسي جدًا للثقافة النوبية. وكما أوضحت «فاطمة»، «يمثّل النيل كل شيء للنوبيين».

وتقول: «نغسل المولودين حديثًا لدينا في النيل، وأول طقوس الزواج أن يسبح العروسان في النيل، والزراعة هي المصدر الرئيسي لاقتصادنا، والأسماك وجبة رئيسية في طعامنا. هل تتخيّل كم هو مؤلم أن يؤخذ النيل بعيدًا عنّا؟».

وبالنسبة للناشط النوبي «مصطفي الشوربجي»، عضو مبادرة كوما التي تهدف إلى تغيير الصورة النمطية عن الثقافة النوبية، فإنّ ارتباطه بالأرض عملية عفوية للغاية.

وأخبرنا «مصطفى»: «لقد استمعت إلى أجدادي الذين لم يتحدّثوا أبدًا باللغة العربية، وتساءلت دائمًا لماذا يتحدّثون لغةً مختلفة؟ ولماذا أملك لون بشرة مختلف؟».

وكانت مثل تلك التساؤلات هي الدافع للشوربجي للبحث بشكلٍ أعمق في جذور تاريخه وثقافته، وكان بحثه دائمًا مدفوعًا بالعاطفة.

وقال: «عندما علمنا عن تاريخنا وثقافتنا، بدأنا نطرح أسئلةً أخرى، مثل كيف نحافظ على هذه الثقافة؟ كيف نعود إلى أرضنا؟ وهذا الخوف على تراثنا هو ما يجعل العودة إلى الأرض ضرورة، وليست شيئًا من الترف».

مسيرة إلى أرض الأجداد

وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، سار المئات من الناشطين النوبيين في مسيرة باتّجاه أرض أجدادهم في أسوان، احتجاجًا على عدد من المراسيم الحكومية التي قد تمنعهم من حقّهم في العودة إلى أراضيهم، وهو الحق الذي كفله الدستور المصري عام 2014.

وكانت المادة 236 من الدستور المصري بمثابة الانتصار الثوري لحقوق النوبة، حيث كفلت لهم حق إعادة التوطين في أرض أجدادهم خلال 10 أعوام من الموافقة على الدستور، ويلزم الدولة بالقيام بمشاريع تنموية هناك والحفاظ على الثقافة والهوية النوبية.

لكنّ عددًا من القرارات الرئاسية أعاقت هذه الأحلام. وقد نصّ القرار رقم 444 الذي صدر في عام 2014، على تخصيص الأراضي الحدودية كمناطقٍ عسكرية، وشملت تلك الأراضي جزءًا هامًاَ من أراضي النوبة القديمة. وصدر قرار آخر عام 2016، صادر أيضًا جزءًا آخر من الأراضي النوبية لصالح إعادة إحياء مشروع توشكى، الذي كان مشروعًا قوميًا كبيرًا بدأ وتوقّف في عهد «مبارك».

ولم تمرّ الاحتجاجات مرور الكرام، حيث ضغطت على السلطات المصرية للتفاوض مع ناشطين نوبيين من أجل تسوية النزاع.

وفي مؤتمر الشباب الشهري الذي عقد في أسوان خلال عطلة نهاية الأسبوع، ألغى «السيسي »قراره الأخير بمصادرة أراضي نوبية لمشروع تنمية توشكى. وأعلن أيضًا عن مشاريع تنموية وتحسينات في البنية التحتية لمدينة نصر النوبة القريبة من كوم أمبو التي يقطن بها النوبيون حاليًا.

وقال «السيسي»: «النوبيون فقط 150 ألفًا أو 200 ألف، هل تعتقدون أنّ جميعنا كمصريين غير قادرين على إرضائكم؟ إننا مستعدين لأن نقطع من أجسادنا ونعطيكم».

وعلى الرغم من أنّ النشطاء قد اتفقوا على أنّها خطوة جيّدة، قال العديد منهم أنّها لا تزال غير كافية، حيث ما زالت باقي أراضي أجدادهم مصادرة من قبل الحكومة، ولا يزال القرار رقم 444 ساريًا.

ولا توجد أرقام رسمية تحصي أعدادًا دقيقة للنوبيين في مصر، لكن يؤمن النشطاء النوبيون أنّ أعدادهم في مصر قد تبلغ بضعة ملايين في بلد تعدادها السكاني 90 مليون، وهو بالطبع أكبر بكثير من الأرقام التي أعلنها «السيسي».

العنصرية والتمييز

ولا يستمر الشباب النوبي بالاتصال بقضيتهم فقط من خلال أسرهم وثقافتهم، بل من خلال التمييز المستمر الذي يواجهونه بشكلٍ يومي، الأمر الذي يجعلهم على صلة دائمة بهويتهم.

وتقول «فاطمة»: «في أي مطار، أتوقع دائمًا سماع عبارات عنصرية، وتكون غير إنسانية بالمرّة. أسمع دائمًا تعليقات مثل، من هو هذا الغراب الذي مرّ بنا؟ هل احترقتِ في الفرن؟ ما هذا الصباح الأسود؟».

وأضافت أنّها تتلقّى كذلك الكثير من التعليقات الجنسية، مثل اعتقاد أنّ «المرأة السوداء» تكون أكثر إمتاعًا في السرير، وفقًا لما قالته «فاطمة».

يدفعها هذا العداء والتمييز لرغبة أكبر في العودة إلى وطنها أكثر من أي شيء.

وقالت: «القاهرة تقتلنا. إنّها تسمّى قاهرة لأنّها تقهر الناس. ليس فقط نحن، لكنّها تقهر كل أهل صعيد مصر، والذين يأتون من الدلتا، وكذلك أهالي سيناء».

لكن على الجانب الآخر، يعتقد «الشوربجي» أنّ التمييز يحدث دون وعي.

وقال: «هم لا يعرفون أنّ هناك مصريين أشقّاء لهم يختلفون معهم في الثقافة والعرق. لم يذع التلفاز أبدًا أغانينا، ولا نرى لون بشرتنا على التلفاز. يوجد تجاهل تام يحيطنا».

وما فعله شباب النوبة في ثورة 25 يناير/كانون الثاني، كان التحدّث عن قضيتهم.

ومن خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ الشباب النوبي طرح القضية النوبية كشأن عام لكل المصريين، ولا يخص النوبيين فقط، بحسب ما قالته «فاطمة». وأثناء التجهيز لاحتجاجاتهم الأخيرة، استخدم النشطاء النوبيون وسم «قافلة العودة النوبية» لرفع الوعي حول قضيتهم، والذي انتشر بشكلٍ فيروسي وتصدّر الاتّجاهات خلال كامل فترة الاحتجاج في نوفمبر/تشرين الثاني.

ونشر أحد مستخدمي تويتر من النوبيين صورة لمنزل نوبي ملوّن في كوم أمبو حيث يعيش النوبيون الآن قائلًا: «هذه هي الحوائط والأبواب التي تعبّر عن البهجة، تخيّل أنّ ساكنيها في خضمّ محنة التهجير ولا يزالون قادرين على السعادة».

وبالنسبة لـ«فاطمة»، كان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والوصول لعموم الشعب المصري، نصرًا هامًا.

وقالت: «قبل ذلك، كنّا نعيش في معزل. وما فعلناه كان بهدف كسر هذا المعزل والخروج منه».

المصدر | ميدل إيست آي

  كلمات مفتاحية

النوبة مصر السيسي قوافل العودة

مصر.. السادات يطالب بالإفراج عن نوبيين محتجزين بالسعودية بسبب السيسي