فيلم «عطر امرأة»..«آل باتشينو» يحارب القبح مجسدا نكهة الحضارة المفتقدة!

الخميس 9 مارس 2017 10:03 ص

تم عرض فيلم «عطر امرأة Scent of a Woman»  في الولايات المتحدة الأمريكية في 23 من ديسمبر/كانون الأول 1992م، تماماً بعد عام إلا 3 أيام على سقوط الاتحاد السوفيتي، وفق إعلان رئيسه «ميخائيل غوربتشوف» في 26 من ديسمبر/كانون الأول 1991م، وبالتالي حق الجمهوريات السابقة المُدمجة من قبل فيه في الانفصال.

 وخلال عام، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، كان الفيلم الذي نتعرض إليه في تقريرنا الليلة يختمر، كقصة لـ«توماس نيومان»، وسيناريو لـ«يو غولدمان»، وإخراج وإنتاج لـ«مارتن بروست» في 157 دقيقة ملحمية من الظهور شبه المتواصل للممثل الأمريكي ذي الأصول الصقلية الإيطالية «آل باتشينو»، حتى إننا في الفيلم كله يمكن أن نعد المشاهد التي غاب عنها على أصابع اليدين، وكانت تُمهد لحضوره ليس إلا!

كان الفيلم رسالة تحذير شديدة اللهجة عن وشيك انهيار الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يلزمه بعض الوقت، إن لم يتم تداركه؛ كما انهار العدو الذي اتخذته لنفسها لعدة عقود، وما تزال هذه القراءة هي الوحيدة الرائقة المكتملة للمُشاهد للفيلم حتى بعد الخطو إلى العام الخامس والعشرين من إنتاجه.

حصل «آل باتشينو» عن دوره في الفيلم على جائزة أفضل ممثل في «أوسكار» 1993م للمرة الاولى والوحيدة في حياته، وكاد ظهور يطغي على جميع ممثلي الفيلم الذي ظهروا ككومبارس يجرون من خلفه، وعلى أفضل تقدير جوقة إلى جواره، لولا اجتهاد الممثل الصغير السن آنذاك «غريس أدونيل»، وكثرة البروفات للمشهد الواحد لما استطاع أن يلاحق «آل باتشينو» في مشاهد كانت تتطلب ذلك، واجتهد «أدونيل» كثيراً محاولاً التواجد حذاء «آل باتشينو» فنجح إلا قليلاً.

معنى الوجود

الفيلم استغني عن الأكشن الأمريكي المعتاد، وأحياناً عن الخروج من جدران فندق في نيويورك، ونيو جيرسي، وكلية «بيرد» لإعداد القادة تحديداً، وملهى ليلي، ليُضفر ملحمة من ملاحم الانتصار للإنسانية في وجود اليوم، لم تحتج الملحمة إلى مشاهد خارجية طويلة، لولا مشهد قيادة البطل الكفيف لسيارة (فيراري) في شوارع نيويورك.

تضافرت الموسيقى التصويرية شبه العسكرية، الصاخبة العالية الممزوجة بعلو الوتريات باعثة الشك في نفس المشاهد، وهي لـ«توماس نيومان»، مع التصوير المُتحفز دائماً لخداع المُشاهد لإيهامه أن «آل باتشينو الكفيف، يراقص فتاة جميلة (تانغو)، ويقود سيارة حديثة بسرعة في مدينة مكتظة بالسكان، ويقنع شرطياً مع أغلب ممثلي الفيلم أنه مُبصر مثلهم، فيما حافظ «آل باتشينو» على نجوميته الساحقة، ليظهر الكفيف الذي يعيب ويلقي الدورس على جميع المُبصرين، فيما هو شخص وقح في الحقيقة ليس إلا..!

العميد المُتقاعد الأمريكي «فرانك سلاد» (آل باتشينو)، والشاب المُعدم «شارلي سيمز» (غريس أودنيل)، يلتقيان وهما طرفا نقيض في الواقع، فالكولونيل لا يكتفي من شرب الخمر والاستهتار، ومسايرة العسكرية الأمريكية، التي هي فرع للحياة في الولايات المتحدة، لا تعرف الاستقامة، ولا الضمير، وإنما الوجود بالنسبة لهما (الحياة والعسكرية) عبارة عن مباراة في التزييف، والبريق، والاستحواذ على الداخل والخارج عبر شبكة مخابرات قوية تتلاعب بالدول من بروكسل عاصمة الاتحاد الأوربي، ومن قبل بلجيكا، حتى ألمانيا ولو بعد سقوط برلين.

اللون الأبيض لا مكان له لدى البطل الكفيف البصر إثر انفجار قنبلة أودت بنور عينيه لتدريبه مجموعة من الجنود وهو سكران، وبعد طرده من الجيش عانى من ضعف البصر ليفقده قبل 6 أشهر من بداية الفيلم، ليصبح عرضة للانتقاد الدائم من حفيديه لابنته «فرانسين» و«ويلي»، وبالتالي كرهه لابنته وزوجها، والحياة بأجمعها، فقد قلّد سياسة بلاده في العمل الداخلي بلا أمانة، ومصادقة رجال المخابرات الألمان حتى بعد سقوط سور برلين (في 9 من نوفمبر/تشرين الثاني 1989م)، وهل سقوط السور يمنع عمل المخابرات؟، ولكن السياسة الأمريكية أعطته روحها فأصيب بالعمى التام المخزي ليُراجع مع نفسه حقيقة وجوده وبلاده ليجدهما شيئاً مُخزياً يستحق الانتحار والسقوط، فهو رغم كونه كالخفاش الأعمي أفضل من الطوربيدات الأمريكية، وكلاهما يستحق العدم لديه.

أما الشاب القادم من الشمال الغربي للبلاد، (نيو إنجلاند)، أو (فيرمونت) تحديداً، فهو يدرس في كلية «بيرد» الأمريكية التي أنشئت في 1771م على يد أحد المؤسسين الأوائل، وأكمل تعليمه عبرها اثنان من رؤوساء أمريكا، بالإضافة إلى الملك الأردني، وآخرون في مختلف أرجاء العالم، و«سيمز»، فتى على  النقيض من الكولونيل الكفيف المتقاعد، فتى كصفحة نقية لا يعرف الخيانة، ولا الكذب أو النفاق، وتقوده قدماه عبر مكتب للتوظيف إلى عالم العميد المتقاعد «سلاد» الفاسد المعدوم الضمير، لأنه يريد مرافقته في عطلة (عيد الشكر) ليجد مالاً يذهب به إلى أمه، وهو الفقير المعدم الذي يتقوت ويعيش على إعانة ومنحة.

نهاية وبداية

«سلاد» العسكري (آل باتشينو) ادخر مبلغاً من منحة التقاعد والعمى برأيه، يريد إنفاقه في نيويورك بصحبة «سيمز ثم إطلاق الرصاص من مسدسه الرسمي على نفسه، وقد حصل على الأخير بالرشوة، و«سيمز» الشاب يعاني من مشاهدته 4 من رفاقه الأغنياء يتحرشون بمدير الكلية في غير حضور غيرهم، ولا رؤية المدير لهم، ولأنهم أغنياء وهو فقير، يتحرش المدير به مع أنه مجرد شاهد، ويؤلبه على المجرمين لكن ضميره يرفض الوشاية بهم، لذلك فإنه صبيحة ثاني يوم (عيد الشكر) مهدد بالفصل من الكلية والإقامة المجانية والإقصاء من العالم الذي يعرفه ويجيده ويقيم فيه إلى الفشل، فأمه وزوجها مجرد تاجرين في بقالة صغيرة، بعد فرار أبيه، وهو يرفض خيانة زملائه رغم وعود مدير الكلية له بإكمال تعليمه العالي في جامعة «هارفارد».

ولكن «سلاد» يحاول تعليمه أن العالم ما هو إلا أكذوبة كبلاده، وأنه لا مكان للضمير فيه، وأن الحياة طاولة مفاوضات، ولما يفشل في إقناعه، يسبه ويسحب مسدسه يريد الانتحار بعد ارتداء رمز الحضارة الأمريكية بذلته العسكرية بالنياشين، ويتمسك به «سلاد» ليقول له:

ـ اقتلني معك!

وعبر حوار من أروع ما قدم «آل باتشينو» يسأل الكولونيل الكفيف «سلاد» الشاب حول سبب واحد لبقائه في العالم، وهو يعيش في الظلام فيقول له «سيمز»:

ـ لتراقص امرأة جميلة وتقود (الفيراري) في الشارع المزدحم!

وكان الكفيف قد نجح فيهما، والمرأة لديه، حال غياب المبادىء والقيم الحضارية وسيلة لنسيان هموم وآلام العالم.. ليضيف «سلاد»:

ـ ولكي أدافع عنك وأتبناك ..فإنك ميت بدوني!

هذا المشهد المحوري في الفيلم أبكى «كريس أدونيل» حقيقة، وجعله يرتجف بين يدي «سلاد» أو «آل باتشينو» ليقدم درساً في محاولة التمسك بالحياة حتى وإن بدت، إلى حين، عبثية مُنعدمة القيمة لدى أبطالها، وإن توالت المحن عليهم وكادت تذهب بعقولهم، فنور الامل قادم في الحياة!

فرع وأصل الشجرة

ويوم محاكمة «سيمز» يُفاجىء «سلاد» الجميع بالحضور ببصره الكفيف ليقف إلى جوار الشاب «سيمز» قائلاً إنه لا جدوى من كلية عسكرية تريد من أحد طلابها لفقره أن يشي بزملائه، ولأن الشجرة تسقط، كذلك يفعل الفرع، الولايات المتحدة والمدرسة، وأنه يتمنى لو كان بنبل الطالب الصغير السن ولو كانت بلاده كذلك.

وبعد أن يأتي له بالبراءة من هيئة المحلفين على حساب الجناة الأغنياء يلتقي بأستاذة العلوم السياسية التي سيحبها، وتبقى معه، على النقيض من العاهرات المدفوعات الأجر اللواتي فارقنه، ويُصالح حفيديه الصغار، في إشارة إلى استمرار الحياة.

كثف الفيلم من الانهيار الخارجي للبلاد عبر روح الوطنية المفتقدة، والداخلي عبر افتقاد الحميمية والعلاقات الأسرية عبر مشهد طويل مباشر يزور فيه «سلاد» أخاه «ويلي»، فيكاد يقتل ابنه لما تحرش به، وبقدر ما ظهر بطلا الفيلم مُحملين بالشقاء الاجتماعي بقدر ما نجحا في النهاية في تخطيه معاً بلا رصاص أو عقوبة بالحرمان من إكمال التعليم، وجاء قرار براءة الشاب «سيمز» إيذاناً بأن هناك عدل مرتقب في هذا العالم!

المصدر | الخـــليج الجــــــــديد

  كلمات مفتاحية

عطر امرأة آل باتشينو روح الحضارة القبح