الاستفتاء الدستوري.. هل هو بداية جمهورية جديدة في تركيا؟

الأربعاء 19 أبريل 2017 10:04 ص

في 20 يناير/كانون الثاني من عام 1921، القانون الأساسي بتركيا. ولم تمضِ أكثر من ثلاث أعوام حتى قام مصطفى كمال، المعروف بأتاتورك، بإعلان جمهورية تركيا، لكنّ التشريع كان سمة حاسمة للنظام الجديد الذي يتشكل في الأناضول.

وتم تنظيم البلد الجديد الذي يدعى تركيا، على عكس الإمبراطورية العثمانية، على أسسٍ حديثة. وقرر أن تديره فروع تنفيذية وتشريعية، فضلًا عن مجلس وزراء يتألف من ممثلين منتخبين للبرلمان. وما كان في السابق سلطة السلطان، الذي يحكم وحده مع شرعية سياسية ودينية، وضعت في أيدي المشرعين.

وسواءً فهموا ذلك أم لا، عندما صوت الأتراك بـ «نعم»، كانوا حينها يسجلون معارضتهم للقانون الأساسي ونسخة الحداثة التي كان يتصورها أتاتورك ويمثلها. وعلى الرغم من أنّ المعارضة لا تزال رافضة لنتائج التصويت النهائية، يبدو أنّ الشعب التركي قد أعطى أردوغان وحزب العدالة والتنمية رخصة لإعادة تنظيم الدولة التركية، وهدم القيم التي بنيت عليها. وحتى وإن كانت معنوياتهم ضعيفة بعد هزيمتهم، إلا أنّ مشروع «أردوغان» سيلقى الكثير من المقاومة بين مختلف الرفض.

وقد أعاد الإسلاميون في تركيا الافتخار بالفترة العثمانية. وبقيامهم بذلك، قد أعربوا ضمنًا عن ازدراءٍ مبطن للجمهورية التركية. وبالنسبة إلى «نجم الدين أربكان»، الذي قاد الحركة الإسلامية من أواخر الستينيات إلى وقت ظهور حزب العدالة والتنمية في أغسطس/آب عام 2001، كانت الجمهورية تمثل التخلّي عن الهوية الثقافية لصالح العلمانية القمعية، وخدمة معتقدات وأفكار أتاتورك الخاطئة في السعي لتغريب البلاد لتكون أكثر قبولًا لدى الغرب. وبدلًا من ذلك، رأى أنّ المكان الطبيعي لتركيا ليس في مقر الناتو في بروكسل بل كزعيم للعالم الإسلامي الذي يجب أن يكون حلفاؤه باكستان وماليزيا ومصر وإيران وإندونيسيا.

عندما انفصل عنه تلاميذه ومن بينهم «أردوغان» والرئيس السابق «عبد الله غول»، وأنشئوا حزب العدالة والتنمية، تخلوْا عن خطاب الحرس القديم المناهض للغرب، والتزموا بإنجاز ترشح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، وقدموا أنفسهم بوعي في صورة النظير الإسلامي للديمقراطيات المسيحية في أوروبا. ومع ذلك، فقد احتفظوا بالأفكار الإسلامية التقليدية حول دور تركيا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع.

وقد أثار المفكرون في حزب العدالة والتنمية، ولاسيما رئيس الوزراء السابق «أحمد داود أوغلو»، تحفظاتٍ حول مدى توافق المؤسسات السياسية والاجتماعية الغربية مع مجتمعهم الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي. لكنّ قيادة حزب العدالة والتنمية لم تتصرف أبدًا بناءً على هذه الفكرة، بل اختارت بدلًا من ذلك تقويض جوانب إرث أتاتورك في إطار الجمهورية. لكن لم يعد هذا هو الحال.

ويرى حزب العدالة والتنمية ومؤيدو التصويت بـ «نعم» أنّ الانتقادات الموجهة للتعديلات الدستورية غير عادلة. ويؤكدون على أنّ التغييرات لا تقوض البرلمان المنتخب شعبيًا والرئيس، فضلًا عن القضاء المستقل. وهذا صحيح تمامًا، لكنّه يعد أيضًا وصفًا ضيقًا للغاية للنظام السياسي الذي يتصوره «أردوغان». بل إنّ السلطات التي ستُمنَح للرئاسة التنفيذية واسعة، بما في ذلك القدرة على تعيين قضاة دون تدخل من البرلمان، وإصدار مراسيم لها قوة القانون، وحل البرلمان. وسيكون للرئيس أيضًا الحق الوحيد في جميع التعيينات العليا في الحكومة وممارسة السيطرة الحصرية على القوات المسلحة. وتلغي التعديلات الحاجة إلى منصب رئيس الوزراء، الذي سيُلغَى. ويحتفظ البرلمان ببعض الصلاحيات الرقابية والتشريعية، ولكن إذا كان الرئيس والأغلبية من نفس الحزب السياسي، فإنّ سلطة الرئاسة ستكون غير مقيدة. وتبين اليوم أنّ «أردوغان»، الذي سيمارس سلطة لم تخول للقادة الأتراك منذ عهد السلاطين، هو في الواقع عثمانيٌ جديد.

رؤية أردوغان

وساعد طموح «أردوغان» على دفع تركيا إلى هذه النقطة. ولكن على عكس صورة الرجل الذي يسعى إلى السلطة من أجل السلطة، فإنّ للرئيس التركي في الواقع رؤية لتحويل تركيا إلى نظامٍ تكون فيه البلاد أكثر ازدهارًا وأكثر قوة، وأكثر إسلامية، الأمر الذي يعني أنّ القيم المحافظة والدينية ستشكل سلوك وتطلعات الأتراك في طريقتهم في الحياة.

والمشكلة هنا هي أنّ «أردوغان» مقتنعٌ بأنّه هو الوحيد الذي يتمتع بالمهارات السياسية والأخلاقية والمكانة اللازمة للقيام بذلك. وبالتالي، فإنه يحتاج إلى قيادة الدولة والساحة السياسية بطرق لم تتح أبدً للرؤساء الأتراك، الذين من المفترض تقليديًا أنّهم كانوا رمزًا للبلاد خارج ساحة المعركة السياسية.

وبالنسبة لجميع النجاحات السياسية التي حققها «أردوغان»، كانت محاولات التحول إلى «النظام الرئاسي» الذي يسعى إليه مليئةً بالإحباطات حتى الآن. وفي أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، أعلن أنّ تركيا سيكون لها دستورٌ جديدٌ في غضون عام. وبحلول عام 2013، كانت اللجنة البرلمانية المشتركة بين الأحزاب، والمكلفة بكتابة الوثيقة الجديدة، في طريقٍ مسدود، لذلك وضع «أردوغان» نصب عينيه على دستور جديد والذي كتبه حزب العدالة والتنمية. بيد أنّه من أجل الحصول عليه، كان بحاجة إلى تعزيز أغلبية البرلمان. وعندما لم يحصل في الانتخابات العامة عام 2015 على 367 مقعدًا (من أصل 550) والذي يحتاج إليهم لكتابة الدستور والتصديق عليه دون تدخل الجمهور، أُجبِر الرئيس التركي على إخضاع التعديلات الدستورية لاستفتاء يوم الأحد.

وبغية تعزيز الدعم للنظام الرئاسي، أثار «أردوغان» شبح عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في التسعينات وأوائل الألفية الثانية، عندما أثبتت سلسلة من الحكومات الائتلافية أنّها فاسدة وغير كفؤة لإدارة تحديات تركيا. ويعتبر العديد من الأتراك تلك الحقبة، حقيقةً، كانت أعوامًا من الفرص الضائعة ويفضلون عدم تكرارها. وأضافت موجة الهجمات الإرهابية من قبل المتمردين الأكراد، والذين قتلوا العشرات بين صيف عام 2015 وأواخر عام 2016، أسبابًا تعزز رسالة «أردوغان» حول الحكمة من وجود نظامٍ رئاسيٍ بحت.

أجندة تحولية

ولا ينبغي أن يكون مفاجئًا أنّ «أردوغان» قد سعى حثيثًا وراء تلك التعديلات الدستورية. فهو بالفعل يمارس بعضًا من السلطات التي تخولها التعديلات من قبل الاستفتاء. وكان يسعى لإضفاء الشرعية على تلك الممارسات. ولكن لماذا؟

إلى جانب حقيقة أنّ السلطويين يرغبون في وضع ممارساتهم غير الديمقراطية في إطارٍ من النظم القانونية، يحتاج «أردوغان» إلى الغطاء القانوني لمتابعة أجندته التحولية الأوسع نطاقًا. ويبدو أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكنه تحقيق ذلك بها هو أن يتحول بنفسه إلى ما يقارب السلطان.

يستوحي «أردوغان» سلطته من التاريخ العثماني، وهناك جوانب من حكمه تعد صدىً لتلك الحقبة. وبما أنّ الرئيس التركي قد حان له الاعتماد على مجموعة أصغر وأصغر من المستشارين، بمن فيهم أفراد أسرته، فإنّ القصر الرئاسي في أنقرة، الذي بني على أرضٍ مملوكة لأتاتورك، أصبح يشبه قصور السلاطين العثمانيين، ولا نعني هنا مجرد العظمة. ومع ذلك، فإنّ جهوده لتأمين النظام الرئاسي تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. يريد «أردوغان» هدم الجمهورية، لأنّه قد عاني هو وكل الشعب الذي يمثله على أيدي أولئك الذين قادوا إليها ودافعوا عنها. وسيكون من غير العملي بل والمستحيل إعادة إنشاء الهياكل الحاكمة للدولة العثمانية، لكن في الخيال التركي الإسلامي، لم يكن عصر العثمانيين لم يكن يمثل فقط ثقافة أبوية تركية سلطوية، بل كان عصرًا للتسامح والتقدم. وبالنسبة لدائرة «أردوغان» الأساسية، كان عصر حزب العدالة والتنمية، على وجه الخصوص، حقبةً ذهبية، ويعد اليوم هو المثال الحديث لذلك الماضي المجيد.

ويتمتع الأتراك المتدينون والطبقة الوسطى الآن من الحريات الشخصية والسياسية التي حرموا منها في السابق. كما أصبحوا يتمتعون أيضًا بحركة اقتصادية واجتماعية صاعدة. ومن خلال منح «أردوغان» النظام الرئاسي الذي كان يطمع فيه ويطمح إليه، فإنّهم يتطلعون إلى تحقيق إنجازاتٍ أكبر. وبالطبع هناك الملايين من الأتراك الذين صوتوا بـ «لا»، وهم هؤلاء الذين يخشون من توطيد الاستبداد، وأولئك الذين يعتبرون الجمهورية والأفكار الكمالية التي تمثلها مقدسة.

إنّ للجمهورية التركية تاريخٌ معقد لا يمكن إنكاره. لقد حققت إنجازًا هائلًا. ففي غضون قرنٍ من الزمان تقريبًا، تحولت من مجتمعٍ زراعيٍ إلى حدٍ كبير دمرته الحرب إلى قوةٍ مزدهرةٍ تمارس نفوذًا في منطقتها وخارجها. وفي الوقت نفسه، كان تاريخ تركيا الحديث أيضًا عامرًا بالأحداث غير الديمقراطية وأحيانًا العنيفة. ومن ثم فإنّه يمثّل سعي «أردوغان» إلى تحول تركيا عن طريق تمكين النظام الرئاسي، وبالتالي إغلاق الباب مرة واحدة وإلى الأبد أمام إمكانية أن يكون الناس مثله ضحايا للجمهورية.

ربما كانت الجمهورية التركية دائمًا معيبة وبها خلل، لكنّها كانت تتطلع دائمًا، على خلفية المبادئ التي دعت إليها الدساتير المتعاقبة، أن تصبح ديمقراطية، ولكن تركيا الجديدة التي يسعى إليها «أردوغان» تسير في اتجاه مختلف تماما عن تركيا أتاتورك وهي أقرب إلى النمط السلطاني العثماني منها إلى الجمهوريات العلمانية الحديثة.

المصدر | ستيفن كوك - فورين بوليسي

  كلمات مفتاحية

استفتاء تركيا أردوغان أتاتورك