«غبار الخليج».. ماذا وراء المقاطعة الخليجية الكبرى؟

الأربعاء 14 يونيو 2017 12:06 م

بالرغم من القواسم الدينية والثقافية والتاريخية بين الأنظمة الملكية لشبه الجزيرة العربية، كانت العلاقات بين حكوماتها مشحونة بشكلٍ ملحوظ. وتعود الأزمة الأحدث إلى ما ورد من تصريحات مزعومة لأمير قطر، «تميم بن حمد آل ثاني»، خلال حضوره حفل تخرجٍ عسكري، في 23 مايو/أيار. وفي وقتٍ لاحقٍ من ذلك اليوم، أفادت وكالة أنباء قطر الرسمية أنّ «تميم» ألقى خطابًا في المراسم، ذكر فيه التوترات بين قطر والولايات المتحدة، وتساءل عن المدة التي سيبقى فيها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» في السلطة، وقال أنّ حماس هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وأكد مجددًا دعم قطر لجماعة الإخوان المسلمين، وأشار إلى علاقات قطر الطيبة مع (إسرائيل). وبعد ذلك بساعاتٍ قليلة، نشر حساب الوكالة على موقع «تويتر» على شبكة الإنترنت ثلاثة تغريدات تعلن عن اكتشاف مؤامرة من قبل البحرين ومصر والكويت والسعودية والإمارات لتشويه سمعة قطر. وقالت أنّ قطر في سبيلها لسحب سفرائها من تلك الدول.

ونفى المسؤولون القطريون صحة تلك التقارير، فلم يكن «تميم» تحدث حتى في حفل التخرج. وقالوا أنّ وكالة أنباء بلادهم كانت ضحية اختراق إلكتروني مدبر بعناية.

ولم يمنع إنكار الدوحة الافتراء الإقليمي الذي أعقب ذلك. كما لم تسفر نتائج التحقيق الذي أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالي، بعد أسبوعين، والذي أفاد بمسؤولية قراصنة روس عن الاختراق عن منع هذا الافتراء. وظهرت أكثر من اثنتي عشرة افتتاحية ومقالا في الصحف السعودية والإماراتية تندد بالسياسة الخارجية الخاطئة لقطر، والتي تتعارض مع تفضيلات الرياض وأبوظبي.

وانضمت مصر إلى أقرب جيران قطر، السعودية والبحرين والإمارات، في قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة وطالبت القطريين بالعودة إلى ديارهم في غضون أسبوعين. كما فرضت البلدان حصارًا جويًا وبحريًا وبريًا على قطر، وكان عقابًا طائشًا، لأنّ قطر تعتمد اعتمادًا كبيرًا على حدودها البرية مع السعودية وعلى ميناء جبل علي في دبي للواردات، وخاصةً الواردات من المواد الغذائية الطازجة ومواد البناء.

وعلى الرغم من أنّ الممالك الخليجية الأخرى لم تلتفت لإعلانات الدوحة حول القرصنة التي تعرضت لها وكالة قنا، لا توجد لقطات من تحدث تميم في الحفل العسكري، ولا يتحدث تميم عادةً في مثل هذه الأحداث. وفي حين أنّه من الممكن تصور أن يعطي «تميم» بعض التصريحات حول الدعم القطري الكبير لحركة حماس، فإنّه يبدو من غير المحتمل أن يتحدث عن علاقاتٍ طيبة لقطر مع (إسرائيل)، أو أن يعترف علنًا ​​بأنّ قطر لها علاقات ضعيفة مع الولايات المتحدة، نظرًا لتكلفة القيام بذلك.

وبغض النظر عما إذا كان قد أدلى بها بالفعل، فإنّ العديد من التعليقات التي ذُكرت على لسان «تميم» يمكن تصديقها، لأنّها ليست بعيدة عن سياسة قطر الخارجية. والمشكلة هي أنّه كان من المفترض أن تكون قطر قد تركت هذه السياسات عام 2014، خلال آخر أزمة بين دول الخليج. ولأنّ «تميم» بدا وكأنّه قد أعرب عن ما كان يمكن للمسؤولين في الدوحة التفكير فيه بشكلٍ خاص، عاد النزاع الذي طال أمده بين قطر وجيرانها إلى الظهور.

إذا لم تنجح في المرة الأولى

تعود جذور النزاع الحالي إلى ما لا يقل عن ثلاثة عقود، إلى الأعوام التي تلت عام 1971، عندما حصلت قطر على استقلالها عن المملكة المتحدة. وقد تولى «خليفة بن حمد آل ثاني»، جد أمير البلاد الحالي، السلطة في غضون ستة أشهر من الاستقلال. وقد قام بتحديث اقتصاد قطر، وزيادة المعاشات التقاعدية، وتعزيز العمل للسكان المحليين. وفي مجال السياسة الخارجية، اتبع بهدوء قيادة المملكة العربية السعودية. وهذا ما يتناسب مع نمطٍ طويل الأمد، اعتبرت فيه السعودية تاريخيًا قطر، التي هي اليوم موطنًا لحوالي 300 ألف قطري، ولاية تابعة لها.

وفقد الحكام السعوديون إحكام هذه الفكرة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، حيث صعد ابن خليفة، «حمد بن خليفة آل ثاني» إلى السلطة. ورفض الشاب «حمد» دور السعودية المهيمن، وسعى بدلًا من ذلك إلى صياغة سياسة خارجية مستقلة تقوم قطر بموجبها بتنويع علاقاتها مع الدول الأخرى. ومن خلال تحسين علاقات قطر مع إيران في مقابل اعتراضات الرياض، عجل «حمد» بعصرٍ من العلاقات السيئة بين قطر وجارتها الأكبر، التي شهدت، من بين نزاعاتٍ أخرى، سلسلة من المناوشات الحدودية في أوائل التسعينات. وعندما أخذ «حمد» في النهاية السلطة من والده في انقلابٍ سلميٍ عام 1995، زعم أنّ السعودية قد دعمت محاولة انقلاب لاستعادة «خليفة»، لكنّها فشلت.

وفي عام 1996، أنشأت قطر قناة الجزيرة الإخبارية. وتخطت الكثير من المحظورات القائمة، وأجرت المقابلات مع المعارضين، وانتقدت النخب الإقليمية. وكانت السعودية هدفًا خاصًا في التسعينات والعقد الأول من هذا القرن. كما شاهد عشرات الملايين من المواطنين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر قناة الجزيرة انتقادات حكامهم. وفي عام 1999، أغلقت الحكومة الجزائرية القناة في أجزاء من العاصمة، الجزائر، لمنع الناس من مشاهدة مقابلات القناة مع أحد الدبلوماسيين المنفيين.

وبحلول عام 2002، كانت السعودية قد اكتفت من الأمر. وفي ذلك العام، سحبت سفيرها من قطر لإجبار البلاد على العودة إلى الوراء. وعاد الدبلوماسيون السعوديون إلى قطر من جديد عام 2008، بشرط أن تحد قطر من تغطية الجزيرة للسعودية.

حاول وحاول من جديد

ومع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2010، شهدت السياسة الخارجية القطرية تحولًا. فلم تعد الدوحة تبحث عن دورٍ كنوعٍ من الحكم المحايد الذي له صلات بمعظم أطراف النزاعات المختلفة في الشرق الأوسط. وبدلًا من ذلك، اختارت تفضيلاتها الخاصة وتدخلت نيابةً عنها.

وأرادت النخب القطرية دعم الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الاستبدادية الراسخة في مصر وليبيا وسوريا وتونس. لكنّ وزارة الخارجية في الدوحة كانت شابة وقليلة الخبرة، وهيمن عليها وزير الخارجية. لذلك تحولت نخبة قطر إلى مجموعة من المنفيين العرب الذين انتقلوا إلى الدوحة على مدى عقود، وكثير منهم من الإسلاميين.

ولم يحصل المسؤولون القطريون أي عائدٍ من وراء دعم جماعة مثل جماعة الإخوان المسلمين. ولكن الدوحة اعتبرت أنّ معظم أعضاء تلك المنظمة معتدلون. وعلاوة على ذلك، كانت الإخوان منتشرة في مجموعة واسعة من الأقاليم، وفي بداية الربيع العربي، بدا أن وقتها قد حان، وبدا أنّ دعم الإخوان المسلمين كان خيارًا مدروسًا. وفي الوقت نفسه، بدأت قطر تطوير علاقاتها مع جماعات أكثر أخرى، مثل حماس في فلسطين، وجبهة النصرة في سوريا. وأضرت هذه العلاقات بوضع قطر الدولي رغم أنها نجحت قطر في شهر مايو/أيار عام 2017، في إقناع حماس بتخفيف موقفها من السلام مع (إسرائيل)، وفي يوليو 2016، كان لها دورٌ في إقناع جبهة النصرة بإنهاء انتمائها الرسمي للقاعدة.

وكان المسؤولون في الإمارات والسعودية يشعرون منذ فترة طويلة بالقلق إزاء تصاعد الإسلام السياسي، خوفًا من أن يؤدي تمكين هذه الجماعات إلى تقويض أمنهم وأمن حلفائهم. ولم يثر الربيع العربي سوى المزيد من مخاوفهم.

ولذلك، عندما تنحى «حمد بن خليفة» عام 2013 لصالح ابنه «تميم بن حمد آل ثاني»، رأت السعودية والإمارات فرصة أخرى للضغط على قطر للتغيير. وفي أوائل عام 2014، سحبت الدولتان سفراءهما من الدوحة، كما فعلت البحرين. وفي جميع أنحاء الخليج، دعت وسائل الإعلام المتعاطفة مع السعوديين إلى مزيد من التصعيد، من إغلاق حدود قطر مع السعودية إلى منع الخطوط الجوية القطرية من التحليق عبر المجال الجوي السعودي.

وبحلول نوفمبر/تشرين الأول من ذلك العام، كانت قطر قد وافقت على مجموعة من المطالب، بما في ذلك كبح دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، حيث غادر عدة أعضاء رفيعي المستوى من الجماعة الدوحة. ولكن لم يحدث تغيير جوهري في السياسة الخارجية الأوسع نطاقًا في قطر، لأنّ قطر لم ترغب في التخلي عن الاتصالات التي استثمرت فيها منذ عقود. ولا يمكن لأمير البلاد الجديد أن يسمح لنفسه بالتخلي عن المواقف طويلة الأمد بعد فترة وجيزة من تولي السلطة، على الرغم من أنّ توفير قطر للقوات والمعدات العسكرية للحرب التي قادها السعوديون والإماراتيون في اليمن عام 2015 الذي بدا وكأنّه يبشر بخطٍ جديد من قبل الدوحة.

الثالثة ثابتة؟

وليس من الواضح لماذا تحولت الأنظمة الخليجية بسرعة إلى الضغط بهذا الشكل وفي هذا الوقت. هل كان رد فعلهم نتيجة للتطورات الأخيرة أم كان استجابةً لفشل قطر في تنفيذ مطالب عام 2014؟ وقد اندلع النزاع الأخير بعد وقتٍ وجيز من أول رحلةٍ خارجية لـ«ترامب». وعلى خلاف أي رئيسٍ سبقه، جعل «ترامب» السعودية أول محطةٍ له. ولم تكن السعودية لتسعد بأفضل من تلك الزيارة بعد العلاقات المتوترة مع «باراك أوباما». وجاء خطاب «ترامب» أمام القادة العرب في الرياض داعمًا إلى أقصى الحدود للسياسة السعودية. وشعرت المملكة والإمارات بهذا التشجيع.

وفي الوقت نفسه، تُعرف قطر في الدوائر السياسية في واشنطن بأنّها شريكٌ أقل موثوقية كونها موطن قناة الجزيرة (التي غالبًا ما تنتقد السياسة الأمريكية)، وهي راعية الإخوان المسلمين (التي يعارضها العديد من المراقبين الأمريكيين)، وخصوم حكومة الرئيس المصري «عبد الفتاح السيسي» المدعوم من الولايات المتحدة.

بيد أنّه منذ أوائل التسعينات، استضافت البلاد أعدادًا متزايدة من القوات الأمريكية، واشترت كميات متزايدة من المعدات العسكرية الأمريكية. وتعد قاعدة العديد العسكرية مقر القيادة المركزية الأمريكية، جنوب غرب الدوحة، جزءًا أساسيًا من البنية العسكرية الرئيسية في واشنطن. وبسبب حجم وأهمية القاعدة الأمريكية في قطر، سيكون من المستحيل تقريبًا نقلها في أي إطارٍ زمنيٍ معقول. لكنّ ذلك لا يمنع التدخلات الأخرى من جانب الولايات المتحدة. وفي 6 يونيو/حزيران، غرد «ترامب» داعمًا للضغط على قطر، وبعد يومٍ واحد، دعا إلى الهدوء والحوار.

وحتى الآن، أثبتت قطر مرونة واضحة. وقد خفضت وكالتان من وكالات التصنيف تصنيفها الائتماني، لكنّها ما زالت قوية ماليًا. وتعمل موانئ سلطنة عمان في صحار وصلالة كمحطات لنقل البضائع إلى قطر، مما يخفف من بعض الضغوط. وقد زودت تركيا وإيران البلاد بمئات الأطنان من الفواكه والخضراوات ومنتجات الألبان يوميًا. ويعتبر الغاز الطبيعي المسال في قطر أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للدول في جميع أنحاء العالم، من المملكة المتحدة إلى الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، وقد تكون مجموعة جيدة من الحلفاء في حالة تصاعد الوضع.

لكنّ السعودية والإمارات يستندان إلى أعلى مستوى من بسبب علاقاتها مع الولايات المتحدة. ومما لا شك فيه أنّ هذا الخلاف ليس خاليًا من التكاليف بالنسبة للبلدين، مثل الخسائر التجارية، والإضرار بسمعتها عن طريق التضحية بالعقود التجارية الدولية من أجل الخلافات السياسية المحلية. لكنّ قطر ستتضرر أيضا، وفي مرحلةٍ ما، ربما تتعرض خطة الدولة لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022 للخطر، إذا لم تستطع قطر استيراد مواد البناء لإنهاء التحضيرات الخاصة بها.

ولا تستطيع قطر تغيير موقعها. لذلك، يجب أن تجد وسيلة للوصول إلى الهدوء مع أقرب جيرانها الثلاثة. ويجب على الدوحة الوصول إلى نوعٍ من التوافق. لكن لا يمكن لجيران قطر أن يضغطوا علنًا ​​على الدوحة لتغيير سياساتها. ومن المحتمل أن تطالب دول الخليج الأخرى بأن تغلق قطر شبكة قنوات الجزيرة كشرط للمصالحة. لكنّ هذا سيكون مطلبًا صعبًا، ولا تستطيع السعودية والإمارات دفع الدوحة إلى ذلك حتى الآن، إذا ما أُريد للعلاقات أن تعود إلى وضعها الطبيعي. وهما بحاجة إلى السماح لقطر  للخروج من الأزمة بطريقة ملائمة، للتخفيف من حدة التصعيد، تمامًا كما تحتاج قطر لإقناع حلفائها السابقين بأنّها على استعداد بدورها لتقديم بعض التنازلات.

  كلمات مفتاحية

السعودية الإمارات قطر قناة الجزيرة مقاطعة قطر

الأزمة الخليجية والتكلفة الباهظة على مستثمرين سعوديين وموظفين بحرينيين

«ن. تايمز»: المنافسة السعودية القطرية تعيد تشكيل الشرق الأوسط

تعرف على حجم خسائر اقتصاد الإمارات من مقاطعة قطر