«النظام العالمي»: قراءة في أوراق «هنري كيسنجر»

الأحد 28 ديسمبر 2014 04:12 ص

فلنسأل الآن الساسة الغربيين الذين أيدوا قصف سوريا العام الماضي: هل ينبغي معاملة دمشق على أنها حليف ضمني ضد «الدولة الإسلامية»؟. لقد دخل «جون كير»ي في محادثات مع إيران كشريك مُحتمل في تلك الحرب، وفي الوقت نفسه يلتقي «ديفيد كاميرون» الرئيس الإيراني في نيويورك. وأكد الرئيس الأمريكي في الصيف أنه «ليس لدينا استراتيجية» بشأن كيفية منع نشوب حريق هائل في الشرق الأوسط، ولكن في الوقت الذي يحدث فيه تفكيك للعداوات القديمة والتحالفات مع إعادة تشكليها بسرعة عالية، فإننا بحاجة إلى تطوير واحدة وبسرعة.

الشخص الوحيد الذي لم يفتقر أبدًا إلى استراتيجية هو وزير الخارجية الأمريكي السابق «هنري كيسنجر» البالغ من العمر الآن 91عامًا. ومع ذلك؛ فإن كتابه الجديد المدروس بعناية لا يهدف كثيرًا إلى مناصرة سياسات مُحددة من باب إعطاء تصوّر لشكل العالم خلال المائتي عام الماضية أو نحو ذلك مع انعكاسات بشأن الوِجهة خلال الـ 50 عامًا المقبلة.

النظام العالمي

ويغلّف الكتاب جزءًا كبيرًا من الكرة الأرضية؛ متناولاً الهند وأوروبا والصين والشرق الأوسط. ويحتوي الكتاب على أربعة تصورات محددة لهذا «النظام» تجذب اهتمامه بشكل كبير: النظام الأوروبي؛ وتحديدًا نموذج «ويستفاليا» في الدول ذات السيادة مع مكانة متساوية داخل النظام، ونظام إسلامي قائم على فكرة أوسع هي الأمة أو المجتمع، ونظام صيني قائم على الأفكار التقليدية للمملكة الوسطى كقوة إقليمية كُبرى، والنظام الأمريكي الذي وجد هدفًا جديدًا قبل قرن من الزمان تحت إدارة «وودرو ويلسون» ينتهي بهيمنة على جميع أنحاء العالم، ويعيش الآن تحت ضغوط غير مسبوقة.

قد يبدو ذلك مثل فكرة «صموئيل هنتنجتون» التي تحمل عنوان «صراع الحضارات»، ولكنها في الواقع أكثر شبهاً بخليط قوي من البراجماتية الميتيرينشيانية (نسبة إلى سياسي ألماني سابق بارز)، إضافة إلى خلاصة نقد «إدوارد سعيد» لـ«الاستشراق». ويرى «كيسنجر» أنه عندما قال لرئيس مجلس الدولة الصينى «تشو إن لاي» أن الصين بدت غامضة، فقد أشار «تشو» إلى أن الصين لم تكن على الإطلاق غامضة بالنسبة لـ 900 مليون من مواطنيه. وأضاف كيسنجر:«السعي في عصرنا من أجل النظام العالمي سيتطلب تصورات ذات صلة بمجتمعات كانت إلى حد كبير مستقلة بذاتها». وبعبارة أخرى؛ فإن المناحي الثقافية (الحضارية) تشكل منظور المجتمعات إلى العالم، ولكن الثقافة ليست حاجزًا مانعا من تكوين نموذج جديد يجمع بين الأنظمة المختلفة.

 ومن هذا المنطلق؛ فإن هذا الكتاب مناهض تمامًا لكتاب «هنتنجتون» من ناحية أن هذا الكتاب يعترف بالحاجة إلى التعامل مع الحضارات بدلاً من التأكيد على حتمية التصادم بها، كما أنه بعيد عن أطروحة «فرانسيس فوكوياما» الشهيرة عن «نهاية التاريخ» نظرًا لأنه يناقش بقوة أن التاريخ والهوية هما بؤرة إدراك المجتمعات لذاتها اليوم. ويتحدى «كيسنجر» أيضًا منتقديه الذين يتهمونه بتقديم الواقعية فوق كل الاعتبارات الأخرى، وهو الأمر الذي يجيب عليه «كسينجر» ببساطة: «الواقعيون لا يحتكرون القيم الأخلاقية، ومن ثمّ ينبغي على الواقعيين أن يدركوا أن المُثل العليا هي أيضًا جزء من الواقع».

الصين في النظام العالمي

ويستقي الكتاب أفكاره من مجموعة واسعة من الأمثلة التاريخية لتوضيح بعض النقاط حول القضايا الراهنة. وما يبدد أي دهشة عند قراءة الكتاب هو أن «كيسنجر» يقضي وقتًا طويلاً مركزًا على وضع الصين في النظام الدولي، مُسلطًا الضوء على مكانتها المركزية في آسيا بالنسبة للجميع باستثناء قرن مضى أو قرنين.

ويتحدث باستفاضة عن الدور التاريخي للصين في شرق آسيا وكيف ساهمت الهجمات الخارجية على حدود الصين في تشكيل الدور الصيني. وبالتأكيد؛ فقد برز الأساس التاريخي للسلوك الصيني أكثر وضوحاً من أي وقت مضى في السنوات القليلة الماضية، في الوقت الذي أعرب فيه قادة في بكين عن رغبتهم في نفوذ عالمي بارز يقوم على الأفكار القديمة للصين كقوة عُظمى. ومع ذلك؛ فإن هناك الكثير من البراجماتية في السلوك الصيني أيضًا. وتشعر بكين اليوم أن واشنطن ضعيفة، وأن التزامها بالمنطقة محفوف بالمخاطر. ونتيجة لذلك؛ تدعي كل من الصين واليابان الأن أن الطموحات العسكرية للأخرى في المنطقة هي سبب يستدعي تخزين الأسلحة.

ويستخدم «كيسنجر» أطروحة «الثقافة التكيفية» الخاصة به لانتقاد مشروع بناء الأمة لـ«جورج دبليو بوش» في العراق. ويرى أنه كان داعمًا للغزو الأصلي للعراق عام 2003م، ولكنه يعرب عن شكوكه بشأن قيمة رؤية بوش، والتي «ذهبت إلى أبعد ما قد يدعمه الرأي العام الأمريكي وما يستوعبه المجتمع العراقي». وفي النهاية؛ فإن الانسحاب من العراق كان أشبه ما يكون بنظيره في فيتنام ما بين عامي 1973-1975م من حيث نفس النتائج المُخيبة للآمال. وع ذهاب الكتاب نحو الطبع، انهارت حكومة «المالكي»، وتركت العراق على شفا التفكك، بينما تعتمد الحكومة الجديدة بقيادة «حيدر العبادي» على نجاح الضربات الجوية الغربية لتوطيد سلطتها.

إيران بين الأمس واليوم

اتساق المؤلف نفسه مع فتح علاقات مع الصين يعطي مذاقًا أكثر حدّة لوجهات نظره بشأن إيران: إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع أن تتعامل مع قوة إقليمية عظمى تعاني العزلة، فلماذا لا يكون ذلك مع أخرى؟، وعلى الرغم من أنه يعطي وصفًا تفصيليًا ودقيقًا لفهم إيران من خلال تراثها الإمبراطوري الخاص على مر القرون، إلا إنه يقول بشكل لا لبس فيه أن طهران اليوم ليست بكين في عام 1972م. وكانت الصين صاحبة الثورة الثقافية مُعرضة لهجوم من الاتحاد السوفياتي، وبالتالي كانت هناك حاجة لإقامة علاقات صداقة مع الولايات المتحدة لتحقيق التوازن بين أعدائها، «ليس مثل هذا الحافز بديهيًا في العلاقات الإيرانية الغربية».

ولكن التغييرات متعددة الأشكال التي وقعت خلال هذا الصيف ربما غيّرت الوضع فيما يتعلق بإيران، كما أن «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا تشكل تهديدًا لطهران وكذلك إلى الغرب. وعلاوة على ذلك؛ فإن النظام الإيراني – على الرغم من كونه سيئًا - لديه القدرة على التغيير (ويدّل على ذلك انتخاب الرئيس روحاني)، كما لا يُظهر أيضًا أي علامات على الانهيار (على عكس سوريا أو العراق). وقد تعني الواقعية اغتنام الفرصة لإعادة التوجيه في المنطقة والتي لم تكن واضحة حتى قبل فترة وجيزة.

عودة إلى الماضي

ويُوصف الكتاب بأنه «خلاصة تفكير هنري كيسنجر عن التاريخ والاستراتيجية وفن الحكم». وبناءًا على هذا الوصف فما هي إذن النظرة التي تنبثق عن هذه الصفحات؟ ربما يتفق قرّاء هذه الصحيفة مع «كيسنجر» بشأن ممارسة القوة الأمريكية لفرض النتائج التي تفضلها واشنطن؛ وهي وجهة النظر المُعبّر عنها بقوة في محاكمة «كريستوفر هيتشنز» الجدلية لـ «هنري كيسنجر» (2001). ومع ذلك، فقد أصبحت الطبيعة الكلية للقوة الأمريكية أكثر وضوحًا في نصف القرن الماضي، ما كشف عن نقاط القوة والضعف المختلفة فيما يتعلق بالتدخل الدولي. وكان «ليندون جونسون» و«جورج دبليو بوش» ربما أقل الرؤساء كفاءة في التوصل إلى تسوية مع الواقع المحلي في البلدان النامية (في فيتنام والعراق على التوالي)، وكان «رونالد ريجان» الأكثر رغبة في مواجهة الاتحاد السوفياتي، ومع توالي الأيام بنفس تلك الوتيرة السريعة فإنه يبدو الآن أن «ترومان» و«أتشيسون»، و«نيكسون» و«كيسنجر»، و«جورج دبليو بوش» و«جيمس بيكر» كانوا هم الممارسين الأكثر واقعية وتعقلاً.

ويفسر هذا المنظور المتغير سبب توافق الكِتاب مع الحساسيات الليبرالية في الطريقة التي لم تظهر على الأرجح في حقبة السبعينيات. وجهة النظر القائلة بأن نظام الدولي لا يمكن إنشائه ببساطة في صورة غربية أحادية اللون قد تجد مقاومة ضئيلة من اليسار. هناك شوقٌ شديد لحقبة تقوم فيها قوة قهرية من حكومات وأفراد بتغيير مسار العلاقات الدولية (شيء من الصعب القيام به في عصر رأس المال المتقلب والشركات متعددة الجنسيات)، ورسالة التذكير أنه إذا كانت الأنظمة الليبرالية الشاملة لا تخلق نظامًا، فإن هناك الكثير من الأنظمة غير الليبرالية سوف تفعل.

ويتيح لنا الكتاب أيضًا تقييم عهد «كيسنجر» نفسه في الحكومة من منظور تاريخي. ربما يرغب قليلون الآن في التشكيك في حكمة إنهاء عزلة الصين عن العالم بأكمله. ويذكرنا «كيسنجر» بأهمية الحقبة 1972-1973م؛ والتي تعد ذروة السياسة الخارجية لنيكسون (حينما كان كيسنجر مستشار الأمن القومي قبل أن يصبح وزيرًا للخارجية)، ففضلا عن الانفتاح على الصين، شهد هذا العام نهاية الوجود العسكري الأمريكي في فيتنام والانفراجة في أوروبا الشرقية، واتفاقيات السلام في الشرق الأوسط (بعد الحرب العربية الإسرائيلية التي كان يمكن أن تؤدي إلى حريق هائل).

لقد كان هناك بالطبع جوانب أكثر قتامة في تلك الحقبة؛ بما في ذلك قصف معاقل فيتنام الشمالية في كمبوديا التي فاقمت الأزمة الداخلية، بالإضافة إلى الإطاحة بحكومة الليندي في تشيلي. ولكن عندما ننظر إلى حقبة السبعينيات باعتبارها عصر أزمة محلية ودولية، فإنه من اللافت جدًا حجم السياسة الدولية في هذا العِقد التي جاءت في الجانب الايجابي من المعادلة، وكيف تم تفادي أزمة أوسع. ويلاحظ كيسنجر أن «الأسلحة النووية يجب ألا يُسمح بتحوّلها إلى أسلحة تقليدية».

ويبدو أن هذا التصريح غير متوقع حتى بتذكر أن المرشح الجمهوري في عام 1964م لرئاسة الولايات المتحدة كان «باري جولدووتر» الذي كان يؤيد استخدام القنابل النووية في فيتنام. وفي المقابل؛ كانت إداراتا «نيكسون» و«فورد» هما اللتين ناقشتا الحد من الأسلحة الاستراتيجية في محادثات 1969-1972م التي خفضت التوترات النووية في أوروبا.

كان «كيسنجر» المُشكّل الرئيسي للنظام العالمي الذي ظل مستقرًا لمدة ربع قرن أو أكثر حتى عصرنا بعد حقبة الحرب الباردة. هذا الكتاب الذي وُضعت صفحاته وأجزائه مؤخرًا هو حساب دقيق للنظام العالمي على المدى البعيد، كما أنه مذكرة للأجيال القادمة من صناع القرار؛ حيث إن الخمسين عامًا المقبلة لن تكون إداراتها أسهل من الخمسين عامًا الأخيرة.

المصدر | الجارديان

  كلمات مفتاحية

هنري كيسنجر النظام العالمي

كيف تبدو السعودية في رؤية «كيسنجر»؟

ملاحظات كيسنجر والحرب على «داعش»

هنري كيسنجر: إيران خطر جيو- استراتيجي و«داعش» خطر عابر

فاينانشيال تايمز: لا تحرموا اقتصاد العالم من التحفيز المالي

الدول «السبع» وتوازن القوى الجديد

هــل الإرهــاب قضيـة كوكبــية؟

هنري كيسنجر: العالم قريب من اختلال خطير في توازنات القوى