«ديليسبس - السيسي»: لماذا تحتاج قناة السويس اليوم إلى «تأميم» جديد؟

الأربعاء 13 سبتمبر 2017 01:09 ص

يعرف اللاعب «كريستيانو رونالدو» بأشياء كثيرة: أسلوبه الحاسم في كرة القدم، العلامة التجارية الأنيقة والعالمية لريال مدريد. وقد اختارته الشركة المصنعة للصلب المصري «ستيل» مؤخرا في سلسلة من الإعلانات التجارية الباهظة التي تحتفل بدور الشركة في تدشين «جيل جديد» من التنمية الاجتماعية والاقتصادية في مصر.

وفي إحدى الإعلانات المثيرة، يروج «رونالدو» للشركة بلغة عربية معوجة، و يرتدي الزي الموحد للعاملين في قطاع الصلب المصري، الذي يضم مجموعة من المشاريع التطويرية الجارية في عهد الرئيس «عبدالفتاح السيسي»، بما في ذلك «قناة السويس الجديدة» التي تم افتتاحها مع الكثير من الضجة قبل عامين.

وعلى الرغم من أنه من المفارقات ربط رمز عالمي مثل «رونالدو» بمشروع قومي مثل قناة السويس الجديدة، فإن القناة ظهرت منذ زمن طويل في روايات العولمة والتنمية المصرية والأمن والسيادة الإقليمية. وقد بدأت قناة السويس الجديدة (التي هي في الواقع مجرد امتداد لقناة الشحن الحالية) بالكاد في توليد زيادة في حركة المرور والرسوم. ولا يزال يتعين علينا أن نرى ما إذا كانت ستسهم بنجاح في استراتيجية الحكومة الاقتصادية الطويلة الأجل لجذب الاستثمارات الأجنبية والتصدي للبطالة الحادة وتقليص العجز في الموازنة.

وكشف نظام «السيسي» في توسعاته الجارية واستثماراته في منطقة قناة السويس عن مدى مرونة مفاهيمه في الأمن والسيادة المصرية. وقد أتاح إعادة تشكيل منطقة القناة للنظام دعوة الجهات الفاعلة الأجنبية إلى هذا المجال اللوجستي العابر للحدود الوطنية، وحكم الإقليم وفقا لمجموعة متميزة من القوانين. وتقوم النخب الوطنية والعسكرية بتحصين نفسها سياسيا واقتصاديا من خلال هذا الترتيب، في حين يخضع المصريون العاديون للقوة الوحشية للجهاز الأمني.

وبهذه الطرق، تظهر قناة السويس الحقيقة الأوسع السياسة المصرية المعاصرة، حيث تعمل الخطابات القومية للسيادة والأمن على إثراء وحماية أقلية متميزة.

منافسات تاريخية

لم تكن قناة السويس، التي بنيت بين 1859 و 1869، أبدا رمزا لمصر. فقط فعلى حد قول المؤرخ «فاليسكا هوبر»، نشأت القناة «في إطار إمبراطورية غير رسمية ، مع الشركات الأوروبية التي عملت على الاستفادة من ضعف الدول القومية». بدأ بناء القناة في سياق تسريع التجارة في القرن التاسع عشر بين أوروبا وآسيا ، فضلا عن صعود «المسألة الشرقية»، والمنافسة الإمبراطورية بين الدول الأوروبية للسيطرة على أجزاء كبيرة جغرافيا من الإمبراطورية العثمانية الضعيفة.

وكان من شأن سفر البواخر المباشر عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر أن يحد بشكل كبير من الوقت والمخاطر وتكلفة السفر البحري ويسهل التواصل الأكبر بين الإمبراطوريات الأوروبية ومستعمراتها الآسيوية، وكان من شأن ذلك أيضا أن يسمح للتقدم الحضاري المفترض من الجانب الأول بأن يتدفق دون انقطاع إلى هذا الأخير، وفق الرؤية الأوروبية.

ووسط خطط منافسة من قبل السلطات البحرية البريطانية وشركات النقل البحري، اقترح الدبلوماسي الفرنسي «فرديناند ديليسيبس» رسميا مشروع قناة السويس في منتصف 1850وكانت القناة تدر عائدا ماليا كبيرا لشركة ديليسيبس المساهمة، التي كانت تدير قناة الشحن، ولكن كانت فوائدها أقل بكثير بالنسبة للاقتصاد المحلي. ولكن كما أظهر «هوبر» مؤخرا، كانت منطقة القناة أكثر من مجرد رمز لهيمنة الإمبراطورية الأوروبية ولكنها تحولت إلى منطقة من الكيانات السياسية المتنافسة التي ضمت في مطلع القرن العشرين السلطة البريطانية والقنصليات الدولية وقوات الشرطة التابعة للحكومة المصرية المحلية وضباط سفن الشحن الخاصة.

وكانت المراقبة والعنف جزءا لا يتجزأ من حماية هذا الممر، من التهديدات المتصورة للمهاجرين والهاربين وحتى الحجاج الدينيين. وكان الجهاز الأمني والتركيب المؤسسي للقناة خلال هذه الفترة هاما لسببين. أولا، لأنه سلط الضوء على الكيفية التي لا تؤدي بها العولمة بالضرورة إلى حركة حرة وتدفق غير مقيد، وثانيا، لأنه أصبح سابقة تاريخية لتفاعل الأمن والسيادة الذي لا يزال مستمرا في منطقة القناة اليوم.

على امتداد القرن العشرين، ستصبح قناة السويس رمزا لتبعية مصر للهيمنة الإمبريالية، حتى بعد أن انهى البريطانيون الحماية على البلاد في عام 1922. وقعت معارك متكررة على القناة من قبل الجيوش الأجنبية، خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، إضافة إلى القاعدة العسكرية الكبيرة التي احتفظ بها البريطانيون في السويس في الخمسينيات، وسحب التمويل الغربي لمشروع السد العالي في أسوان: كل ذلك شكل خلفية هامة لقرار جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس والسيطرة على القناة نفسها في عام 1956. ومن الواضح أنه خلال إعلانه العام عن التأميم، سلط ناصر الضوء على الإرث المدمر من الازدواجية في الاستثمار الأجنبي في مصر حيث «الاحتلال السياسي مستمر عن طريق الاحتلال الاقتصادي».

وقد أثار الغزو المصري اللاحق من قبل القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية مقاومة شعبية واسعة الانتشار في مدن متعددة على طول القناة، وزاد من أهمية المنطقة في الأيديولوجية المهيمنة في الفترة الناصرية. وكدليل على السيادة المصرية ضد القوى الغربية، كان تأميم أيضا مصدر إلهام للناس عبر العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات.

الصراعات المعاصرة والتناقضات

واليوم، ظهرت علاقة جديدة بين السيادة والأمن في قناة السويس، وذلك بفضل دورها الأساسي في سلسلة التوريد العالمية. ينظر «ديبورا كوين» إلى سلسلة التوريد على أنها «نظام حيوي»، حيث يؤدي أي تعطيل لجزء واحد من مكوناته، سواء عن طريق الاحتجاجات العمالية أو غارات القراصنة البحرية، إلى تهديد سلامة الجميع. ووفقا لما ذكره «كوين»، بسبب ضعف هذه الأماكن، تم توجيه الدول والجهات الفاعلة في الشركات لتصميم «بنية أمنية كاملة تهدف إلى التحكم في التدفق العالمي من خلال الاستيلاء على الأراضي، والأعمال العسكرية، والتجريد من الممتلكات».

وكان ذلك واضحا خلال بناء «قناة السويس الجديدة» التي وصفها مسؤولون حكوميون مرارا بأنها «شريان جديد» حيوي لازدهار مصر وأداء التجارة العالمية. ولإنشاء امتداد القناة، قامت قوات الأمن المصرية بتشريد ما يقرب من 2500 من سكان منطقة التوسع منذ فترة طويلة طويلة دون تعويض، ورفضت منحهم تصاريح للعمل في مشروع البناء. ووفقا لتقرير صدر عن «مدى مصر»، ذكرت الشرطة المحلية «المخاوف الأمنية» كأساس لقرار منع العمل بسسب هواجس الاضطرابات بين العمال الساخطين. وعلى الرغم من أن القوانين المصرية تضمن حق الأسر النازحة فقد تجاهل مسؤولو المشروع ذلك، قائلين إن القانون لا ينطبق هنا لأن الأراضي المصادرة كانت عسكرية ومملوكة للدولة.

ومن الناحية الاسمية، فإن القناة هي أراض مصرية وتحت سيطرة وكالة حكومية وهي هيئة قناة السويس. ولكن كما كان الحال منذ قرن مضى، فإن سلطات الشركات الأجنبية والدول التي تمر عبر القناة تعمل وفقا للديناميات الاقتصادية والتسلسل الجيوسياسي الذي يضعها فوق القانون المصري. فعلى سبيل المثال، بعد أن حظرت اللجنة الفرعية للسفن التجارية استخدام قوات الأمن البحري الخاصة في عام 2011، تسببت ذلك في انخفاض حركة الملاحة في القناة. وردا على ذلك، قامت اللجنة بعكس قرارها، وطلبت، بدلا من ذلك، حصر الأمن على متن السفن المصدقة من الدولة وبالتالي، أدت ضغوط السوق إلى إحباط محاولة من جانب وكالة حكومية لممارسة نوع من السيطرة على قوات الأمن الأجنبية. والأثر الأكبر هنا ليس التراجع عن القرار بل بالأحرى، هو نشوء مساحة من الحوكمة المتخصصة حيث يخضع مختلف الناس لقوانين مختلفة. يستوعب نظام «السيسي» استراتيجيا سلطة الجهات الفاعلة الخارجية، على الرغم من أن هذا يفسد هدفا هاما لا تتحمله عادة الدول ذات السيادة.

وتقتضي المعاهدات الدولية من مصر إبقاء القناة في متناول جميع السفن بغض النظر عن الجنسية. وعلى الرغم من أنه تم السعى إلى منع السفن القطرية من الدخول إلى الموانئ المصرية في القناة، إلا أن نظام «السيسي» يجب أن يستوعب السفن التي تحمل الغاز الطبيعي من الدوحة بعيدة التداعيات الدبلوماسية بين الدولتين. وبعبارة أخرى، قد تخدم قناة السويس في كثير من الأحيان نظرة النظام للسيادة المصرية، ولكنها أيضا تظهر مدى محدودية هذا الخطاب.

وقد أظهر الانشغال بالأمن على القناة تناقضات أخرى مماثلة. فعلى سبيل المثال، تركزت المخاوف المتعلقة بسلامة الممر المائي حول الحاجة إلى مناطق عازلة حول القناة نفسها. لكن من المرجح أن يؤثر ذلك ليس فقط على المتمردين في سيناء، بل أيضا على المدنيين المصريين العاملين على طول القناة كصيادين وبائعين ومشغلي العبارات. وفي الواقع، في عام 2008، هاجمت سفينة تابعة للبحرية الأمريكية كانت تسافر عبر القناة مدنيين مصريين كانت قواربهم قريبة جدا مما أدى إلى مقتل رجل. وباختصار، فإن المدنيين المصريين هم أهداف محتملة لقوات الأمن العابرة للحدود الوطنية، حتى داخل الأراضي المصرية.

ومن الواضح أن نظام «السيسي» على استعداد لحماية القوى الأجنبية التي يعتمد عليها في سيناء، وإن كان في كثير من الأحيان على حساب حياة وسبل معيشة المصريين العاديين الذين يعيشون هناك.

المنطقة الاقتصادية والجيش المصري

وقد ظهرت نفس الأنماط في منطقة القناة الأوسع، منذ إنشاء منطقة قناة السويس الاقتصادية عام 2015، وهي منطقة مساحتها 290 ميل مربع تمتد من بورسعيد إلى السويس وعبر معظم سيناء، وتتبع الشكل النموذجي لمناطق التجارة الحرة الأخرى. إن الأداء المخيب للآمال لقناة السويس الجديدة يعني أن الكنز الحقيقي يكمن الآن في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، حيث الأمل في جذب المستثمرين الأجانب الذين سيحولون المنطقة إلى مركز إقليمي لوجستي للتصنيع، واستخراج الموارد.

وتحقيقا لهذه الغاية ووفقا للإطار القانوني للمنطقة، قام نظام «السيسي» بتحويل السيطرة على جميع الأراضي داخل المنطقة بشكل تعسفي إلى مجلس تنفيذي غير منتخب يعرف باسم سلطة «منطقة قناة السويس الاقتصادية». وتكفل تركيبته صراحة التأثير الكبير لرؤوس الأموال عبر الوطنية والتدفقات من الحكومات الأجنبية. ويشمل المديرين التنفيذيين المرتبطين بشركات متعددة الجنسيات مثل «أحمد فكري عبد الوهاب» من مجموعة فاو الصناعية المملوكة للصين والنخب العسكرية مثل «مهاب مميش» الذي يحافظ على علاقات اقتصادية عميقة مع الشركات الخليجية والصينية والروسية.

وتتمتع الشركات الأجنبية داخل إقليم المنطقة الفعلي باستقلال قانوني ملحوظ ويمكنها التفاوض بشأن النزاعات من خلال «مركز تسوية المنازعات » التابع لسلطة المنطقة بدلا من المحاكم المصرية العادية. وعلى الرغم من أن هذا الترتيب يبدو أنه يضع المنطقة الخاصة خارج نطاق النظام، فإن مباركة الدولة المصرية ضرورية للحفاظ على الوضع الاستثنائي لهذا الفضاء. في الواقع، كان الجيش المصري نفسه واحدا من أكبر الدعاة لإنشاء المنطقة.

والجيش هو الكيان الرئيسي المسؤول عن تراكم رأس المال واستمرار نزع الملكية في منطقة القناة. وقد شغلت منظماته المختلفة، مثل الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، منذ فترة طويلة دورا مركزيا في بناء البنى التحتية اللوجستية في مصر. وتبدو قدرته على استغلال الأموال العامة بشكل دقيق، والاستفادة من العمال المجندين، والقمع العنيف للاحتجاجات العمالية في المنطقة لا مثيل لها. ولهذا السبب، كانت النخب العسكرية في وضع جيد يمكنها من الفوز بالعقود المربحة الأولى لتطوير منطقة التجارة الحرة بالشراكة مع المستثمرين الأجانب.

ووفقا لمسؤولين في المنطقة، فإن الجيش يشارك في مشاريع مختلفة في المنطقة، بدءا من معالجة المياه الصناعية إلى تجهيز البتروكيماويات. وهذا يتماشى مع التوسع العسكري في الآونة الأخيرة إلى مجموعة متنوعة من المؤسسات في جميع أنحاء القطاعين العام والخاص للاقتصاد.

وبما أن الجيش يحصد أرباحا لا توصف من شراكاته في منطقة القناة، فإن المواطنين المصريين الذين يفترض أن يحميهم هم في حالة ركود اقتصادي دائم، ويخضعون لتدابير تقشف مؤلمة، وتهديد بالعنف بين الدولة والمتمردين عليها. ولعل الأكثر فظاعة هو أن الحكومة حاولت أن تخفف تأثير خضوعها للقوى الأجنبية من خلال تبني خطاب قومي حل حول السيادة والأمن، حتى وإن كانت في واقع الأمر هي أول من تنتهك هذه المصطلحات لخطمة مصالح قوى محلية وأجنبية.

  كلمات مفتاحية

قناة السويس السيسي قناة السويس الجديدة المنطقة الاقتصادية مصر