لماذا تفشل السعودية كدولة عربية محورية؟

الأربعاء 9 يوليو 2014 03:07 ص

كمال ديب، الأخبار (اللبنانبة)، 8 يوليو/تموز 2014

المملكة العربية السعودية أخذت مكانة مصر في العالم العربي ولكن من موقع مناقض للعروبة المدنية.

حدث هذا بعد وفاة الرئيس المصري القومي العربي جمال عبدالناصر عام 1970 وبشكل تصاعدي إلى أن باتت السعودية الدولة المحورية العربية الأبرز منذ 2011، تتحدّى إيران وتخاطب تركيا بنبرة عالية. ولكنّها بدل أن تحمل مسؤوليتها كدولة محورية عربية ترفع لواء مشروع النهضة العربية وتنصر القضية الفلسطينية، شنت حروب نفوذ ضد سوريا والعراق ولبنان وصمتت على أفعال إسرائيل في فلسطين.

في الستينيات كانت مصر سيدة العرب من دون منازع وكان آل سعود في الرياض يضبطون تصرفاتهم وفق إيقاع القاهرة ورغباتها. وكان هذا قبل صعود البعث في سوريا والعراق في السعبينيات. ثم أدّت أسبابٌ ثلاثة إلى تراجع مصر هي أولاً هزيمتها عام 1967 أمام اسرائيل، وثانياً حرب اليمن في مطلع الستينيات وثالثاً انفصال سوريا. إلى أن خرجت مصر من الساحة العربية تماماً بعد معاهدة كامب ديفيد عام 1979 وبات حكّام مصر يضبطون تصرفاتهم وفق إيقاع الرياض.

بعد وفاة عبد الناصر ظهرت ثلاث دول عربية محورية هي سوريا (منذ 1973) ثم السعودية (منذ 1975) ثم العراق (منذ 1978). يواجهها على ساحة الشرق الأوسط ثلاث دول محورية غير عربية هي إسرائيل (منذ 1948) وتركيا (منذ 1949) وإيران (منذ 1963). والملفت أنّ السعودية تناغمت مع تركيا وايران وإسرائيل (بالنسبة لإيران استمر التناغم السعودي حتى سقط الشاه عام 1979 وظهرت الجمهورية الاسلامية فتحوّل الموقف السعودي إلى عداء مرير. وبالنسبة إلى إسرائيل تحسّن التناغم منذ مقتل الملك فيصل عام 1975).

مخطىء من يقلّل من أهمية السعودية عربياً وشرق أوسطياً وعالمياً منذ 1979 حتى اليوم. فهي مثّلت إسلام محافظ جذوره وهابية إخوانية بمواجهة عروبة مدنيّة نهضت في مصر ودول الهلال الخصيب. وفي ذلك التقت الرياض مع سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وهي سياسة هدفت أولاً وأخيراً إلى القضاء على القومية العربية. ومنذ الثمانينيات، باتت الرياض بما تملكه من ثروات نفطية ورأسمال ديني في العالم الاسلامي، ورصيد هائل لدى الولايات المتحدة، تلعب دوراً دولياً. لا بل أصبحت أكثر أهمية لواشنطن من إسرائيل ومن معظم حلفاء أميركا في الناتو.

كيف حدث ذلك؟

موّلت السعودية ونظّمت وحشدت ضد الوجود الروسي في أفغانستان في الثمانينيات، فولّدت تنظيمات القاعدة وأخواتها والتي أصبحت الطابور الأجنبي للسي آي إيه ورأس الحربة اليوم في الحرب على سوريا والعراق. وموّلت السعودية حروباً أميركية تخريبية في نيكاراغوا وفي غير مكان في أميركا اللاتينية، وساهمت في تنفيذ سياسة أميركا في لبنان وفلسطين ودعمت غزوات اسرائيل ضد لبنان في 1978 و1982 وحتى 2006، ومن دون خفر (وعلى سبيل المثال تصريح الأمير تركي بن عبد العزيز في حزيران 1982 أنّه «يوم سعيد له أنّ اسرائيل قرّرت أخيراً القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية»، وكذلك شماتة المملكة بلبنان عام 2006 بأنّ «حزب الله يلقى ما يستحقه جراء تهوّره»، الخ).

ووفق استراتيجيتها المؤسسة خطأ على منطلقات مذهبية، تواصل السعودية ومنذ 1980 حربها ضد إيران لمنعها من تنفيذ «هلال شيعي» يمتد من طهران إلى بيروت. فدفعت السعودية العراق وقوداً في حرب مدمّرة وخاسرة وغبيّة من عام 1980 إلى 1988 ضد إيران. حتى استُهلك العراق الناهض والعظيم في أتون هذه الحرب التي قتلت امكاناته. وساهمت السعودية في جعل العراق وسوريا ولبنان - قاعاً صفصفاً ومدناً مدمّرة منذ 1975 إلى اليوم.

ومن مظاهر القوة السعودية الضاربة اليوم أنّها الكيان العربي الوحيد الذي يتمتّع – بعون أميركي - بأمن كامل ليس فيه «ضربة كف» (وفق تعريف الاستاذ ميشال المر). وتعتبر الرياض معظم الدول العربية شريكاً صغيراً حتى لو كانت مصر، التي باتت هي أيضاً جزءاً من الدور السعودي الاقليمي من أنور السادات وحسني مبارك إلى عبد الفتاح السيسي. فكلما ظهر أشخاص «أشقياء» في أنظمة وحكومات العراق وسوريا ولبنان فإنّ السعودية تحشد نفوذها ومواردها لتدمير هذه الدول على رؤوس أبنائها مستعملة أبشع الوسائل تحت مسميات شتى.

ولكن أين فشلت السعودية؟

نقاط ضعف الاستراتيجية السعودية عديدة ومن المفيد للحكومة السعودية أن تلتفت إليها.

أولاً في مجمل مساعيها في سوريا ومصر والعراق ولبنان، ليست العروبة هي ما يحرّك السعودية، بل هي تراوح بين دور نظام سياسي ينفّذ السياسة الأميركية تماماً كحد أدنى، ودور إقامة كيانات يحكمها الطالبان في أفغانستان والباكستان أو تحكمها داعش في منطقة الهلال الخصيب. ولقد صدحت منابر إعلامية منذ الأسبوع الثاني من حزيران أنّ سقوط الموصل هو بمثابة «إسقاط خرائط سايكس بيكو» وعودة إلى فكرة مملكة عربية وفق مراسلات الشريف حسين – مكماهون لتغطي كامل الجزيرة العربية والهلال الخصيب. ولكن على الرياض طرح السؤال: أين العروبة؟

ثانياً، لا تسيطر الرياض على خيوط الأحداث التي تدفع هي إليها في المنطقة. ولقد كشف الكاتب البريطاني روبرت لايسي قبل سنوات عن ضعف عضوي داخل المملكة بين تيارات وهابية شعبية متطرفة ومحاكم شرعية صارمة من جهة وبين أسرة آل سعود التي تربطها مصالحها معقدة بدول الغرب. ما يعني أنّ التطرّف الداخلي السعودي هو الذي ينعكس إقليمياً في القاعدة وداعش والنصرة وغيرها، وليس رغبة آل سعود في سياسة الاعتدال (ما يفسّر خروج بن لادن الشكلي عن آل سعود عام 1991 ردّاً على سماح الرياض بدخول الجيش الأميركي).

ثالثاً، سياسة الرياض وتدخلاتها في سوريا والعراق ولبنان ومصر تلتقي بشكل كامل وشامل مع مشاريع إسرائيل وأميركا وحلف الناتو. ما يعني أنّ ما تقوم به هو أكثر من تقاطع مصالح مع الغرب. فالرياض أثبتت ولاءها لأميركا خلال قرن من الزمن وتطبّق اليوم سياسة واشنطن العالمية بحذافيرها لتطويق روسيا والصين وضبط إيران تمهيداً لابتلاعها أميركياً بالدبلوماسية. فأين كل هذا من استراتيجيات مصر عبد الناصر واستراتيجيات سوريا والعراق؟

ورابعاً، السعودية تدفع للقضاء على الفكر القومي العربي بضرب سوريا وحلفائها المشرقيين من فلسطينيين ولبنانيين. فيتساءل المرء عن جدوى ذلك وماذا يبقى من الكتلة العربية ومصطلح «أمة عربية» والتي كانت أرض السعودية أساس انطلاقها قبل 14 قرناً أمام قوميات جبارة تمثلها أمم تركيا وإيران واسرائيل؟ إنّ منتهى سطحية التحليل الاستراتيجي السعودي أن يكون منطلق الرياض فعلاً مذهبياً - أي بناؤه على مذهبية سنيّة متشددة ضد شيعية إيرانية. في حين أنّ الذي يفهم عوامل صعود إيران يعرف أنّها ترتبط أساساً بقومية إيرانية ناهضة. فأي هوية تريد الرياض إذا لم تكن الهوية العربية؟

خامساً، المؤسف أنّ قرنين عبرا على النهضة العربية المعاصرة ومن المفترض أن يكون العرب بين الأمم الناهضة في الفن والعلوم والمعارف المختلفة وفي تحرير الانسان والمرأة وسلوك الديمقراطية البرلمانية. إلا أنّ العرب أصيبوا في القرن الحادي والعشرين بصعود قوى رجعية تمثّل أبشع ما في وسطهم: الإرهاب والسواطير والرجعية والتخلف الفكري وأمراء القرون الوسطى، إرهاب خارج لتدمير رموز العرب والعروبة ونهضتهم الحديثة.

ما العمل؟

يبقى الأمل أن تستغل السعودية دورها كدولة عربية محورية لنصرة نهضة العرب وفلسطين وتنقذ امكانات ومواهب سوريا والعراق ومصر ولبنان وفلسطين والتي تشكّل مجتمعة مع السعودية فعلاً الكتلة العربية التي تحفظ لحمة العرب ووجودهم ومصيرهم في المنطقة. فسوريا رغم كل ما حصل فيها هي دولة محورية عربية وعلى استراتيجيي المملكة أن يستوعبوا دروس تفكّك السودان والعراق واشتعال سوريا ولبنان واليمن وليبيا ويسألوا أهذه فعلاً الطريق الصحيحة للعرب؟

لقد أعطت أرض الحجاز ونجد العرب اللغة العربية والديانة الاسلامية ومنها انطلقت امبراطورية عربية كبرى كان رمزها الأكبر العصر الذهبي العلمي في بغداد. وفي السعودية اليوم أدب صاعد وحركة نسائية وشبابية بدأت تشق طريقها ومفكرون ينتمون إلى الفكر القومي العربي المدني. فحبذا لو استعملت السعودية ريادتها المالية ورصيدها الدولي في سبيل قضية فلسطين ونهضة العرب الفكرية والأدبية والعلمية وانهاء حرب سوريا فوراً. وحبذا أن ترفض توجّهات اسرائيل وأميركا لإنهاء القضية الفلسطينية وضرب المقاومة العربية ضد الاستعمار. وسيكون يوماً مجيداً عندما تدعو الرياض إلى قمة مصالحة عربية شاملة يذكرها التاريخ بدل أن تكون سياستها سبب خراب العرب وضياعهم.
 

*أستاذ جامعي ـ كندا

  كلمات مفتاحية