التوجه شرقا.. هل تستطيع تركيا التخلي عن تحالفها مع الغرب؟

الأربعاء 17 أبريل 2019 06:04 ص

تتبنى الأيديولوجية الأوراسية، والتي نشأت عن الحركة اليسارية في تركيا، مقاربة معادية للغرب في السياسة الخارجية وتغذي شعورا قوميا متشددا في السياسة الداخلية. ويمكن تعريف الأيديولوجية الأوراسية في تركيا بأنها نسخة تركية من البعثية في العالم العربي. ويعتقد الأوراسيون أن تركيا يجب أن تترك الناتو وأن تنهي مساعيها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي ويزعمون أن مصالح تركيا تكمن خارج العالم الغربي وأن تركيا يجب أن تنضم إلى المعسكر الذي تقوده روسيا والصين.

وفقا لما ذكره المفكر الأورواسي "إيرول مانيسلي": "تعمل تركيا تبعا للولايات المتحدة وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، وتقدم كل الدعم اللازم لسياساتهم الإقليمية. ومع ذلك، فإن لتركيا مصالح استراتيجية مشتركة مع روسيا والصين وإيران. ويعد تحسين العلاقات بين تركيا والقوى الآسيوية البارزة - مثل روسيا والصين وإيران - هو نتيجة طبيعية للديناميات المحلية في المنطقة".

ووفقا لقائد أوراسي بارز آخر، هو "دوغو برينجيك"، الذي يرأس الحزب الوطني اليسري، فإن "القوميين الأتراك سوف يصادقون الصين وروسيا من أجل التخلص من الولايات المتحدة. وستكون تركيا حتما في طليعة الحضارة الأوراسية الناشئة". وهم يرون أن أنقرة خادم في الناتو، لكنها شريك متساوٍ في أوراسيا. ولذلك فإن الولايات المتحدة سعت لإضعاف وتفكيك تركيا من خلال حزب العمال الكردستاني، وروسيا من خلال الميليشيات الشيشانية، والصين من خلال ما يسمى بالانفصالية الأيغورية، على حد وصفهم".

وفقا للأوراسيين، يجب على تركيا ليس فقط التوجه نحو الشرق سياسيا ولكن أيضا تطوير التعاون الدفاعي مع روسيا والصين. وفي هذا الصدد، كان رد فعل الأوراسيين هو التحمس لتعاون تركيا في مجال الدفاع بعد عام 1997 مع الصين. وفقا للصحيفة التابعة للحزب الوطني، فإن وزارة الدفاع الأمريكية قد انزعجت من التدريبات العسكرية الصينية التركية المشتركة التي جرت في عام 2010. وشهدت هذه التدريبات والمعروفة باسم "بعثة السلام 2010" والتي برعاية منظمة شنغهاي للتعاون ( SCO)، شهدت مناورة جوية مشتركة بين الصين وتركيا في مقاطعة قونيا التركية. ويعتبر الأوراسيون أيضا أن تعاون صناعة الدفاع التركية مع روسيا أمر سياسي وليس مجرد مسألة اقتصادية. إنهم يعتبرون قرار أنقرة شراء نظام صواريخ "إس - 400" الروسية الصنع بمثابة رسالة مفادها أن تركيا مستقلة عن الغرب.

ويتبنى الأوراسيون مواقف متشددة بشأن القضايا الخارجية والداخلية، بما في ذلك النزاع القبرصي والقضية الكردية. ووفقا لرؤيتهم، فإن الحفاظ على الوضع الراهن هو أفضل حل للقضية القبرصية، كما يتضح في لشعار، "لاحل هو الحل". وقد عارض الأوراسيون انضمام تركيا إلى الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي في عام 1996 ويتعامل الأوراسيون مع القضية الكردية في تركيا والشرق الأوسط بصرامة من الناحية الأمنية.

ومع ذلك كانت الحركة الأوراسية حتى عام 2014 ذات قدرة محدودة على التأثير في السياسات الخارجية والأمنية التركية. في الواقع، حاولت الحكومات التركية الليبرالية القضاء على نفوذ الأوراسيين على البيروقراطية التركية خلال التسعينيات والألفينيات.

التحول الكبير.. من الديمقراطية الإسلامية إلى الإسلام السياسي

وصل حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه "رجب طيب أردوغان" إلى السلطة منذ عام 2002؛ ومع ذلك، فإن تحليل كامل فترة حكم حزب العدالة والتنمية ضمن الإطار الأيديولوجي نفسه هو أمر غير ممكن. كان لحكومات حزب العدالة والتنمية من عام 2002 إلى 2010 سياسات موالية للغرب وموقف سياسي أقرب إلى وصفه بأنه "ديمقراطية إسلامية" وأحرزت تركيا تقدما كبيرا في جهودها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وتطبيق السياسات الليبرالية والسلمية والتكاملية في جميع أنحاء العالم. وكانت السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية بحلول عام 2010 متوافقة تماما مع السياسة الخارجية التقليدية الموالية للغرب والتي أسسها "مصطفى كمال أتاتورك". وحتى عام 2010، كانت لحكومات حزب العدالة والتنمية علاقات إيجابية للغاية مع جميع دول الشرق الأوسط تقريبا، بما في ذلك المملكة العربية السعودية ومصر وإيران وسوريا وليبيا وإيران و(إسرائيل). كما قام حزب العدالة والتنمية الحاكم بمراجعات إيجابية للسياسة الخارجية الكمالية لتطوير العلاقات مع جميع جيرانه - بما في ذلك اليونان وأرمينيا وسوريا - ومع القوى العالمية -بما في ذلك روسيا والصين- لتعزيز دور تركيا كـ"دولة تجارية" تعتمد على أدوات "القوة الناعمة".

ومع ذلك، شهد عام 2011 نقطة تحول. في تلك السنة، قرر حزب العدالة والتنمية تغيير أيديولوجيته من "الديمقراطية الإسلامية" إلى "الإسلام السياسي"، على نفس المنوال الذي اتبعه حزب الرفاه في الثمانينيات والتسعينيات. وكان هناك دافعان رئيسيان وراء استبدال الأيديولوجية الرسمية لحزب العدالة والتنمية. على الصعيد الداخلي، عزز حزب العدالة والتنمية سلطته في تركيا ضد المؤسسة العلمانية، ولم تعد هناك حاجة لدعم الليبراليين الأتراك للحفاظ على تقوته السياسية. ثانيا، مع وفاة "نجم الدين أربكان"، الأب المؤسس للإيديولوجية الإسلامية السياسية في تركيا، لم يعد حزب السعادة الذي كان يدعمه يمثل تحديا لحزب العدالة والتنمية.

على الصعيد الدولي، في ذلك الوقت، كانت تركيا تتمتع باهتمام عالمي متزايد من جميع القوى الرائدة تقريبا، وكان حزب العدالة والتنمية الحاكم يفكر في أن عضوية الاتحاد الأوروبي لم تعد ضرورية لتركيا بعد الآن للحفاظ على استقرار اقتصادها خاصة بعدما اندلعت الأزمة المالية في منطقة اليورو بما في ذلك اليونان ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى. علاوة على ذلك، كان الربيع العربي يوفر فرصة، لأن الحركات السياسية التي تدعمها جماعة الإخوان المسلمين كانت تنشر نفوذها عبر العالم العربي، بما في ذلك مصر وتونس وليبيا والمغرب واليمن وسوريا. وكانت حركات الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط تنظر لحزب العدالة والتنمية التركي كنموذج لتولي السلطة في بلدانها عبر طرق ديمقراطية وسلمية. إضافة إلى ذلك، كانت صورة "أردوغان" القيادية مشرقة في الشوارع العربية بعد أزمة الأسطول مع (إسرائيل) في مايو/أيار 2010.

وبعد تحول أيديولوجيته في عام 2011، قرر حزب العدالة والتنمية استخدام أدوات القوة الصلبة خاصة في سوريا بدلا من سياسة القوة الناعمة فقط. لكن استخدام القوة العسكرية أعاد ذكريات تاريخية مريرة في الشرق الأوسط. ونظرا لأن جميع الدول العربية كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية، فإن استخدام الجيش التركي غذي الشكوك في العالم العربي بأن تركيا لديها أجندة توسعية في المنطقة.

تركيا المناهضة للغرب

في مواجهة بعض التحديات في السياسة الداخلية، اضطر حزب العدالة والتنمية منذ عام 2014 إلى بناء تحالف جديد آخر للحفاظ على توازن سياسي مواتٍ،هذه المرة مع الأوراسين والقوميين الأتراك، بدلا من الليبراليين الأتراك. وجاءت أول إشارة على أن حزب العدالة والتنمية الحاكم قد يسعى نحو التحول في السياسة الخارجية الشراكة مع الأوراسيين في السياسة الداخلية في يناير/كانون الثاني 2013، عندما صرح رئيس الوزراء "أردوغان" علنا ​​أنه ناقش مع الزعيم الروسي "فلاديمير بوتين" إمكانية التخلي عن ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي في مقابل الحصول على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون.

وبداية من عام 2014، وللمرة الأولى في فترة ما بعد الحرب الباردة، أصبح لدى الأوراسيين فرصة لفرض السياسات، بما في ذلك في مجال السياسة الخارجية. وأبحت صياغة السياسة الخارجية لتركيا إلى حد كبير مزيجا من الإسلاموية لحزب العدالة والتنمية، والقومية الجديدة لحزب الحركة القومية، والأوراسية. واعتمد الائتلاف الإسلامي القومي الأوراسي الجديد في السياسة الخارجية بشكل مميز على التوجه المعادي للغرب. ومع ذلك، على الرغم من أن السياسة الخارجية الكمالية المؤيدة للغرب في تركيا قد خفتت في السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تزال سارية. في الواقع، اتبعت تركيا منذ عام 2011 "سياسة خارجية مختلطة" تتميز بسمات مؤيدة ومعادية للغرب في الوقت نفسه.

على الرغم من أن الحزب الوطني قد طور وعزز الأيديولوجية الأوراسية على مدى عقود، إلا أن الأحزاب الرائدة الأخرى في السياسة التركية (مثل حزب الشعب الجمهوري ، الحزب الجيد) قد تأثرت بشكل متزايد بنفس المعاداة للغرب منذ 2014. بالنظر إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم، مثل حزب السعادة، قد تبنى أيديولوجية إسلامية سياسية، من المهم الإشارة إلى أن جميع الأحزاب التركية تقريبا تبنت مشاعر معادية للغرب في السنوات الأخيرة.

ويبقى الاختلاف الأيديولوجي الوحيد فيما يتعلق بالقومية بين الحزب الوطني والأحزاب القومية التركية اليمينية (أي حزب الحركة القومية الكبرى، الحزب الجيد وحزب الاتحاد الكبير) هو الموقف تجاه الصين والإيغور. ففي حين يدعم الحزب الوطني ادعاء الصين الرسمي بأن قضية "الإيغور" هي مؤامرة دولية، على النقيض من ذلك، من غير المحتمل أن يقبل حزب الحركة القومية، والحزب الجيد مثل هذه الادعاءات بسبب المشاعر القومية التركية والمشاعر الإسلامية داخل صفوف هذه الأحزاب.

ومؤخرا، أصبحت الحالة الفنزويلية بمثابة اختبار هام لجميع الأحزاب السياسية التركية للكشف عما إذا كانت لديها مواقف مؤيدة للغرب أو معادية للغرب. وفي حين أن كتلة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية دعمت نظام مادورو في فنزويلا فقد فضل حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد اعتماد موقف محايد. ومع ذلك، فيما يتعلق بالتوجه الغربي للأحزاب التركية، كانت الصورة في أوائل العقد الأول من القرن العشرين مختلفة للغاية. وتحت قيادة رئيس الوزراء بولنت أجاويد (1999-2002)، على سبيل المثال، كان حزب الحركة القومية عضوا في ائتلاف مؤيد للاتحاد الأوروبي، إلى جانب حزب اليسار الديمقراطي (DSP) وحزب الوطن الأم (ANAP). وبين عامي 2002 و2005، كان حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية الحاكم من المؤيدين الأقوياء في البرلمان التركي للإصلاحات المؤيدة للاتحاد الأوروبي. ويشير ذلك إلى أن الميل لمعاداة الغرب ليس ثابتا في الأحزاب السياسية التركية ولكنه يتأثر بالاتجاهات المحلية والإقليمية والعالمية في السنوات الأخيرة.

قصور التحالف الأوراسي

على الرغم من كل الخطاب المعادي للغرب، فقد أثبت التحالف الإسلامي الأوراسي أنه غير راغب أو غير قادر على الوفاء بالتوقعات الروسية والصينية. على سبيل المثال، أشار القادة الأتراك بشكل متكرر إلى روسيا باعتبارها "شريكا استراتيجيا" في قمة العشرين في أنطاليا في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2015، رغم أنهم في وقت لاحق من ذلك الشهر لم يترددوا في إسقاط طائرة روسية لانتهاك المجال الجوي التركي لمدة 17 ثانية فقط.

على نحو مشابه، على الرغم من النفوذ الأوراسي المتزايد في أنقرة، بقيت الشراكة الصينية التركية متوقفة في الفترة من 2014 إلى منتصف عام 2017، لأن بكين اتهمت أنقرة بنقل مقاتلي الإييغور من شينجيانغ إلى سوريا للانضمام للقتال هناك. وفي أغسطس/آب 2017، نقلت أنقرة تأكيدات إضافية إلى بكين بأنها لم تشارك في أي من هذه الأنشطة، ومع ذلك، بعد عامين، توترت العلاقات الثنائية مرة أخرى بشأن قضية الأيغور، عندما سعى تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية الكبير إلى موازنة الاعتبارات السياسية المحلية في سياستهما تجاه الصين عبر إظهار الدعم لقضية الإيغور. وتعد أزمة الأويغور الأخيرة بين تركيا والصين ضربة للتأكيد الزائف من الأوراسيين على أن أنقرة ستفضل الشراكة الثنائية مع الصين على حساب قضية الإيغور.

فشل الأوراسيون أيضا في الحصول على دعم من بكين وموسكو لحرب تركيا ضد الإرهاب. وأعلنت موسكو علنا ​​عدة مرات أن روسيا لا تعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. وفي الوقت نفسه، لم تعلن بكين أبدا عن حزب العمال الكردستاني باعتباره منظمة إرهابية على الرغم من أن أنقرة قد صنفت حركة تركستان الشرقية الإسلامية على هذا النحو. ومن المفارقات أنه في حين لم تعلن روسيا والصين عن حزب العمال الكردستاني كمجموعة إرهابية، فإن جميع حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي يصنفون الحزب كذلك.

يمكن رؤية فشل السياسة الخارجية المناهضة للغرب التي يروج لها الأوراسيون بوضوح في الطريقة التي سعت بها تركيا للحصول على العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في السنوات الأخيرة. وعندما اتبع حزب العدالة والتنمية الحاكم خطا "ديمقراطيا إسلاميا" يرتبط بالسياسة الخارجية الكمالية، فازت تركيا بتصويت عام 2008 في الجمعية العامة للأمم المتحدة لتحصل على 151 صوتا متقدمة على المنافسين الآخرين، النمسا وأيسلندا. ومع ذلك، عندما اتبعت أنقرة في عام 2014 خطا معاديا للغرب، حصلت تركيا على 60 صوتا فقط أمام نيوزيلندا وإسبانيا.

خاتمة

تفتقر السياسة الخارجية الأوراسية لتركيا إلى استراتيجية كاملة يمكنها أن تسفر عن نتائج إيجابية للبلاد، خاصة إذا ما قورنت بنظيرتها الكمالي المؤيد للغرب. وعلى الرغم من جاذبيته الخطابية، فإن الموقف المعادي للغرب لم يترجم إلى نموذج اقتصادي مستدام ومزدهر لتركيا. في الواقع، تعتمد تركيا من الناحية الهيكلية على اقتصاد السوق الحر والتكامل العميق مع المؤسسات الغربية مثل حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

باعتبارها "قوة متوسطة" محورية، يمكن لتركيا أن تلعب دورا مهما في تعزيز الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وشرق المتوسط ​​والبلقان والبحر الأسود وآسيا الوسطى. وكي تفعل ذلم، يتعين على تركيا صياغة وتحديث الشراكات والتحالفات الإقليمية قدر الإمكان بدلا من تأجيج العداوات والتنافسات ويكمن الطريق إلى استعادة تركيا وتوسيع نفوذها إقليميا وعالميا في الالتزام بمحور موالي للغرب تدعمه سياسة خارجية أقرب للكمالية منها إلى الأوراسية.

المصدر | سلجوق جولاك أوغلو – معهد الشرق الأوسط

  كلمات مفتاحية