لماذا تدير تركيا ظهرها للغرب وتقترب من روسيا؟

الأربعاء 10 يوليو 2019 10:23 م

كانت علاقة تركيا المشحونة بالولايات المتحدة في انحدار على مدار أعوام. ويدور الانقسام حول قائمة طويلة الأمد من القضايا، من التحول السلطوي للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، إلى رفض الولايات المتحدة تسليم رجل دين يقيم في بنسلفانيا متهم بمحاولة الإطاحة بالحكومة التركية. وبهذا أصبح الحليفان على خلاف متزايد. ومع ذلك، لا يزال هناك اعتقاد واسع النطاق بين صانعي السياسة في الولايات المتحدة وخبراء الأمن القومي بأنه على الرغم من العداء السطحي، فإن نخبة الأمن القومي في تركيل تواصل النظر إلى الولايات المتحدة كحليف لا غنى عنه. ولا تستطيع أنقرة تأمين مصالحها الوطنية دون العمل مع الحكومة الأمريكية، أو هكذا يذهب التفكير.

ولكن منذ الغزو الأمريكي للعراق، الذي مهد الطريق لحكومة إقليمية كردية أكثر حزما في كردستان، نظرت تركيا إلى الولايات المتحدة كقوة لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. وعزز الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية في سوريا هذا الرأي في أنقرة، مما دفع تركيا نحو السلاح الروسي، وأثار تساؤلات حول التزام البلاد بحلف "الناتو". ولإثبات مدى ضآلة إيمان تركيا بواشنطن هذه الأيام، لا نحتاج للنظر أبعد من خطتها للحصول على نظام الدفاع الصاروخي الروسي من طراز "إس-400".

وفي الشهر الماضي، حذر البنتاغون من أن شراء النظام الروسي سيكلف تركيا مكانها في برنامج الطائرات المقاتلة الأمريكية من طراز "إف-35". وكعضو في الاتحاد الدولي الذي مول تطوير طائرات "إف-35"، من المقرر أن تحصل تركيا على 100 طائرة، وقد خططت أنقرة مستقبل قواتها الجوية حول هذه الطائرات. لكن منظومة "إس-400" مصممة لهزيمة تكنولوجيا التسلل الأمريكية، وتشعر الولايات المتحدة بالقلق من إمكانية استخدامها لجمع معلومات استخبارية قيمة عن الطائرة المقاتلة من الجيل الخامس، وهي معلومات استخباراتية قد تنتهي في يد موسكو عندما يحصل الفنيون الروس على أجزاء من النظام. وقامت الولايات المتحدة بالفعل بتدريب الطيارين الأتراك على طائرات "إف-35" في قواعد في الولايات المتحدة، وبمجرد وصول منظومة "إس-400" إلى تركيا، سيتم إزالة تركيا من كونسورتيوم الطائرة، ومنعها من تلقي الطائرات التي ساعدت في تمويلها.

لكن "أردوغان" رفض الخضوع لمطالب الولايات المتحدة، موضحا أنه سيتم احترام الاتفاقية مع روسيا. وهو بذلك، قام باختيار سياسي، وأعطى إشارة للجميع أن تركيا مستعدة للتخلي عن علاقاتها الودية مع واشنطن لصالح العلاقات الوظيفية مع موسكو. وهناك منطق واضح في هذا النهج. فمن خلال تبني سياسة خارجية أكثر حيادا، يسعى "أردوغان"، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى تعزيز مفهوم مختلف لمصالح تركيا الوطنية، وهي فكرة يخدمها التعاون الأوثق مع روسيا في القضايا الاقتصادية والأمنية الرئيسية. وفي حين أن هذا من غير المرجح أن يعني احتضانا نهائيا لموسكو على حساب واشنطن، فإن هذا يعني أن تركيا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة كحليف لا غنى عنه.

تزايد الصدع

وكان التحالف التركي الأمريكي قد نشأ في الأصل بسبب المخاوف المشتركة بشأن التوسع السوفييتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتسبب قرب تركيا من الاتحاد السوفييتي في جعل أنقرة الشريك المثالي للجهود الأمريكية لمراقبة خصومها في الحرب الباردة، واستغلال الانقسامات السوفييتية في بلغاريا وأرمينيا. وفي المقابل، تلقت تركيا ضمانا أمنيا من الولايات المتحدة، التي قامت باستخدام بنشر الأسلحة النووية في جميع أنحاء البلاد لتفادي أي هجوم سوفييتي.

لكن في العقود الثلاثة التي انقضت منذ نهاية الحرب الباردة، ناضلت الولايات المتحدة وتركيا لتحديد المصالح المشتركة بينهما. وتسارع هذا الاختلاف التدريجي بعد أن غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003 وأطاحت بـ"صدام حسين"، مما خلق فراغا في السلطة امتلأ جزئيا بالحكومة الإقليمية في كردستان العراق. وقام المسؤولون الأكراد، بدعم من الولايات المتحدة، بإعلان استقلال مؤسساتهم الحاكمة، مما أثار مخاوف نخبة الأمن القومي التركية التي تعتبر القومية الكردية تهديدا وجوديا. وقاتلت أنقرة الانفصاليين الأكراد لعقود من الزمن، وتشعر بالقلق من أن تنقسم تركيا على أسس عرقية إذا حصلت الأقلية الكردية الكبيرة على التشجيع.

وساءت الأمور مع اندلاع الحرب في سوريا. وسعت أنقرة إلى تهميش الأكراد السوريين، الذين سيطروا في أوائل عام 2012 على المناطق الحدودية التي يتمتعون بالأغلبية فيها. وفي البداية، حاولت تركيا ضم المجموعة المتمردة الكردية المهيمنة، حزب الاتحاد الديمقراطي "بي واي دي"، وإخضاعها إلى التمرد الأوسع المدعوم من تركيا ضد الرئيس "بشار الأسد". ويعد حزب الاتحاد الديمقراطي، والميليشيات المرتبطة به، هو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني "بي كا كا"، وهي جماعة متمردة انفصالية في جنوب شرق تركيا تعتبرها كل من الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية. ومن خلال بذل المقاتلين الأكراد السوريين جهدا أكبر ضد "الأسد"، تتحكم فيه تركيا، كانت أنقرة تأمل في منع ظهور دولة يديرها الأكراد تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، وضمان احتفاظ سوريا بحكومة مركزية قوية بعد "الأسد".

ولبعض الوقت، لم تضع هذه الجهود أنقرة في صراع مباشر مع واشنطن. وفي الواقع، حاولت تركيا إقناع الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية للإطاحة بـ"الأسد" أو على الأقل حرمان نظامه من الوصول إلى الجزء الشمالي من البلاد. وكانت تركيا تستثمر بقوة في ما كانت تأمل أن تكون حكومة سورية أكثر ملاءمة لمصالحها، وكانت سعيدة بجلب الولايات المتحدة إلى صفها لتثبيت تلك الحكومة في السلطة. وفي نهاية المطاف، فشلت تركيا في التلاعب بقوة النيران الأمريكية لصالحها، وقد وضعتها سياستها في غض الطرف عن الفصائل المتمردة الجهادية في شمال سوريا في نهاية المطاف في مسار تصادمي مع واشنطن.

ومنذ 11 سبتمبر/أيلول، سعت الولايات المتحدة إلى حرمان الجماعات الجهادية من الملاذ الآمن. لكن الجمهور الأمريكي قد سئم من العمليات الموسعة كثيفة الاستخدام للموارد، مثل الحربين في العراق وأفغانستان. وتعرضت واشنطن لضغوط سياسية متزايدة للعمل من خلال الوكلاء المحليين بدلا من توريط القوات الأمريكية في الحروب بشكل مباشر. ومع ظهور الجماعات المتمردة المتحالفة مع الجهاديين في مناطق على طول الحدود، اختارت الولايات المتحدة تعزيز أهدافها المحدودة في مكافحة الإرهاب مع شريك مختلف، وهو الميليشيات الكردية السورية، التي أرسل اختيارها إشارة واضحة إلى أنقرة بأن الولايات المتحدة ستضع مصالح الأمن القومي الخاصة بها أولا قبل مصالح تركيا. وردت أنقرة بالرفض، حيث غزت شمال سوريا في مناسبتين مختلفتين، عامي 2016 و2018، بهدف الضغط على الولايات المتحدة لقطع العلاقات مع الميليشيات الكردية السورية ومنع تشكيل كيان كردي مستقل على طول الحدود.

ومع تباعد المصالح الأمريكية والتركية في سوريا، بدأت أنقرة في إعادة تقييم احترامها التقليدي لواشنطن بشأن قضايا الأمن القومي الأخرى أيضا. وعلى مدار أكثر من عقد من الزمن، سعى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى تقليص الاعتماد التركي على الولايات المتحدة، وتأسيس البلاد كقوة عالمية مستقلة. وروج صناع السياسة الأتراك، بقيادة رئيس الوزراء السابق "أحمد داود أوغلو" لشرق أوسط مختلف تتطلع فيه المنطقة إلى تركيا من أجل القيادة. وكانت أنقرة تروج للرأي العام التركي أن "الانفصال" عن الولايات المتحدة في مصلحة البلاد. وفي البداية، لم تحظ هذه الفكرة بقبول كبير داخل بيروقراطية الدفاع التركية. ولكن بعد ما يقرب من 17 عاما من حكم حزب العدالة والتنمية الذي شهد قيام الولايات المتحدة بإغضاب تركيا من خلال الشراكة مع الأكراد السوريين، انقلبت أنقرة ضد واشنطن. ونتيجة لذلك، تمكنت البلاد من استكشاف شراكات مع الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية الأخرى.

تحالف غير متوقع

ولم يكن توجه أنقرة تجاه موسكو أمرا مفروغا منه، حيث تتمتع روسيا بتاريخ طويل من التدخل في الشؤون التركية، واستخدمت الدعاية للتدخل في انتخابات البلاد، وتفيد التقارير أنها تشن هجمات إلكترونية على البنية التركية التحتية، ونفذت عملية اغتيال لمعارضين روس مقيمين في تركيا. وخلال الجزء الأكبر من الحرب الأهلية السورية، دعم البلدان طرفين متعاكسين. ومع ذلك، ومع انفصال أنقرة عن واشنطن، أصبحت الشراكة الأوثق مع موسكو ممكنة. ولا تعد العلاقة التركية الروسية تحالفا رسميا. وفي هذه المرحلة، لا تزال تلك العلاقة أضعف من علاقة أنقرة بواشنطن. ومع ذلك، تفسر الديناميات في سوريا سبب تحسن علاقات تركيا مع روسيا، في وقت تزداد فيه علاقاتها مع الولايات المتحدة ضعفا وهشاشة.

ومن المفارقات أن تعاون تركيا مع روسيا لم يتحقق إلا لأن موسكو نجحت في هزيمة الوكلاء المدعومين من أنقرة في ساحة المعركة السورية. وبعد أن أسقطت تركيا قاذفة روسية من طراز "سو-24"، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، ركزت روسيا جهودها على استهداف وكلاء تركيا في شمال سوريا. ثم، من خلال القصف الشديد لخطوط الإمداد التركية إلى حلب. وفي أواخر عام 2015 وأوائل عام 2016، قطعت روسيا وصول أنقرة إلى تلك المدينة، التي كانت محور الجهود التركية للضغط على "الأسد" منذ بداية الحرب. وقد أخرجت روسيا تركيا فعليا من النزاع، مما استلزم تقليص الطموحات التركية في سوريا إلى تركيز ضيق على اللاجئين والأكراد. وأدركت أنقرة أنه سيتعين عليها العمل مع موسكو لإدارة تدفق اللاجئين من المناطق المتأثرة بالصراع. ولقد فعلت ذلك من خلال إبقاء الحدود مغلقة، وبناء المخيمات داخل سوريا لإيواء النازحين. لكن القتال في المناطق الحدودية جعل إدارة هذا الأمر أكثر صعوبة، لذا فقد عززت تركيا من علاقتها مع روسيا للضغط على "الأسد" للحد من نطاق العمليات القتالية في هذه المناطق.

تدريجيا، برزت روسيا باعتبارها الشريك العسكري الأكثر موثوقية لتركيا في سوريا، مما مكّن أنقرة من استئناف عملياتها القتالية المحدودة في المناطق الحدودية التي تمارس فيها الضغط على الأكراد دون تهديد حكم "الأسد". وتستفيد روسيا من هذه العمليات، لأنها تزيد من التوترات الأمريكية التركية، التي بدورها تزيد من التوترات العالمية، لأن كلا الدولتين عضوان في "الناتو". وتعد روسيا أيضا أفضل وسيلة لتركيا يمكن من خلالها التأثير على تسوية سلمية في نهاية المطاف، وربما حتى على دستور سوري جديد، وكلاهما يمنحان أنقرة فرصة لإحباط الطموحات الكردية للحكم الذاتي في الشمال الشرقي. ومن ناحية أخرى، سيكون على تركيا أن تشرف على استسلام ميليشيات المعارضة التي دعمتها كجزء من أي اتفاق سلام. وأدى هذا الواقع إلى قيام علاقة روسية تركية تكافلية يحتاج فيها كل طرف إلى الطرف الآخر لتسوية النزاع.

ويساعد كل هذا في تفسير تمسك تركيا بمنظومة "إس-400" الروسية، حيث تعبر شروط صفقة نظام الصواريخ عن الطبيعة السياسية للترتيب. وتاريخيا، أعطت المشتريات الدفاعية التركية الأولوية لنقل التكنولوجيا والإنتاج المحلي للمقاولين الأتراك. ولقد رفضت روسيا السماح بنقل أي تكنولوجيا ذات مغزى إلى تركيا، حيث تظل تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وبالتالي يمكنها اختيار تقاسم التكنولوجيا الروسية الحساسة مع التحالف إذا توترت العلاقات مع روسيا. وفي هذه الحالة، اختارت تركيا التخلي عن أولويات المشتريات التقليدية، مع المخاطرة في المستقبل بإضعاف قواتها الجوية، من أجل تعميق علاقتها مع موسكو.

ولن تكون خسارة طائرات "إف-35" هي التكلفة المباشرة الوحيدة لسياسة أنقرة الخارجية الجديدة والمستقلة. فقد هددت واشنطن أيضا بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا بسبب نظام "إس-400"، وأشارت واشنطن إلى أنها ستبقى في سوريا، حيث ستواصل العمل عن كثب مع الأكراد السوريين. لكن على المدى البعيد، يراهن "أردوغان"، وحزب العدالة والتنمية الحاكم، على أن السياسة الخارجية المتوازنة ستخدم مصالحهما، سواء في سوريا أو مع التمرد الكردي في الداخل. ببساطة، فإنهم لا يعتقدون أن علاقتهم بواشنطن تساوي هذه القيمة التي تعتقدها واشنطن نفسها.

المصدر | أرون شتين - فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية