استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

حين دفعنا الجزية

الخميس 12 ديسمبر 2019 11:38 ص

حين دفعنا الجزية

الثورات لا تفشل بل هي مقدّماتٌ وإرهاصاتٌ لثورات جديدة.

ثمّة ما يدعو إلى انتظار الأفضل، بدلالة استمرار الشعوب بالتحرّك والتململ والانتفاض

لم تزل مؤسسة الفساد تحكم وترسم، ولم يزل منحنى الجوع والفقر والبطالة والانهيار الاقتصادي في حالة نزول متسارعة.

الثورات والانتفاضات العربية بدت كموجات البحر الهادرة وبدت كتسونامي لكنها تكسّرت حال وصولها الشاطئ بفعل فاعل أو بعجز ذاتي!

دفع حكام "الجزية" لقوى عظمى لحمايتهم من شعوبهم أو أخطار وهمية صنعوها هم بأنفسهم، (إيران، الإرهاب، التطرّف).

*     *     *

تعاني السلطات العربية من حالة إنكار عجيبة، فعلى الرغم من الرسائل شديدة اللهجة والخطيرة جدا التي يرسلها الشارع في غير بلد، وبطرق مختلفة، وغير تقليدية، إلا أن هذه السلطات غير مستعدة للتجاوب وإعادة النظر في طريقة سياستها شؤون البلاد والعباد.

ويبدو أن ثمّة عدة احتمالات لتفسير ظاهرة "تطنيش" النخب الحاكمة نبض الشارع، فهي إما غير معنية بالاستماع، من حيث المبدأ، لرأي الناس، أو أنها لا ترى غيرها مؤثّرا في الساحة، أو أنها عاجزة عن التفاعل وإنقاذ نفسها من مصيرٍ محتوم، أو أنها لا ترى ولا تسمع إلا ما تقوله لها عيونها الأمنية، ومراجعها العليا خارج الحدود، وكل تلك الاحتمالات مفضية إلى مصير واحد: الطوفان.

في لبنان مثلا، ثمة انتفاضة شعبية عارمة زادت عن الخمسين يوما، والناس في الشارع، ويكاد الجميع يتحدّث بلغة واحدة، ومطلب حياتي أساس (ماء وكهرباء ونظافة وعمل وعلاج طبي وكرامة، وما شابه من ضرورات استمرار الحياة).

إلا أن الطبقة السياسية الحاكمة لم تسمع، بل سمعت و"طنّشت"، ولم يزل الحديث يدور حول المحاصصة والتمثيل الطائفي، وما سوى هذا من مصطلحات ما قبل الانتفاضة، ولم تزل الدولة بلا حكومة، وكانت المستقيلة أصلا قد جاءت بعد مخاض عسير، وولادة قيصرية.

وفي السودان هاج الشعب وماج، واعتقل رأس النظام، وجيء برأس جديد، لم يزل يدور في دائرة الرأس المطاح، ولم تزل طبقة الحكم "العميقة" هي هي، و"كأنك يا أبا زيد ما غزيت".

في العراق ثورة غاضبة، ودم شبعت منه الطرقات، وجوع وفقر في واحد من أكثر بلاد العرب غنى. ولم يزل الحديث يدور عن تغيير وجه مستقيل بوجه جديد، هو في الواقع مرشّح الوجه السابق نفسه، ولا إجراءات حقيقية تستجيب للحد الأدنى من صراخ الشارع.

في الأردن غضب الشارع، وامتلأ "الدوار الرابع" بجماهير حاشدة، وأسمع صوته من به صمم، وأكثر ما تم، صرف رئيس حكومة والإتيان برئيس جديد، شكل حكومة من "العلبة" نفسها، مع المحافظة الصارمة على المؤاخذات والانتقادات نفسها التي كانت تُكال للفريق الوزاري السابق.

ولم يتغير شيء حقيقي، لا في السياسات الكبرى ولا الصغرى، فلم تزل مؤسسة الفساد تحكم وترسم، ولم يزل منحنى الجوع والفقر والبطالة والانهيار الاقتصادي في حالة نزول متسارعة.

وفي مصر، أطلق الشعب صرخته المدوية المنادية برحيل "رأس" النظام، ومحاولة وقف حالة الانهيار التام للدولة بمؤسساتها كافة، فلم تزدد قبضة السلطات إلا قوةً في قهر الناس، ومحاولة سحق أي حركة احتجاج، مع استمرارٍ في انتهاج سياسات الإفقار والانهيار.

وفي السعودية، ثمّة تغييب استباقي كامل لمجرّد تفكير الشارع بإسماع صوته، أو مجرد التعبير عن أي رأيٍ مخالف، لما يريده "ولي الأمر"، وسحق أي رأسٍ يرتفع محاولا التفكير خارج صندوقه، وهو بهذا المعنى لا يختلف كثيرا عمّن لا يستمع لصوت الشارع، إلا بأنه يصادر حقه في أن يكون له صوت أصلا.

وقل مثل هذا عن بلاد حالها معقد أكثر قليلا أو كثيرا، ولكن القاسم المشترك لكل الأقاليم أنها مغيبةٌ تماما عن حقها في تقرير مصيرها، أو المشاركة ولو بجزء بسيط في هذا الحق، فهي محض كتلٍ بشريةٍ تتحكّم بها قوى بعضها ظاهر وبعضها خفي، وتحاول أن ترسم لها مستقبلها، هذا المستقبل الذي يشي حاضرُه بمدى السواد الذي يكتنفه.

صحيح أن الثورات لا تفشل، وإنما هي مقدّماتٌ وإرهاصاتٌ لثورات جديدة، كما يقال. وصحيح أن الاضطرابات في أثناء الثورة الفرنسية استمرت عشرين سنة، قبل أن تستقر، وكان عدد سكان فرنسا خمسة ملايين، مات منهم مليون، لكنها نجحت في النهاية.

ولكن المقلق في الثورات والانتفاضات العربية أنها بدت كأنها مثل موجات البحر الهادرة، والتي هيئ لمن يراقبها أنها ستكون تسونامي تجرف أمامها كل شيء، إلا أن ما حصل أنها تكسّرت حال وصولها إلى رمال الشاطئ، بفعل فاعل، أو بعجز ذاتي لم يسعفها لتجنب التلاشي على الرمال.

والمحير هنا أن كل الزخم الذي أبداه الشارع العربي، في حراكه الثوري ومحاولة التمرّد وإعلاء الصوت، وتجاوز كل الخطوط الحمراء المرسومة له، لم يكن كافيا لإفراز قيادةٍ بديلةٍ تنطق باسمه، وتفرض شروطها على النخبة الحاكمة.

وفي المرّات القليلة التي نجحت فيها الجماهير في فرز قيادة لها، نجحت السلطات الحاكمة، ما ظهر منها وما بطن، في الالتفاف على هذه القيادات، أو تصفيتها بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، الأمر الذي بدا وكأن هناك قرارا صارما بالتطبيق الصارم لسياسة "جزّ العشب الضار"!

لإبقاء الحال على ما هو عليه، بدعمٍ غير محدودٍ من طبقة المنتفعين داخليا، وإسنادٍ غير محدودٍ أيضا من القوى الموجودة خارج الحدود، المعنية بالإبقاء على طبقة حكامٍ وصل ببعضهم الأمر أن يدفع "الجزية" للقوى العظمى، في مقابل حمايتهم من شعوبهم، أو من أخطار وهمية صنعوها هم بأنفسهم، (إيران، الإرهاب والتطرّف، مثلا).

وتنوّعت أشكال هذه الجزية، بالدفع نقدا بالمعنى الحرفي، أو رهن مقدّرات البلد وقراراته الوطنية لخدمة النفوذ الأجنبي ومصالحه، وخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين، وكلهم أو جلهم دفعوا كرها أو طوعا، وكل على قدر "استطاعته".

ومع كل السواد الذي يحيط بهذه الصورة، إلا أن ثمّة ما يدعو إلى انتظار الأفضل، بدلالة استمرار الشعوب بالتحرّك والتململ والانتفاض والثوران، على الرغم من كل محاولات الإفشال والسحق والمحق والتغييب الممنهج، وهذا أمر مبشّر يراكم خبراتٍ نضاليةً لدى العقل الجمعي العربي الذي يرفض أن يستكين للسكين التي تحاول ذبحه.

* حلمي الأسمر كاتب صحفي من الأردن.

المصدر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية