استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

الاحتمالات...

الجمعة 27 مارس 2020 05:38 م

الاحتمالات...

هؤلاء يخاتلون. ينتظرون مرور العاصفة. لذا، فقرار المصير يُتخذ اليوم: في العقول والنوايا والقناعات. وبعدها تولد الأفعال والأشكال المطابقة لها.

"هذا عالم لم ينته بعد. و"سيلعبط" قليلا بعد فترة العزل هذه، ويُظهِر انفجاراً اقتصادياً مؤقتاً ليطمْئِن نفسه. وحدها حركة مواطنية جديدة يحركها فكر قوي وادراك واعٍ يمكنها ان تفتح الطريق امام عالم جديد".**

*     *     *

أن نكون على حق لا يكفي! فقد أعلن كل الحكام - حتى ترامب بعدما كابر وعربد - انحيازهم "إلى دولة الرعاية". هكذا، فجأة. أغدقوا التأكيدات والوعود، وطلبوا مهلة للانصراف إلى العمل، ما أسماه بعضهم "الحرب"، وهي تسمية مرعبة لأنها تضمر تعليق الحقوق العامة كافة، وإجازة استنفارات واستدعاءات شتى، وتبرير الموت. يقولون أن همهم الأول والأخير سيكون صحة الناس وتوفير شروط حياة لائقة لهم: بدءاً من الآن وحتى ما بعد انتهاء الجائحة.

هل لتلك النوايا المعلنة علاقة بالفضيحة التي كشفها الوباء، من قلة توفّر الاستعداد للطوارئ، والنقص في كل شيء لدى بلدان الوفرة. وهي فضيحة بذاتها، ولكنها تخفي ما هو أفدح منها بكثير: لا يمكن بلمح البصر رأب ما دُمّر بعناد وأناة.

فقد ألغيت مستشفيات بحالها أو قُلّصت (ما أسموه "دمجاً")، واختزل عدد العاملين فيها، من أطباء وممرضين يستلزم تأهيلهم سنوات من الدراسة والتدريب، وأنهكوا ودُفعوا إلى اليأس، وأهملت "الأبحاث" التي تخص الصحة العامة لصالح إله التنافس الربحي فحسب الخ.. ولو صحت النوايا المعلنة – فرضاً - فكم من الوقت يلزم لتعويض كل ذلك واللحاق بالمطلوب؟

ثم هل اتعظ حقاً هؤلاء الحكام؟ هل ندموا عما ارتكبوه بإصرار، ودافعوا عنه بصفته "ضرورياً"، متفاخرين بتجاوزهم لأسلافهم السبّاقين إلى هذا النهج؟ صحيح أن التخريب لم يبدأ مع الحكام الحاليين، ولم يبدأ منذ وقت قصير، لكنه تعاظم بلا توقف.. وكأنه كان يجري جس النبض للانتقال إلى المزيد.

وهو - جس النبض ذاك - لم يكن مسالماً، بل ترافق مع قمع مريع ومخططات تهميشٍ وإقصاء، والوضع أمام الأمر الواقع، والكذب والتزوير للوقائع، وإلهاء بما لا حصر له من الحيل، واستنفار غرائز ظُنّ أن "الحداثة" - بقدراتها الإدماجية المهولة وتعاليها المتفوق - قد تجاوزتها ( ومنها "الحرب" على المخْتلفين، من مسلمين أو لاجئين أو ملونين، والحرب على العاطلين عن العمل، الفقراء و"الكسالى").

هل مرد كلام هؤلاء الحكام اليوم، خشيتهم من المحاسبة على ما تَكشّف، وهي مؤجلة إلى حين هدوء العاصفة، كما يَفترض بعض حسني النية؟ هؤلاء يتناسون قدرات المجموعات الحاكمة على الالتفاف والكذب، وعلى تغليف الوقائع بالمبررات، وعلى الزجر والقمع العنيفين.

حسناً، ليس الآن وقت الجدال، ولكنه سيأتي، أليس كذلك؟ أم أنه يُخطَّط لإلغاء نقاش الخيارات والأولويات، تلك السابقة والأخرى اللاحقة. دفْنها ربما تحت ركام الشعارات المتباهية بكاريزما القائد، وبالقرارات الصائبة، وبالنجاحات، وباللحمة الوطنية، وبتعاضد الناس "الرائعين"..

عساها تُنسي تلك الصور المريعة في عواصم "متحضرة": عجزة يموتون وحيدين متروكين في أسرّتهم داخل دور رعايتهم، مرضى لا تتوفر لهم أماكن في المشافي ولا العناية التي أملوا بها، عشرات آلاف الموتى.. حتى الآن.

واختفاء ملحوظ للمشردين والمتسولين واللاجئين والمعدمين. أين هم؟ أين يقيمون اليوم، ماذا يأكلون، وكيف يستخدمون الحمّامات المكتظة بالضرورة، ومن يستجيب لنقلهم إلى المشافي..

ثم تجهد منظمة الصحة العالمية لتوفير ملياري دولار ل"مساعدة البلدان الفقيرة في المحنة"! بينما يخرج ترامب من معطف الدولة التي يتولى حكمها ألفي مليار دولار (وهو رقم خيالي) لمساعدة المؤسسات الأمريكية المتعثرة، والشرائح السكانية التي تواجه كارثة.

وهو بات يؤيد "مخطط أوباما للصحة للجميع" (Obama care) الذي بنى أمجاده على التهجم عليه وإدانته. أما قمة العشرين التي عقدت جلسة طارئة "بالمراسلة"، فقررت بث 5 آلاف مليار دولار "في الاقتصاد العالمي" لمواجهة الانهيارات الاقتصادية الجارية.

ملياران للبلدان الفقيرة مقابل كل هذا الفحش للأغنياء؟ ما يعني أنه ما زال المنطق نفسه مستمراً. والاقتصاد العالمي هو ذاك القديم الذي نعرفه، والمأزوم أصلاً حد الإفلاس الصريح (في نهاية 2019، بلغ حجم الديون العامة في العالم 253 ألف مليار دولار، ما يعادل 322 في المئة من الدخل العالمي الخام).

وبالمناسبة، فهؤلاء هم أنفسهم من يعظون البلدان الفقيرة، ويوبخون ويعاقبون بلداً كاليونان، بينما هم يتجاوزون كل المعايير.

المؤكد أن أرباح هؤلاء الأباطرة لا تأكلها النيران، ولا يمحوها توقيف العمل والإنتاج الذي تسبب به كورونا. بل هم يحصون "خسائر أرباحهم" ليس إلا.. هذا فيما لو سجلوا خسائر حقاً، بينما تتهافت الخزائن العامة على دعمهم وإنقاذهم. وفي الحقيقة، تتسبب هذه "الأزمات" بتعميق الفروقات الاجتماعية، أي بمزيد من تركيز الثروات بين أيدي قلة قليلة، ومزيد من إفقار الفقراء والطبقات الوسطى:

في بلد كإسبانيا مثلاً ضربته الأزمة الاقتصادية لعام 2008 بشكل عنيف، سجُّل بعد ذلك بعشر سنوات، أي في 2017، تضاعف لمرتين، مقارنة بعام 2008، في عدد الأغنياء غنًى فاحشاً، حيث صار 50 في المئة من الدخل المحلي الإجمالي بيد 0.4 في المئة من السكان. وهكذا في كل العالم، وبسيناريوهات مختلفة ولكن متقاربة.

ومذاك لم يتغير شيء في هذا الاختلال المريع في النظام العام للقطاع المصرفي، وفي طريقة إدارة المخاطر المالية، وظل العالم كله يعيش على حافة الهاوية، حتى وصل "كورونا" من حيث لا يدري أحد..

فلماذا يجب الاستماتة في إنقاذ نظام مالي واقتصادي (وأخلاقي) متداعٍ بهذا الشكل. هل ستعاد اليوم - وعلى نطاق أوسع بكثير - جريمة 2008، حين جرى إنقاذ البنوك المضارِبة وصناديق القروض والائتمان، بواسطة المال العام، وقيل بعدها أنه لا موازنات متوفرة للصحة والتعليم وتقاعد الشغيلة وسائر الخدمات والمشاريع الحيوية، والتي تهم كل الناس؟

كل الناس، بما فيهم شعوب البلدان الفقيرة المعتادة على الموت من الجوع والعطش وتلوث الماء والأوبئة والأمراض والحروب، والتي ترى الأغنياء هلعين لأن، مثلهم، يموتون بالآلاف كل يوم.

سيحاولون محو كل ذلك، والعودة عن وعودهم، والإمعان فيما سبق لهم فعله، فيما هم معتادون عليه. سيحاولون حملنا على النسيان، واستعادة صحتنا بدوران الآلة الجهنمية التي لا تترك وقتاً للتفكير والإرادة. وسيلجؤون هذه المرة إلى تدابير وإجراءات سياسية وبوليسية بحجج شبه ميتافيزيقية، باعتبار طبيعة الداء الذي فجّر الفقاعة الكبيرة. فهل سيتركهم الناس، كل الناس، يفعلون؟

وأما لو حدث أنْ عادت الغفلة واستحكمت، فحينها لا يمكنُ في مرة قادمة لا مواجهة أخوات كورونا، ولا أية صعوبة أقل من كورونا بكثير أو قليل..

قرار المصير يُتخذ اليوم: بداية في العقول والنوايا. في القناعات. وبعدها تولد الأفعال والأشكال المطابقة لها.

* نهلة الشهال كاتبة وناشطة لبنانية، رئيسة تحرير "السفير العربي".

** أخر تغريدة صدرت هذا الصباح من عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ادغار موران.

المصدر | السفير العربي

  كلمات مفتاحية