احتجاجات تونس العنيفة.. الدوافع والتداعيات

الاثنين 1 فبراير 2021 05:04 ص

منذ منتصف يناير/كانون الثاني، شهدت عدة مدن تونسية اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن عدد من الشباب الذين شاركوا في مظاهرات ليلية وأعمال تخريب ونهب للممتلكات الخاصة والعامة.

وبالرغم أن البلاد شهدت أحداثا مماثلة على مدار العقد الماضي، إلا أن مستوى العنف الذي اتسمت به الاحتجاجات الأخيرة، وغياب أي قيادة سياسية أو اجتماعية، يثير العديد من التساؤلات حول سياق وآفاق هذه التظاهرات، فضلا عن ارتباطها بالسياسة والأزمات الاجتماعية التي تجتاح البلاد.

  • سياق وجغرافيا الاحتجاجات

ومنذ السبعينيات، كان ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني شهرين رمزيين بشكل خاص للحركات الاحتجاجية في تونس.

وفي 26 يناير/كانون الثاني 1978، تحول إضراب عام نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل إلى اشتباكات دامية أسفرت عن مقتل وجرح المئات من التونسيين على يد الشرطة.

وفي 3 يناير/كانون الثاني 1984، اجتاحت المظاهرات جميع أنحاء البلاد احتجاجا على مضاعفة أسعار المواد الغذائية، ما أدى إلى حملة أخرى للشرطة أسفرت أيضا عن مقتل وتشويه مئات المواطنين.

وبين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و 14 يناير/كانون الثاني 2011، تحولت الاحتجاجات الشعبية إلى ثورة أطاحت بنظام الرئيس السابق "زين العابدين بن علي".

وفي العقد الذي أعقب الثورة، خرج عدد من الاحتجاجات ضد استمرار الظروف الاجتماعية والمعيشية السيئة.

وعادة ما تكون نهاية السنة المالية وبداية سنة أخرى حافزا للاحتجاجات، لأنها تتزامن مع الموافقة على الموازنة العامة للدولة، والخيارات غير الشعبية التي تصاحبها عادة، مثل زيادة الضرائب وأسعار بعض السلع الاستهلاكية.

كما يتزامن ذلك مع انخفاض في الأموال المخصصة لخلق فرص العمل والرعاية الاجتماعية والتعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية.

وصاحب الأحداث الأخيرة تدهور في المؤشرات الاقتصادية نتيجة لانخفاض معدل النمو إلى -6%، وارتفاع معدل البطالة المزمن 16.2%، وانخفاض سعر الصرف، وارتفاع تكلفة المعيشة، وتدني جودة الخدمات الصحية والتعليمية.

وبالرغم أن الاقتصاد التونسي يعاني من مشاكل هيكلية متراكمة منذ عقود، إلا أن تداعيات جائحة "كوفيد-19" أدت إلى تفاقم هذه المشاكل في ظل تباطؤ وتيرة الإنتاج، وارتفاع الأسعار، والبطالة المفاجئة لقطاعات كثيرة، واستنزاف المالية العامة من أجل تأمين المستلزمات الصحية الطارئة.

وتركزت أعنف الاشتباكات بين قوات الأمن ومجموعات الشباب في الضواحي الغربية لتونس العاصمة، فيما شهدت القصرين وسيدي بوزيد والقيروان وسوسة وبنزرت مناوشات متفرقة.

وظلت الولايات الأخرى هادئة نسبيا.

وخلال 5 أيام من المواجهات، كان حي التضامن بمثابة جبهة مشتعلة، وهي منطقة تشكلت قبل عقود من موجات الهجرة الداخلية، والتي جاء معظمها من المناطق الفقيرة في الشمال الغربي إلى العاصمة بحثا عن فرص عمل.

وتعتبر من بين أكبر المناطق المكتظة بالسكان في البلاد، حيث يبلغ عدد سكانها أكثر من 200 ألف نسمة يتركزون في منطقة صغيرة.

وكانت منطقة "التضامن" من أولى مناطق العاصمة التي انتفضت خلال ثورات الربيع العربي قبل 10 أعوام.

ولا تختلف الأوضاع المعيشية في معظم المناطق الأخرى، التي شهدت مناوشات بين القوات الأمنية والمتظاهرين خلال الأحداث الأخيرة، عن الوضع في التضامن حيث توقفت مشاريع التنمية في ولايات مثل القصرين وسيدي بوزيد والقيروان، وارتفعت البطالة وتعثرت البنية التحتية والمرافق الخدمية.

ورغم مرور عقد من الزمان على الثورة، إلا أن سياسات التنمية التي عمقت الأزمات في الضواحي على مدى عقود لم تتم إعادة النظر فيها.

وعلى عكس الولايات الداخلية وضواحي العاصمة التي شهدت احتجاجات متواصلة

وطوال العقد الماضي شهدت الولايات الداخلية وضواحي العاصمة احتجاجات متواصلة لكن الأحداث الأخيرة امتدت إلى محافظة سوسة.

وهذه هي المرة الأولى التي تشهد المدينة الساحلية اشتباكات ونهبا وتخريبا بهذا المستوى.

ويبدو أن تداعيات الوباء على قطاعي السياحة والخدمات، والبطالة الجديدة للعديد من الشباب، قد تراكمت حتى وصلت التوترات الاجتماعية إلى نقطة الانهيار.

  • التفسيرات المختلفة للاحتجاجات

وبالرغم من استمرار الاحتجاجات في تونس خلال العقد الماضي، خاصة في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني، اتسمت الأحداث الأخيرة بمستوى استثنائي من العنف، حيث أغلق المتظاهرون الطرق بإطارات محترقة، ونهبوا مراكز التسوق ومكاتب البريد، واشتبكوا بعنف مع القوات الأمنية ورشقوها بالحجارة وزجاجات المولوتوف.

وبالإضافة إلى طبيعتها العنيفة، كانت الأحداث الأخيرة غير عادية بسبب مشاركة الأطفال ومن هم دون سن الـ 20.

وكان غياب أي مطالب واضحة ومعلنة وراء العنف عاملا آخر يميز هذه الأحداث عن تلك التي حدثت قبل الثورة وبعدها.

بالإضافة إلى ذلك، سمح غموض المطالب بإشراك مختلف الأحزاب السياسية في تفسير الأحداث.

واعتبرها البعض انتفاضة مبررة ضد التهميش والفقر وفشل النظام، فيما اعتبرها البعض الآخر أعمال شغب تغذيها المعارضة لبث الفوضى واستهداف الدولة، بينما رأت أطراف أخرى أنها مفهومة دون تبرير العنف والنهب.

وفي اليوم الثالث من الأحداث، توجه الرئيس "قيس سعيد" إلى منطقة المنهلة حيث اندلعت اشتباكات عنيفة في الليالي السابقة، وعبّر عن تفهمه لمطالب المتظاهرين، متهما الأحزاب السياسية بـ "المتاجرة بألم الناس".

وتماشيا مع النهج الشعبوي لخطابه السياسي، سارعت الصفحة الإلكترونية لمكتب الرئيس ببث مقاطع دعا فيها المتظاهرون الرئيس "سعيد" إلى حل الأحزاب والبرلمان.

ووجه رئيس الوزراء "هشام المشيشي"، الذي أجرى تغييرات جذرية في حكومته وأقال وزراء مرتبطين بالرئيس "سعيد" قبل يوم واحد من بدء الأحداث، خطابا إلى التونسيين وأعرب عن تفهمه للاحتجاجات ووعد بأن التنمية ستكون هدف حكومته.

وعبّر رئيس البرلمان "راشد الغنوشي" عن تفهمه لظروف الشباب العاطل عن العمل، وشدد على أن حرق المؤسسات لن يفيد تونس ولن يوفر العمل أو الحياة الكريمة للعاطلين عن العمل.

وكذلك انعكست التوترات السياسية على ردود أفعال الأحزاب والقوى السياسية حسب موقفها من الحكومة وقاعدة دعمها البرلمانية.

واستنكر حزب "قلب تونس"، الداعم للحكومة، "المؤامرات" و"تحريض" القصر على النهب والتخريب بطريقة لا علاقة لها بالتظاهرات السلمية أو حرية التعبير.

ونددت الكتلة الأكبر في البرلمان بشدة بالتخريب والنهب، معربة عن رفضها الشديد لخطاب الكراهية والتحريض على العنف بين التونسيين.

ومن ناحية أخرى، تعاطفت معظم الأحزاب المعارضة لحكومة "المشيشي" مع المتظاهرين.

واعتبرت الحركة الشعبية الاحتجاجات بمثابة "رفض واضح" للمخططات التي وضعتها حكومة "المشيشي" والائتلاف البرلماني الداعم لها، معربة عن "دعمها غير المشروط" لمبدأ الاحتجاج السلمي الذي كفله الدستور وحق المواطنين في التعبير عن الرأي.

وبسبب رفضه لما يراه خططا غير شعبية وغير وطنية تحاول الحكومة الحالية تفعيلها، كان لحزب التيار الديمقراطي رد مماثل، حيث أعرب عن دعمه للاحتجاجات السلمية والحق في التظاهر مع إدانة "العنف المفرط" الذي مارسته قوات الأمن ضد المتظاهرين.

ويأتي ذلك بالرغم من أن المظاهرات لم يسقط فيها قتلى أو جرحى على يد قوات الأمن، رغم العنف والتخريب.

  • مرحلة جديدة من الأزمة

بعد عقد من الثورة والآمال الكبيرة التي رافقتها، استمرت العديد من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت من بين أسباب الثورة قبل 10 سنوات، الأمر الذي يلقي بظلاله على المشهد السياسي ويؤثر سلبا على المزاج العام.

وتتزايد الظواهر السلوكية والاجتماعية السلبية مثل تعاطي المخدرات وتوزيعها والسرقة ورفض التقاليد الأسرية والهجرة أو التورط في الجريمة المنظمة والإرهاب.

ومن الواضح أن الطبقات الاجتماعية الأكثر مشاركة في الأحداث الأخيرة كانت أصغر من أن تستوعب في عام 2010 مطالب الثورة وتفاصيلها الدقيقة.

على هذا النحو، فهم لا ينجذبون إلى الخطاب المتعلق بالتحول الديمقراطي والتكاتف والوحدة، ولا يهتمون بروايات النخب السياسية والأكاديمية والثقافية ونضالاتها وتفسيراتها للأزمات الاقتصادية وأزمات مستوى المعيشة، ومقترحات التقدم والتنمية.

وكذلك أظهرت الأحداث الأخيرة أن الشعور بالظلم والوقوع على هامش التنمية قد ترك هذه المجموعة معزولة في عالمها الخاص.

ولا يعد تورطها في أعمال العنف والشغب سوى تعبير عن هذه الأزمة.

لذلك فإن النجاح في تحقيق انتقال سياسي ديمقراطي في تونس، مقارنة بالدول العربية الأخرى، لا يخفي الفشل في معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ما يغذي الانتفاضة والتمرد والاضطراب الاجتماعي.

ولا تعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس نتاج العقد الماضي بقدر ما هي أزمة هيكلية بسبب الخيارات السياسية والسياسات التنموية التي أنتجت الفقر وفاقمت الظلم وعمقت الفوارق الجهوية (الجهوية مصطلح شائع في دول المغرب العربي ويعبر عن التمييز الإقليمي بين مناطق وأخرى في خطط التنمية).

وطالما أصرت النخب على خططها الاقتصادية والاجتماعية دون تعديلها لتلائم مشروعا وطنيا شاملا وتبني خطة اتصال فعالة، فلن يكون هناك حل للاستياء القائم.

ولن يكون من الممكن تحقيق التنمية بدون استقرار وبدون امتناع النقابات والمؤسسات الأخرى عن إعاقة خطط الحكومة باحتجاجات فئوية لا تنتهي ولا تسمح بتنفيذ الإصلاحات اللازمة.

وحاولت بعض الأحزاب السياسية المقربة من المعارضة والنقابات اليسارية الترويج لتفسيرات محددة للأحداث من خلال تنظيم مظاهرات نهارية في وسط العاصمة، احتجاجا على الحكومة وحزبيها والبرلمان.

لكن قدرتها على التعبئة بدت ضعيفة، ولم يتجاوز عدد المشاركين بضع عشرات.

وكان من اللافت للانتباه مشاركة الأحزاب التي فشلت في تحقيق أي تمثيل برلماني في انتخابات 2019 رغم عدم وجود عتبة انتخابية، مرددين شعارات "إسقاط النظام".

ويدل هذا على غياب مسؤوليتها الاجتماعية والوطنية وتقديمهم لهدف انتقاد الحكومة كسياسة حزبية واضحة على أي شيء آخر.

  • خاتمة

عاد الهدوء إلى معظم المناطق التونسية بعد الأيام القليلة الماضية من المظاهرات الليلية التي تخللتها أعمال نهب وتخريب واشتباكات عنيفة.

ولا تزال البلاد عرضة لمزيد من التوتر بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الهيكلية وفشل النخب في الاتفاق على مشروع وطني يغير سياسات التنمية (التي تنتج التهميش والفوارق الجهوية) ويزيل العوائق أمام نهج تنموي متفق عليه.

وتساهم المعالجة قصيرة النظر للاحتجاجات المتكررة في ظهور سلوك اجتماعي وتصورات ثقافية خارج روايات وخطاب النخبة.

ويديم ذلك عقبات التحول الهش ويعمق مؤشرات الاضطراب الاجتماعي.

ورغم احتمالية تكرار مثل هذه الأحداث وانتشارها إلى مناطق أخرى، فمن غير المرجح أن تحدث أي تغييرات جذرية بسبب افتقارها إلى هوية واضحة وغموض مطالبها.

المصدر | المركز العربي واشنطن دي سي - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

احتجاجات تونس الربيع العربي قلب تونس النهضة قيس سعيد

احتجاجات تونس: شغب أم استمرار للثورة؟

النهضة وقلب تونس يتهمان الدستوري الحر بالعنف ضد البرلمان

تونس تقترض نصف مليار دولار من بنوك لدعم ميزانيتها