فلسطين بين "تهدئة" مسمومة و"ثقة" مفخخة
ألم تمل حماس محاولاتها العبثية للجمع ما بين السلطة والمقاومة، التهدئة والمقاومة، البقاء في السلطة ورفع الحصار؟
هل يتعين على الفلسطينيين البقاء في حالة حرب مفتوحة مع إسرائيل مع كل ما تستجره من نكبات وويلات وخسائر فادحة؟
المؤسف أن يرى الشعب سباقاً محموماً بين مساعي "تهدئة" على جبهة غزة وحماس وجهود استعادة "الثقة" بين رام الله وإسرائيل.
كيف ترى السلطة حال فلسطين عند مغادرة بايدن للحكم؟ ويتعين على حماس أن تجيب على سؤال: أما سئمتم الرهان على عواصم إقليمية وعربية؟
حركة الدبلوماسية في فلسطين وحولها تكاد تراوح ما بين: "تهدئة" بين حماس وإسرائيل، واستعادة "ثقة" بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
شعب فلسطين بعد انتفاضة القدس وسيفها يريد سباقاً بين فتح وحماس لابتداع أشكال جديدة من الكفاح ضمن رؤية استراتيجية جديدة ومبادرات لبناء القوة والاقتدار.
* * *
حركة الاتصالات والمبادرات الدبلوماسية التي تدور في فلسطين وحولها، تكاد تراوح ما بين حدين اثنين: "تهدئة" بين حماس وإسرائيل، واستعادة "ثقة" بين الأخيرة والسلطة الفلسطينية.
بين هذين العنوانين الرئيسين، يتحرك الوسطاء والمبادرون، ودائماً تحت سقف استراتيجية أمريكية جديدة، جاءت بها إدارة جو بايدن، وترمي إلى احتواء مختلف الأزمات وإداراتها، وتبريد بؤر التوتر وإطفائها، من دون أن ترغب، أو تقوى إن رغبت، على حل أيٍ منها، حلاً جذرياً، أملاً في توفير الوقت والجهد للتفرغ لمعالجة التحديات الأكبر والأخطر، على جداول أعمال واشنطن العالمية.
ونقول "تهدئة مسمومة"، لأنها لا تعني شيئاً سوى تبديد طاقة الشعب الفلسطيني وإضعاف قدرته على مقاومة الاحتلال والاستيطان والعنصرية ... وتمرير حلقة إضافية من حلقات "السلام الاقتصادي"، ومن دون أن يُفتَح أفق جديد، لحلول جذرية ونهائية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أو حتى تقديم وعود ملزمة بالتوصل إلى مثل هذه الحلول ... هدف "التهدئة" الحفاظ على "الستاتيكو" في المناطق الفلسطينية المحتلة، سيما إن علمنا بأن السلطة، ومعها إسرائيل، تطالب بأن تعم التهدئة جبهات القدس والضفة الغربية، بدل أن تقتصر على حدود قطاع غزة المحاصر.
أخطر ما في هذه المقاربة، أن "الستاتيكو"، كما عامل الوقت، لا يمتد في الفراغ في الحالة الفلسطينية، إسرائيل لا تعرف "الستاتيكو"، وعقارب ساعة الاستيطان لا تتوقف عن الدوران بتاتاً، ومشاريع "أسرلة" القدس وتهويدها، تتسارع باطّراد، والمستوطنون يتكاثرون كالنبت الشيطاني، ويزدادون تغوّلاً على المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل ... فيما الحالة الفلسطينية تشهد مزيداً من الضعف والتفكك، ويغرق الفلسطينيون تحت سلطتي غزة ورام الله، في مستنقعات الانقسام والفساد والاستبداد والحوكمة غير الرشيدة، وتُسحَب الكثير من البسط من تحت أقدامهم.
أما "الثقة"، التي تدور كثيرٌ من التحركات حول استعادتها وإجراءات بنائها، فلا تعني شيئاً، بغياب أي أفق لحل عادل وشامل، سوى التوطئة لـ"التهدئة" الشاملة أولاً، وشارة الانطلاق لمرحلة جديدة من مشروع "السلام الاقتصادي" ثانياً، وتكريس للستاتيكو وتجريد الفلسطينيين من روح المقاومة والانتفاض ثالثاً، وخلق بيئة ضرورية، لاستمرار المسيرة الممتدة للاحتلال ذي الخمسة نجوم رابعاً.
"التهدئة" التي يُراد تكريسها، كما "الثقة" التي يُراد استعادتها، ليست في واقع الحال، سوى "تسوية حساب" مع "انتفاضة القدس وسيفها"، حين خرج الشعب الفلسطيني بكل فئات وشرائحه، ومن مختلف أماكن تواجده، في هبّة شعبية واحدة، مستعيداً لحمته ووحدته، شاهراً كل ما بحوزته من أدوات كفاحية، مسلحة وسلمية، ليعيد فلسطين إلى جغرافيتها الأولى، وليلعن على الملأ، بدء العد العكسي لكنس نظام الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري.
يكفي أن نقرأ "كيف قرأ الملك عبد الله الثاني"، انتفاضة القدس وسيفها، حتى نرى خسارتنا بتساوق القيادة الفلسطينية على ضفتي الانقسام، مع طروحات "التهدئة" واستعادة "الثقة".
فالحرب الأخيرة من على غزة، من وجهة نظره، لم تنته بمنتصر، ما يعني بلغتنا، نحن المراقبين، أن غزة خرجت منتصرة، فمنع إسرائيل من تحقيق النصر في ضوء حسابات القوة المختلة لصالحها، هو النصر المبين بعينه.
وإسرائيل واجهت الحرب من داخلها في إشارة إلى انتفاضة فلسطينيي 48، ما أظهر "هشاشة" الواجهة الاقتصادية – التكنولوجية – العسكرية المتفوقة لهذا الكيان ... هذه تقييمات ليست جزافية، سيما حين تصدر عن العاهل الأردني، ومن موقعه، ويتعين أن تحفر عميقاً في وعي ووجدان الفلسطينيين كما الإسرائيليين، ومن باب أولى أن يغّذ الفلسطينيون السير على هذا الطريق، لا أن يتوقفوا في منتصفه، بحجج وذارئع خادعة وزائفة، من نوع: "التهدئة" و"الثقة".
هل يعني ذلك أنه يتعين على الفلسطينيين البقاء في حالة حرب مفتوحة مع إسرائيل، مع كل ما تستجره من نكبات وويلات وخسائر فادحة؟
بالطبع لا، فنحن من أنصار نظرية لطالما نافحنا عنها، ومؤدّاها أن أفضل أدوات الكفاح التي يتعين على الفلسطينيين اللجوء إليها واستخدامها، تلك التي ترفع كلفة الاحتلال بتدرج وعلى نحو مستدام من جهة، وتلك التي يقوى شعب فلسطين على احتمال عقابيلها، شريطة بقائه صامداً فوق تراب وطنه من جهة ثانية، وتكفل ديمومة المقاومة والانتفاض بمختلف أشكالهما، من دون إسقاط حق الفلسطينيين في استخدام مختلف أشكال الكفاح المشروعة، بل ومن دون التوقف عن العمل لامتلاك أدواتها المختلفة، من جهة ثالثة.
ومثلما أنه لا يكفي لـ"المقاومة الشعبية" أن تكون "موقعية" أو "موسمية"، فإن المقاومة المسلحة، التي تنطلق مرة كل عامين أو ثلاثة، وأحياناً أكثر من ذلك بكثير، لا تكفي بدورها. المطلوب تطوير المقاومة الشعبية في الضفة والقطاع والقدس، والإبقاء على خيارات القوة في قطاع غزة، إلى حين تشتد الحاجة لها..
الاشتباك مع الاحتلال، يتعين أن يكون فعلاً كفاحياً يومياً، لا موسميا أو موقعياً، ولا "خياراً استراتيجياً مسلحاً مع وقف التنفيذ". وتزداد هذه المقاربة أهمية و"راهنيةً" في ضوء عاملين اثنين:
أولهما: استراتيجي؛ وينطلق من فرضية باتت شبه مؤكدة: لا شريك إسرائيلياً في "حل الدولتين"، لا الآن ولا في المدى المنظور، وغياب أي رغبة أو إرادة أمريكية جادة وجدية، في ترجمة رؤيا بايدن حول الدولتين..
وثانيهما، تكتيكي؛ ويتعلق بسعي إسرائيل لتفكيك معادلة الربط بين غزة والقدس التي أشهرتها حماس مع "سيف القدس"، والعودة لمألوف السياسات والممارسات الإسرائيلية في مصادرة الحقوق وانتهاك المقدسات وتهديم المنازل وتشريد السكان الأصليين، دون خشية من أية عواقب تذكر..
على الفلسطينيين العمل على إعادة "ترميم" صورتهم الردعية، من خلال البرهنة، دائماً وباستمرار، بأن لجرائم إسرائيل في القدس والضفة وغزة، أثماناً يتعين دفعها، هنا والآن، وليس "في المكان والزمان المناسبين".
وإذا كان يتعين على السلطة أن تجيب اليوم، على سؤال: كيف ترى الحال الفلسطيني بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، عند مغادرة بايدن للبيت الأبيض، ولا نريد أن نتحداها فنسأل عن حال الفلسطينيين بعد عقد أو عقدين من الزمان، فإنه يتعين على حماس، وبالقدر نفسه، أن تجيب على سؤال: أما سئمتم من الرهانات على عواصم إقليمية وعربية؟
أما مللتم محاولاتكم العبثية للجمع ما بين السلطة والمقاومة، التهدئة والمقاومة، البقاء في السلطة ورفع الحصار، ألم تصلوا إلى النتيجة المنطقية الوحيدة، ومؤدّاها أن الخلاص يكون للجميع وبالجميع، وليس لفريق على حساب آخر؟
أما آن الأوان، لمبادرة وطنية جامعة، تضع المترددين والمراهنين على بايدن – لبيد، والمتعلقين بأهداب "التهدئة" واستعادة "الثقة"، في أضيق الزوايا، بالاستناد إلى مزاج شعبي رافض لهذه الرهانات والسياسات، وكاره للنزعات الفصائلية الموغلة في أنانيتها، والتواق لوحدة وطنية جامعة ومناضلة، للخلاص من الاحتلال والحصار والاستيطان والفصل العنصري؟
شعب فلسطين بعد "انتفاضة القدس وسيفها"، يريد أن يرى سباقاً بين فتح وحماس لابتداع أشكال جديدة من الكفاح والنضال من ضمن رؤية استراتيجية جديدة، وإطلاق مبادرات جديدة لبناء عناصر القوة والاقتدار الفلسطينيين، لا أن يرى سباقاً محموماً بين مساعي "التهدئة" على جبهة غزة وحماس، وجهود استعادة "الثقة" بين رام الله وإسرائيل.
* عريب الرنتاوي كاتب صحفي أردني/ فلسطيني