دروس جيوسياسية لأزمة أوكرانيا

الخميس 24 مارس 2022 04:52 ص

دروس جيوسياسية لأزمة أوكرانيا

أزمة أوكرانيا حالة نموذجية لمواجهة متجددة بين قوى إمبريالية لكن هذا لا يعني ان الوضع لا يبعث على القلق.

يبدو دور الاتحاد الأوروبي هامشي جداً في هذا الصراع نظرا لحاجة العديد من أعضائه الكبيرة إلى النفط والغاز الروسيين.

عند اندلاع الحرب، يدفع المدنيون الضريبة الأثقل في حين يحصد تجار السلاح، في مقدمتهم أميركا وروسيا، أكبر المكاسب.

خلال أي حرب كل من يريد البقاء حذرا يستمع لحجج المعسكرين المعنيين قبل تكوين وجهة نظر، أو يشكك برواية رسمية يُتَعامل معه فورا كمتواطئ مع العدو.

كل المناطق التي تسيطر عليها الرأسمالية تنتج فائض رساميل تبحث عن توسيع مجالها الجغرافي مما يؤدي حتما لصراعات جيوسياسية للسيطرة على مناطق أخرى.

قطعت أميركا وألمانيا وعدا لغورباتشيف بعدم توسع الناتو باتجاه حدود روسيا ونُقض هذا العهد بعد أقل من عشر سنوات بانضمام المجر وبولندا والتشيك إلى حلف الناتو.

الوضعية الراهنة ليست إلا حلقة جديدة في مسلسل مستمر منذ قرابة الثلاثين عاماً، وهو يجسد صراع روسيا والولايات المتحدة من أجل توسيع نطاق تأثير ونفوذ كل واحدة منهما.

* * *

الأسئلة الكبرى التي تطرح نفسها في بداية هذه السنة: ما الذي تحاول روسيا فعله؟ لماذا تحشد آلاف الجنود على حدودها مع أوكرانيا؟ وما هي تبعات اجتياح أوكرانيا على باقي القارة الأوروبية؟ فيما يلي جولة جيوسياسية صغيرة لفهم الوضع.

أجواء الاحتقان والتوتر بين أوكرانيا والنظام الروسي ليس وليدة اليوم. يجب أن نرجع بالزمن إلى نهاية الحرب الباردة لفهم الوضع الراهن للعلاقات بين البلدين. انهيار النظام السوفياتي وتقطيع أوصال الاتحاد السوفياتي والهزيمة المذلة أمام العملاق الأمريكي، كلها إهانات مُرّة لم تستطع روسيا ابتلاعها بسهولة.

بلا شك، أفضى انفراج العلاقات في تسعينات القرن الفائت إلى تقارب بين القوتين العظميين، لكنه تأسس قبل كل شيء على قاعدة برنامج "علاج بالصدمة"، من تخطيط صندوق النقد الدولي (وبالتالي الولايات المتحدة الأمريكية) أدى إلى الخصخصة الشاملة (التصفية بالأحرى) لقطاعات كاملة من الاقتصاد الروسي لفائدة اوليغارشيين محليين وقوى أجنبية.

هناك عامل أساسي ساهم أيضاً في هذا التقارب: الوعد الذي قطعته الولايات المتحدة وألمانيا لغورباتشوف بعدم توسع "الناتو" (حلف الشمال الأطلسي) في اتجاه الحدود الروسية.

صحوة الإمبريالية الروسية

نقض هذا العهد بعد أقل من عشر سنوات مع انضمام المجر وبولونيا وجمهورية التشيك إلى الحلف العسكري الأطلسي. بعد ذلك، أثار اعتزام الولايات المتحدة نصب دروع مضادة للصواريخ في أوروبا الشرقية، وكذلك دعم الدول الغربية لعدة ثورات في جمهوريات سوفياتية سابقة (ثورة الورود في جورجيا سنة 2003، وخاصة الثورة البرتقالية في أوكرانيا في السنة التالية)، حساسية روسيا (بقيادة بوتين آنذاك) لكنه منحها خاصة ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها.

بلغت هذه التدخلات أوجها مع الاعتراف باستقلال منطقتين انفصاليتين في جورجيا سنة 2008، وبالطبع ضم القرم في 2014 (شبه جزيرة تقع جنوب أوكرانيا وتشكل نقطة استراتيجية بالنسبة لروسيا لأنها تسهِّل لها الوصول إلى البحر الأسود، وبالتالي إلى مسالك التجارة البحرية الدولية) والدعم المقدم (دون اقرار رسمي) إلى الانفصاليين في "دونباس، المنطقة الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسيا واوكرانيا.

الوضعية الراهنة ليست إذاً إلا حلقة جديدة في مسلسل مستمر منذ قرابة الثلاثين عاما، وهو يجسد صراع روسيا والولايات المتحدة من أجل توسيع نطاق تأثير ونفوذ كل واحدة منهما.

حرب باردة جديدة؟

انطلاقا مما سبق، هل يمكن القول اننا عدنا إلى زمن الحرب الباردة؟ هذه النظرة للأمور تبدو للوهلة الأولى وجيهة، لكنها تغفل عن حقيقة ان الاختلافات الايديولوجية التي لعبت دورا جوهريا خلال الحرب الباردة لم تعد قائمة. الأسوأ من ذلك ان التحاق روسيا المتحمس بالرأسمالية المعولمة والمنفلتة من الضوابط يزج بها في قلب التناقضات الملازمة لهذا النظام، ومنها ضرورة ايجاد منافذ جديدة والوصول إلى موارد جديدة خارج حدود البلاد.

ومن البديهي ان هذا التوسع لا يمكن ان يتم إلا على حساب القوى الأخرى العالقة في المعضلة نفسها. يلخص الجغرافي ديفيد هارفي الأمر كالتالي: "كل المناطق التي تسيطر عليها الرأسمالية تنتج فائض رساميل فتبحث عن حلول عبر توسيع مجالها الجغرافي، مما يؤدي حتما إلى صراعات جيوسياسية للتأثير في مناطق أخرى أو السيطرة عليها".

في نهاية المطاف، ما نشهده الآن ليس إلا مواجهة جديدة بين إمبرياليتين يلتجأ فيها الجانب الروسي إلى الممارسات والضربات القذرة نفسها التي تلجأ اليها الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من قرن:

• التدخل في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى. فبالإضافة إلى أوكرانيا وجورجيا، فإن دعم روسيا لبشار الأسد لا يمكن إلا أن يذكّرنا بالديكتاتوريات العديدة التي دعمتها - وحتى نصّبتها - الولايات المتحدة في العقود الأخيرة (إيران، تشيلي، البرازيل، نيكاراغوا، هايتي، زائير سابقا، العراق، الخ.).

• اسناد قوى انفصالية لضرب استقرار البلدان وصناعة دول "صديقة". هنا أيضا تبدو سياسة الكرملين مألوفة، اذ سبق ان شاهدناها مثلا في "بنما"، المنطقة التي اقتُطعت من كولومبيا في 1903 بدعم من الولايات المتحدة لبسط سيطرتها على قناة بنما، وكذلك في منطقة البلقان لما دعمت الولايات المتحدة استقلال كوسوفو في 2008 على الرغم من مخالفته للقانون الدولي.

• الاستعانة بخدمات الميليشيات غير الرسمية. لا يمكننا إحصاء الحوادث والقضايا التي تورطت فيها وكالة المخابرات المركزية "سي آي إيه" (اغتيال قادة بلدان، تنظيم انقلابات، تجسس، فساد، حروب أهلية) خدمة للمصالح الأمريكية. لكن لا يبدو ان ميليشيا "فاغنر" تقل عنها شطارة. تنشط هذه الشركة العسكرية، التي تعمل لحساب الكرملين بشكل غير رسمي، في أغلب ميادين المعارك التي تلعب فيها روسيا دوراً. فمن سوريا إلى مالي، مروراً بأفريقيا الوسطى وليبيا، نجد ميليشيا "فاغنر" في قلب الاتفاقيات الأمنية التي تخدم في نهاية المطاف المصالح الروسية في البلدان المعنية.

آلة بروباغندا تعمل بنشاط

بطبيعة الحال لا تُبرِّر أي سياسة إمبريالية نفسها بأهدافها الحقيقية، بل ترافقها حملة اتصالية تُخفي المصالح الفعلية تحت غطاء من "الدوافع المحمودة". "الحقيقة هي دائما الضحية الأولى للحرب "، يقول روديارد كبلينغ. وفي حالتنا هذه، يخوض الطرفان حرباً دعائية مكثفة طبقاً لل"مبادئ الأساسية للدعاية الحربية" الشهيرة التي صاغتها المؤرخة البلجيكية آن موريلي.

يبدأ الأمر بتحميل كل طرف المسؤولية للطرف الآخر. وفعلا يلقي الروس كما الأمريكيين باللائمة على بعضهما البعض، فلا أحد منهما يرغب في الحرب، لكنه قد يُكْره على الانخراط فيها بسبب ما يفعله الطرف الآخر. هذه دعاية كلاسيكية مثلها مثل شخصنة الشر كما يتجلى ذلك في الصورة الشيطانية لفلاديمير بوتين التي يتم تسويقها في الغرب.

هذا الأخير يجسد لوحده التهديد الروسي، مما يعني ضمنيا أن بلداً تعداده أكثر من 140 مليون نسمة، بكل حقائقه الاجتماعية المعقدة، وتناقضاته الداخلية، يُختزل في إرادة وشخصية رجل واحد. ويبرر كل معسكر تأجيج الصراع بدوافع انسانية بطبيعة الحال. من جهة، الدفاع عن سلامة ووحدة الأراضي الأوكرانية، ومن الجهة الأخرى التصدي للاضطهاد الذي قد يكون تعرض له الانفصاليون الموالون لروسيا.

وبطبيعة الحال أيضاً هناك الاختزال الدائم للأمور في ثنائيات متضادة، دون نسبية أو تباينات: ضروة الانحياز لهذا المعسكر او ذاك! وكما تقول آن موريلي "خلال أي حرب، كل من يريد البقاء حذراً فيستمع إلى حجج المعسكرين المعنيين قبل أن يصيغ وجهة نظر، أو يشكك في الرواية الرسمية، يتم التعامل معه فوراً كمتواطئ مع العدو". هذه قصة قديمة..

باختصار، ما نشهده اليوم لا يبدو باي حال من الأحوال أمراً فريداً غير مسبوق، بل يشكّل حالة نموذجية لمواجهة متجددة بين قوى امبريالية (على الأقل تعتبر نفسها كذلك). لكن هذا لا يعني ان الوضع لا يبعث على القلق. فعند اندلاع الحرب يدفع المدنيون الضريبة الأثقل في حين يحصد تجار السلاح (في مقدمتهم الولايات المتحدة وروسيا) المكاسب الأكبر. أما الاتحاد الأوروبي فيبدو دوره هامشي جداً في هذا الصراع، والسبب هو بلا شك الحاجة الكبيرة للعديد من أعضائه للبترول والغاز الروسيين.

*مجموعة "جغرافيات متحركة" تتألف من أربعة باحثين من بلدان وجامعات عديدة، أسسوا "موقعاً تربوياً" لفهم العالم من خلال أماكنه كما يقولون: مانوك بورزاكيان (لوزان، سويسرا)، جيل فوماي (جامعة السوربون/المركز الوطني للبحث العلمي)، رينو دوتيرم (آرلون، بلجيكا)، ناشيديل روياي (جامعة بوردو، فرنسا).

المصدر | مدونة ميديابارت - ترجمة محمد رامي عبد المولى

  كلمات مفتاحية

إمبريالية، حروب، رأسمالية، صراع دولي، بروباغندا، قومية، روسيا، الولايات المتحدة، الناتو، الاتحاد الأوروبي،