التغيرات الهيكلية فى سوق النفط وتداعياتها على الجغرافيا السياسية

الخميس 6 نوفمبر 2014 08:11 ص

الانخفاض الأخير في أسعار النفط العالمية يؤثر حتمًا على الاقتصاديات حول العالم. وهذه السلسلة – التي بين أيدينا - تتناول الأسباب وراء انخفاض الأسعار، وتأثيرها على مستهلكي الطاقة الرئيسيين في العالم والمنتجين أيضًا. في هذا الجزء الأول مناقشة للتغيرات الهيكلية في سوق النفط؛ لا سيما النمو في المعروض وتراجع الطلب. أمّا الجزء الثاني فهو دراسة الدول الأكثر معاناة جرّاء تراجع الأسعار. وسينصب تركيز الجزء الثالث على بلدان من المُحتمل أن تحقق مكاسب أكثر.

منذ منتصف يونيو الماضي انخفض سعر خام برنت بنسبة تقارب 25% - حيث هبط من سعر 115 دولار للبرميل إلى حوالي 87 دولار- في الوقت الذي ستبقى فيه العوامل الهيكلية التي تسبب قلقًا بين منتجي النفط في العالم قريبة من المستويات الحالية حتى نهاية عام 2015م على الأقل. وقد دفع هذا القلق العديد من البنوك الاستثمارية إلى خفض التوقعات المتعلقة بأسعار النفط في المستقبل القريب. ويرى "ستراتفور" أن إمدادات النفط ستظل مرتفعة في الوقت الذي يتزايد فيه إنتاج الطاقة في أمريكا الشمالية، بالإضافة إلى تردد دول "أوبك" أو ربما عدم قدرتها على خفض الإنتاج بشكل كبير يجد صدى. علاوة على ذلك؛ فإنه على المدى القصير سيعمل تباطؤ الاقتصاد الصيني وركود نظيره الأوروبي على الحد من احتمالية نمو الطلب على النفط. هذه العوامل قد تُصعّب عودة أسعار النفط العالمية للارتفاع إلى سابق عهدها.

ويُعتبر النفط هو السلعة الأكثر أهمية من الناحية الجغرافية-السياسية، وأي تغيير هيكلي يطرأ على أسواق النفط يظهر صداه في جميع أنحاء العالم معلنًا عن فريق فائزٍ وفريق خاسرٍ، من ناحية هناك البلدان التي تستهلك كميات كبيرة من الطاقة تأقلمت في السابق مع ارتفاع أسعار النفط حاجز الــ 100 دولار أمريكي للبرميل منذ بداية عام 2011م في وقت حاولت فيه الدول المتقدمة الخروج من الأزمات المالية والديون،ووجود فترة طويلة تنخفض فيها أسعار النفط من الممكن أن توفر بعض الراحة لهذه البلدان. وفي المقابل؛ هناك المنتجون الرئيسيون للنفط الذين اعتادوا ارتفاع الأسعار النفط وغالبًا ما يستفيدون من ذلك في دعم ميزانياتهم الوطنية وهؤلاء هم الأكثر تضرراً من انخفاض أسعار النفط لفترة طويلة، حيث سيدفعهم لإعادة التفكير في نفقاتهم.

تحليل

كمية إنتاج النفط التي دخلت أسواق التعامل على مدى الأشهر الأربعة الماضية كبيرة للغاية. لقد زادت الولايات المتحدة انتاجها من 8.5 مليون برميل يوميًا في يوليو/تموز إلى ما يقدر من 9 مليون برميل يوميًا، كما زاد إنتاج النفط الليبي من حوالي 200 ألف برميل يوميا إلى أكثر من 900 ألف برميل، كما رفعت المملكة العربية السعودية ونيجيريا والعراق من إنتاجهم في الأشهر الأخيرة، وإنتاج "أوبك" حاليًا في أعلى مستوياته منذ عامين. ولوضع ذلك في إطار الصحيح؛ فإن توقعات وكالة الطاقة الدولية لنمو الطلب العالمي على النفط في 2014م تبلغ 700 ألف برميل فقط يوميًا – أي ما يقرب من نصف إجمالي الزيادة الإنتاجية المذكورة آنفًا.

وبالنظر إلى عام 2015م؛ فإن آفاق النمو لإنتاج الطاقة في أمريكا الشمالية لا تزال تبدوا إيجابية. وحتى بعد ارتفاع الإنتاج بحوالي مليون برميل يوميًا في 2012 و2013م ومرة أخرى في عام 2014م فإن «إدارة معلومات الطاقة» الأمريكية تتوقع زيادة إنتاج النفط الأمريكي بحوالي 750 ألف برميل أخرى يوميًا في العام المُقبل. وفي السياق ذاته؛ قللت الإدارة من أهمية نمو إنتاج النفط الصخري «الذي يُستخرج من طبقات الرمال المتراصة أو المحكمة» وتأثيره على أسعار النفط.

ويبقى خفض الإنتاج بعيد الاحتمال

أعضاء «أوبك» الذين لديهم المرونة دون غيرهم لخفض الإنتاج عن طيب خاطر هم الإمارات العربية المتحدة والكويت والمملكة العربية السعودية. ولا يوجد من الأعضاء الآخرين من يسمح له وضعه المالي بخفض الإنتاج. كلٌ من ليبيا والجزائر والعراق وإيران ونيجيريا وفنزويلا بحاجة لأقصى سعة انتاجية بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار لتمويل ميزانياتها وبرامج الإنفاق الاجتماعي. وبشكل – لفت الأنظار - دعا محافظ «أوبك» عن ليبيا المنظمة لخفض الانتاج بمقدار 500 ألف برميل يوميًا لرفع الأسعار، في الوقت الذي لم يُشر فيه إلى مشاركة بلاده في مثل هذا الخفض، وفي الوقت ذاته؛ فإن السعودية بدا أنها تسير عكس التيار مُعطيةً الأولوية للحصول على حصة أكبر في السوق قبل ارتفاع الأسعار.

وضع المملكة العربية السعودية باعتبارها «المنتِج المُرجِّح» يعني تاريخيًا أن «آرامكو» السعودية ستخفض الإنتاج لتعود الأسعار للارتفاع. لكن مع ازدياد إنتاج الولايات المتحدة بهذه السرعة، والأسعار التي لا تزال مرتفعة نسبيًا فإن الرياض لا يشغلها ذلك كثيرًا: الانخفاض الكبير في إنتاج النفط ربما لا يرفع السعر بالصورة الكافية التي تجعل التخلي عن صادرات إضافية أمرًا جديرًا بالاهتمام. لقد وجدت الرياض نفسها في مثل هذا الموقف في ثمانينيات القرن الماضي عندما خفضت إنتاجها لتكتشف أن سيطرتها على أسعار النفط العالمية لم تكن كافية. لقد تردد السعوديون في اللعب بنفس الكارت منذ ذلك الحين، وبدلاً من ذلك فضّلوا ممارسة تأثير صغير على الأسعار مع استمرار الإنتاج عند مستويات مُرتفعة. وعلى نطاق أوسع؛ وخلال الأربعين عامًا الماضية جمع السعوديون – بالإضافة إلى الإماراتيين والكويتيين - صناديق ثروة كبيرة من النقد الأجنبي تجعلهم يجلسون وينتظرون حتى ينقشع غبار انخفاض أسعار النفط.

ويعني ذلك أنه إذا استمرت أسعار النفط في التراجع فسيدفع ذلك المنتجين الأمريكيين إلى إبطاء وتيرة الإنتاج. تكاليف إنتاج النفط الصخري في أمريكا الشمالية مُتباينة من حوض لآخر، ولكن طالما لا تواصل أسعار النفط تراجعها فإن كل إنتاج النفط الصخري غالبًا ستبقى مُربحة ولن يتوقف التنقيب. عدد منصات النفط الأمريكية ما تزال قرب المستويات القياسية؛ والتي تُشير إلى أن الانخفاض الأخير في أسعار النفط لن يؤثر على الرغبة في مزيد من التنقيب.

في الواقع؛ فإنه على المدى القصير إلى المدى المتوسط​​، ستكون آفاق الإنتاج خارج أمريكا الشمالية أكثر ضبابية. معظم الزيادات الأخيرة في كل مكان على مستوى العالم جاءت نتيجة كحدثٍ مستقل بذاته له أسابه؛ على سبيل المثال: الطفرة في الإنتاج الليبي. لا يوجد سوى عدد قليل من التغييرات الأخرى - مثل الصادرات الإيرانية أصبحت خارج القدرة على التحكم، أو خفض آرامكو السعودية لطاقتها الإنتاجية الاحتياطية - التي ألقت بكميات كبيرة من النفط مرة أخرى في السوق. في الواقع؛ فإنه من المرجح أن يتراجع الإنتاج في أماكن مثل نيجيريا وليبيا. كل هذه الاحتمالات تقلل من إمكانية حدوث مزيد من التهاوي أسعار النفط.

احتمالية تباطؤ انخفاض الطلب

فيما يخص جانب الطلب؛ فإن سوق النفط الصعودي هو أمر غير محتمل الحدوث. الاستهلاك النفطي لأمريكا الشمالية في انخفاض منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالي. السيارات الكهربائية والغاز الطبيعي والبدائل الأخرى تواصل تسللها إلى سوق النفط في أمريكا الشمالية، وإن كان التسلل بطيئًا للغاية. من جانبها؛ فإن سوق النفط الأوروبية تعرض نفس الأنماط في أمريكا الشمالية، ولكن في أوروبا يحدث التراجع الهيكلي في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي لدى العديد من الاقتصاديات الأوروبية الأكثر تقدما؛ تمامًا  كالذي يحدث حاليًا في فرنسا حيث النمو الصفري الواضح.

وفي الوقت ذاته؛ سيستمر الاقتصاد الصيني في التراجع من ذورة استثماراته بعد عام 2008م التي شهدت طفرة في البناء. تراجع أسواق الإسكان والصناعات المرتبطة به على الصعيد الوطني هو أمر في القلب من التباطؤ الاقتصادي في الصين، وسيحدد – بنسبة كبيرة – القوة الاقتصادية الشاملة للصين خلال عام أو اثنين. وعلى الرغم من عدم توقع الانهيار في سوق الإسكان الصيني خلال الــ 12 إلى 18 شهر المقبلة، إلا إنه لو حدث انهيارٌ بالفعل فسيدخل اقتصاد الصين في حالة من الفوضى، ومن ثمّ يتراجع الطلب على النفط. وتتوقع «ستراتفور» ألا تسمح بكين بحدوث ذلك؛ حيث من المرجح أن تسنّ الحكومة المركزية مزيدًا من المحفزات مماثلة لما تبنته من قبل؛ مثل مشاريع البنية التحتية العامة واسعة النطاق التي يقودها الاستثمار الحكومي.

ومن الممكن أن يظل الطلب الصيني على النفط قويًا نسبيًا في غياب الانهيار الاقتصادي، ولكن زيادة الطلب في الصين من المرجح أن تكون أكثر اعتدالاً من المعتاد لتتراوح حول 400 ألف برميل يوميًا على مدار العام. وغالبًا ما تدور الزيادات في الطلب في بقية دول العالم مُجتمعة في فلك هذه الأرقام. وفي الوقت ذاته؛ فإن إمدادات النفط العالمية من المرجح ألا تنخفض في الأشهر المقبلة. وبناءً عليه؛ فإن هناك من الأسباب القوية التي تدعوا للاعتقاد بأن أسعار النفط ستبقى أقل من 100 دولار للبرميل لفترة أطول خلال عام 2015م، ما لم تغير السعودية و«أوبك» مواقفهم بشأن خفض الانتاج.

وستتحول كل العيون التي تراقب أسواق النفط إلى اجتماع «أوبك» المقرر له 27 نوفمبر انتظارًا لأي تحوّلات. وإذا بقي الأمر على حاله فإن أسعار النفط المنخفضة ستواصل تأثيراتها الجغرافية - السياسية على الدول المستهلكة والمنتجة على حد السواء.

المصدر | ستراتفور

  كلمات مفتاحية

انخفاض أسعار النفط أوبك

أسعار النفط تهوي لأدنى مستوياتها في سنوات والسعودية تخفض سعر الخام لأمريكا

خامنئي يحذر: الاعتماد على النفط يضع إيران تحت رحمة القوى الكبرى

السياسة والسوق في الانهيار الفادح لأسعار النفط

ضد من تستخدم السعودية سلاح النفط ؟!

«فورين بوليسي»: انخفاض أسعار النفط يضر الخليج وصناديق الثروة السيادية هي الحل

أسعار النفط وسياسات الصرف الأجنبي .. الآثار على المستهلكين والمنتجين

أسعار النفط تواصل تحديد معالم الجغرافية السياسية

"طغاة النفط" في مأزق أقوى مما توقعناه!

«وكالة الطاقة الدولية» تتوقع ”حقبة جديدة“ لسوق النفط ولا عودة سريعة للأسعار المرتفعة

غروب شمس هيمنة «أوبك» في عهد جديد من انخفاض أسعار النفط

لا اتفاق في محادثات السعودية وروسيا على خفض إنتاج النفط قبل اجتماع اوبك

قرار «أوبك» يهبط بـ«برنت» إلى 71.25 دولارا والخام الأمريكي دون 68 دولارا

في النفط.. لا صوت يعلو فوق صوت السعودية

محلل إسرائيلي: «ربيع النفط» سيضع نهاية لنفوذ دول الخليج بعد انهيار الأسعار

الذهب الأسود والبجعة السوداء

لماذا يختلف درس عام 1986 في النفط عن درس 2015؟!

كيف أثرت منافسات الجغرافيا السياسية على أسعار النفط؟

«مجلس العلاقات الخارجية»: خمسة دروس نتعلمها من تهاوي أسعار النفط

«وول ستريت جورنال»: الدول النفطية تكافح لتحقيق التوازن الصعب بعد صدمة تراجع أسعار الخام