لماذا قتل نظام «السادات» الشاعر «نجيب سرور» بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية؟ (2ـ2)

الثلاثاء 4 أبريل 2017 11:04 ص

«لسه الشعب عايش

 لسه بيغني

 لسه بيقول مواويل

لسه بيهمس للناي بأوجاعه

 لسه بيضحك. بينكّت

 نكتة تنسف الهرم

 نكتة تردم قناة السويس».

تلك الكلمات واحدة من راهنات صاحب هذا التقرير الذي تناولنا في الجزء الأول  من هذا التقرير سيرة حياة الشاعر والممثل والمخرج والروائي الراحل «نجيب

 سرور»، بخاصة عودته إلى الله التي رواها عنه أحد المُثقفين العلمانيين الباقيين إلى اليوم «إسلام عفيفي»، وهو محتفظ بنفس الإيدلوجية 

البعيدة عن موقف «سرور» في نهاية حياته، كما تناولنا سيرة ميلاده لأب بالغ الفقر حتى إنه ليرى العمدة إلهًا، بحسب شعر «سرور» نفسه.

وُلِدَ «محمد نجيب محمد هجرس» المعروف بـ«نجيب سرور» في قرية أخطاب في الدقهلية في الأول من يونيو/حزيران من عام 1932م، وكان مبدعًا، عمّق الفقر وشدة الإحساس من وجدانه، وشق طريقه الدراسي حتى وصل إلى العام الأخير من كلية «الحقوق» ليعود على عقبيه من البداية إلى العام الأول من المعهد العالي للفنون المسرحية برفقة صديقه الراحل «كرم مطاوع».

 ثم لم يلبث أن نال بعثة مسرحية إلى الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهناك بدأ خروجه عن الإطار الرسمي للنظام المصري الذي تبناه، وأوجد له وظيفة في وزارة الثقافة ثم دعم بعثته، فصار ينتقد الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» عيانًا وسط أوساط طلابية لا تخلو من مُندسين، إن لم تكن تفيض بهم.

(الصورة للمُغني المصري علي الحجار في مسرحية منين أجيب ناس التي مثلت انطلاقته فنيًا).

وألغيت بعثته فلم يتراجع وسافر إلى بودابست ليتزعم مجموعة «الطلبة الديمقراطيين» ويتزوج وينجب «فريد» و«شهدي»، ولكن المطاردات تكثر من أشخاص مدسوسين من مصر، والنزعة الماركسية لدى «سرور» لا تقل ولا تخفت، فيعيب التصرفات الأمنية المصرية في سوريا، وقت الوحدة أو ما سُميَ بـ«الجمهورية العربية المتحدة»، وغفلة ينهار «سرور»، يُسلم نفسه إلى السفارة المصرية، ويُقبل تراب الوطن عند عودته، وتبدا صفحة أكثر ضراوة ومرارة من حياته!

أكثر المبدعين المُعارضين جدلاً

على مدار التاريخ المصري كله لم يفعل أديب ولا شاعر أو ربما مصري ما فعله «سرور» مع النظام والشرطة المصرية، آلاف اعترضوا وثاروا وهرب

وا من تنظيمين بما فيهم الإخوان من وجه سلطة باطشة بعد يوليو/تموز 1952م، حتى إنه قيل وتردد بقوة في تلك الفترة، وباعتراف بعض من المُسمين أنفسهم بـ الضباط الأحرار، وعلى رأسهم اللواء الراحل «محمد نجيب»، أول رئيس جمهورية في تاريخ مصر: «أزلنا ملكًا لنأتي بـ19 ملكاً، أي 19 ضابطاً من الجيش برتبة ملك»، بحسب كتابه «كنتُ رئيسًا لمصر».

عاد «سرور» إلى مصر بقدميه، في وقت كان «عبد الناصر» يرى الأديب مجرد بوق دعاية لمشروعه الاشتراكي، وقد استجاب له عالم الأدباء، والذي كان يخرج عن النص كان يُسجن من مثل «إحسان عبد القدوس»، فلزم الجميع الصمت، ولم يلبث «سرور» الذي صار مؤلفًا، ومخرجًا، بل ممثلًا لكن هذا كله لم يمنعه من أن يثور على النص الذي أُريدَ له من خلاله الانصياع على السلطة، إذ 

حرص النظام على ملىء جيوبه بالمال لكنه حرمه من زوجته وابنيه.

منعت سلطات الاتحاد السوفيتي زوجة « نجيب سرو»ر من السفر بولديه «شهدي» و«فريد» من الاتحاد السوفيتي، فيما كان نظام «عبد الناصر» المُتحسب مما يمكن أن يفعله «سرور» ثانية إن تُركَ للسفر إلى الاتحاد السوفيتي، بعد السابقة الأولى التي أمعن فيها في سبّ رئيسه وانتقاده، وكان «سرور» مولعًا بابنيه، فحاول التفاهم مع السلطات بلا جدوي.

(الصورتان لنجيب سرور في صباه وكهولته).

زواج مُدمر

ولكن «سرور» الذي لا يعرف الفشل، وهو المبدع في مجالات عدة حاول التلهي عن صغاره فتزوج من زميلته في المسرح والتمثيل، وأكاديمية الفنون، وهي ممثلة راحلة كانت قصتها مع «سرور» بمثابة القشة التي قصمت ظهر المُبدع!

كان «سرور» بمنزلة شعلة اللهب التي لا تكف عن تحويل الألم إلى إبداع، من مسرحيات شعرية عامية نُشرتْ ومُثلت مرات في حياته من مثل «منين أجيب ناس (1974م)، والتي كانت بداية لمطربين وممثلين شباب من مثل «علي الحجار» وغيره، و«كلمات متقاطعة» المسرحية التي نُشرت في عام 1996م بعد وفاته.

فيما كانت الممثلة التي تزوجها لها طرق أخرى في الصعود لا تخطر على بال «سرور»، فباختصار خانته مع طوب الأرض، كما كان يحلو له أن يحكي ويبكي لجميع المُثقفين من أصدقائه، فيطربهم أنينه، ويُذيعون فضائحه.

كان قلب «سرور» لا يسع أن تخونه زوجته مع وزير للثقافة مشهور في عهد «عبد الناصر»، ومع أديب كتب عنه دراسة نقدية في كتاب.

ومع منعه من السفر، وقيل أنه جاء على يد الممثلة نفسها، إذ إن أخيها كان يرأس مصلحة الجوازات والهجرة، وكيف لا يساهم في منعه وقد فضح أخته وفضحه، 

ومع الظلم والقهر المستشري داخل مصر، فقد «سرور» أعصابه تماماً ليؤلف أعجب ديوان في التاريخ «الأميات»، بل راح يُسجل الكلمات العامية البذيئة التي خلطها بالشعر، في سياق أقرب إلى الصراخ وأهازيج عُلب ونوادي الليل.

وفاض بالشاعر فمزج الدعارة التي عهدها بشكل خاص بنظام الحكم في مصر ليجىء ديوان «الأميات» عورة في تاريخ الأدب بل الثوة.

وتردد بقوة إن الديوان وصل إلى الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» فعهد إلى «صلاح نصر» بتأديب «سرور»، بخاصة أن شعره لم يكن قد استوى ولا انتهى، وكل يوم كان يضيف إلى ديوان «الأميات» قصيدة أو يُعدل من الأبيات، وكان السباب من نصيب المُهمين في الدولة بالتساوي.
(الصورة لنجيب سرور يغني قصيدته العامية البحر بيضحك ليه مع الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم والراحل الشيخ إمام).

قمة المأساة

وتُوفي «عبد الناصر» تاركًا مأساة «سرور» تتضاعف، وجاء «أنور السادات» فبادر «سرور» بسبّه بالاسم، لكن الأمر تجاوز الاحتمال لما تعرض لمذابح ما يُعر

ف بـ«أيلول الأسود» في سبتمبر من عام 1970م، فتدخل «سرور» بشع

ره، في مسرحية «الذباب الأزرق» عام 1971م، فما كان من السلطات الأردنية التي كانت تُصفي الفلسطينيين وقتها، إلا أن تدخلت لدى «السادات» لمنع «سرور» من سبّها الأردن هو الآخر، بعد منع عرض المسرحية أو طباعتها.

وفكر «السادات»، وفكر المحيطون به في حل يُخلصهم من شبح «سرور» المُبدع الذي يُنغص منامهم، وكعادة الأنظمة العربية 

القمعية لم يكن الحل التفاهم مع الشاعر، بل تدميره، لكن السؤال الصعب ..كيف والسجن والتعذيب يزيد من إبداعه.

ولا يعرف أحد مَنْ المجرم صاحب عقاب «سرور» بالطريقة الشاذة التي لم تخطر على بال الشياطين، إذ اقتادوه من طريقه في أحد شوارع القاهرة مباشرة إلى مستشفى «الأمراض النفسية والعقلية في القاهرة، دون أن يرى أو يدري أحد.

و«بالصدفة عرفه طبيب يعمل بالمستشفى بعد ستة أشهر.. عثر عليه يرتدي ملابس مهلهلة وبدون ملابس داخلية..ويطلب منه سيجارة.. تعرف عليه وأرشد الأصدقاء الذين يئسوا من معرفة طريقه. خرج نجيب أكثر سخطاً.. وقرأ في كل مكان.. أمياته التي أصبحت بين يوم وليلة أشهر قصائد هجاء»..بحسب «المستقبل» اللبنانية.

وصار حل «سرور» مصحات الأمراض النفسية، وصار يتمادى في التحدي حتى ليقول عن نفسه لصديقه «شوقي فهيم: «كنت أعي كل ما أفعله، كنت أهيم في الشوارع 

حافيًا مُمزق الملابس. أتذكر كل شيء. كنت أفعل ذلك متعمدًا. كنت أريد أن أكتشف حقيقة المثقفين ذوي الياقات المنشاة وربطات العنق، هؤلاء الذين يسلكون وكأنهم في لندن أو باريس. بينما كنت أحس عار الهزيمة والانكسار، كنت أريد أن أمرمغهم في التراب وأقول: ها أنا نجيب سرور الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي والممثل. ها أنا أسير في شوارع القاهرة والإسكندرية حافي القدمين، رث الثياب، ها أنا أمرّغ وجوهكم في الطين».

ولكنه في رسالة إلى «يوسف إدريس» تجاهلها الأخير قال الحقيقة إنه خرج من المستشفى «حطاما أو كالحطام! خرجت إلى الشارع، إلى الجوع والعري والتشرد، والبطالة والضياع، وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس. خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي، وظللت مجمّدًا محاصرًا موقوفًا. وبعيدًا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدًا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان».

فقط في عام 1975 صارت له شقة من غرفة ودورة مياه كما كان يحلم، ولم يدم الحال به طويلاً إذ توفي في مستشفى دمنهور العام إثر نوبة سكر قضت عليه في 24 من أكتوبر/تشرين الأول من عام 1976م.
(الصورة لأسرة الشاعر نجيب سرور زوجته الروسية وابنيه فريد وشهدي إلى جوار الكاتبة صافيناز كاظم مع ابنتها من الشاعر أحمد فؤاد نجم نوارة في بغداد).

وبوفاة «سرور» طُويتْ حياة أشهر مثقف مصري شامل واجه الشرطة والنظام المصريين فواجهاه بمنتهى القسوة حتى تسببا في مقتله.

 ومن بعده أخذ ابنه «شهدي نجيب سرور»، الصحفي في «الأهرام ويكلي» من روح أبيه، وكان قد نجح في دخول مصر، فبث ديوان «الأميات» على الإنترنت، وحكمت السلطات المصرية عليه بالسجن في عام 2001م ليهرب إلى الاتحاد السوفيتي قبل التنفيذ!

 

المصدر | الـخليــــج الجــديــد

  كلمات مفتاحية

نظام السادات نجيب سرور مستشفى الأمراض العقلية