«ذي ناشيونال إنترست»: حرب الـ200 عام لتركيا ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»!

السبت 25 يوليو 2015 08:07 ص

في عام 1818، تم نقل الأمير «عبد الله بن سعود» إلى مدينة اسطنبول في تركيا لتنفيذ حكم الإعدام بحقه. لم يكن «عبدالله بن سعود» معتقلا عاديا، حيث إنه كان زعيم التمرد الذي أرّق مدينتا الحرمين الشريفين، مكة المكرمة والمدينة المنورة، لمدة عشر سنوات، وكان قد تجرأ وأعلن أن السلطان العثماني، الذي كان يُطلق عليه آنذاك لقب الخليفة وأمير المؤمنين، كافر خرج عن الملة. ونظرا لتفسيرات «ابن سعود» الوهابية الصارمة لتعاليم الدين الإسلامي، والتي كان من بينها الإفتاء بحرمة استماع الموسيقى، فقد أهانه العثمانيون وجعلوه يستمع إلى العود.

وجدير بالذكر أن أقسى درجات العقوبة الوحشية كان دوما مخصصة للزعماء الدينيين المتمردين، فبعضهم كان يُعلّق على فوهات المدافع وقذائف الهاون ثم يتم تفجيره إلى أشلاء تتناثر فلا يُجمع منها شيء.

وبوضوح، فقد مس التمرد وترا حساسا للعثمانيين. فالثوار ينتمون إلى المذهب التقليدي السلفي للإسلام السني، وهذا يعني أن معتقدهم مبني على قراءة حرفية لأقدم النصوص الإسلامية. وعلى الناحية المقابلة، كان تيار الأناضول السني في تركيا ينتمي إلى المذهب الحنفي الماتريدي (أتباع أبو منصور الماتريدي)، الذي يقوم بالتفسير النصي، للآيات والأحاديث، للوصول إلى المعنى الحقيقي أو المستتر داخل تعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم). إنه مرتكن على ما وقع في عصر التنوير، عندما وصلت الحضارة الإسلامية إلى أوج ازدهارها في الرياضيات والطب والفلك والفنون. وقد رأى العثمانيون أنفسهم باعتبارهم ورثة تطور الإسلام الطبيعي وقادته نحو حضارة أعلى. ولم يشغلهم أبدا أن يوصموا بالكفر أو يُتهموا بالزندقة.

كان للسلفية مكانا هامشيا في الحياة السياسية لكثير من الوقت منذ بداياتها في القرن الرابع عشر، عندما تأثرت بشكل ملحوظ بأعمال الباحث البارز «ابن تيمية» وطلابه الذين انتشروا في أماكن متفرقة. لقد بدأت تكسب موطئ قدم فقط عندما تباطأ الحكم العثماني في القرن الـ19. وفي هذا الوقت، قام الباحث السلفي الذي حمل اسم «ابن عبدالوهاب» باتفاق مع «عبد العزيز»، الزعيم القبلي صاحب الطموحات، لممارسة ضغط على الجزيرة العربية. وصاغ الاثنان الفكر السلفي كسلاح لهما في شكل قوة مسلحة حملت اسم «الإخوان»، وهي القوة القتالية من النخبة التي عُرفت بحماستها الدينية ووحشيتها (لا صلة لها البتة مع الجماعة المصرية الذي حملت اسم الإخوان المسلمين).

بدأت القوة المعروفة باسم الإخوان بالإغارة على القرى المجاورة، ووصلت في نهاية المطاف إلى العراق، وكانت حجتها أن من لا يحمل العقيدة السلفية فهو لا يمت إلى الإسلام بصلة، وبالتالي فإن «أرواحهم وممتلكاتهم حلال من الناحية الدينية». قام الإخوان بذبح النساء والأطفال، ودمروا الأضرحة والمقابر والأعمال الفنية؛ بدعوى أن جميعها تسيئ إلى التقاليد السلفية. وفي عام 1803 دخل «عبد العزيز» إلى مدينة مكة المكرمة. وخلال العقد اللاحق، باتت قبيلته تحكم مساحة تعادل تقريبا مساحة المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر.

كلفت الحكومة العثمانية الجيش المصري، كان خاضع آنذاك لاسطنبول، بمهمة سحق التمرد. أخذ المصريون بعض الوقت لشن حربهم ضد التمرد، ولكنهم نجحوا في عام 1812 في هزيمة «الإخوان»، واستعادوا السيطرة على مكة المكرمة والمدينة المنورة. وبعدها تم نقل «عبد الله بن سعود» إلى إسطنبول ليتم تنفيذ حكم الإعدام ضده.

ولكن «الإخوان» لم يختفوا من المشهد. بمعنى أنهم باتوا نتيجة منطقية للفكر السلفي، مدعومين بنمط تاريخي. إنهم يمثلون رغبة عنيفة تم قمعها، ومن ثم عادت إلى السطح مجددا على مدى عقود. ظهر «الإخوان» مرة أخرى على الساحة بقوة أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما كان البريطانيون يدعمون الثورات العربية ضد الإمبراطورية العثمانية. وقد ساعد البريطانيون أسرة آل سعود على تأسيس المملكة العربية السعودية، وأرادوا أن يتمددوا ليشمل ذلك العراق، تماما كما أسلافهم في السابق؛ لكن الهدف هذه المرة كان «إبادة» الشيعة. وحتى الملك السعودي نفسه انزعج من حماسهم، وسرعان ما أدرك أنهم يعارضون تحالفه مع البريطانيين. وفي حرب أهلية قصيرة، أنهت قواته تماما على وجود «الإخوان» باستخدام الرشاشات الأوروبية.

وفي عام 1979، اقتحمت مجموعة من المتطرفين المسلحين المسجد الحرام في مكة المكرمة لأنهم يعتقدون أن النظام الملكي السعودي انحرف عن طريق المؤسسين. وبعد حصار لمدة أسبوعين، وسقوط مئات القتلى، وأضعافهم من المصابين، اعتنق ثلاثة من القوات الخاصة الفرنسية الإسلام لفترة وجيزة من أجل دخول المدينة المقدسة، وقام من تبقى من المسلحين بتسليم أنفسهم. واعترفوا أنهم كانوا ينتمون إلى «الإخوان».

ويُعد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق حقا سيف السلفية أكثر من أي مجموعة أخرى موجودة على الساحة. إنها مجموعة تعتمد على الإبادة الجماعية وتجارة الرقيق بلغة اليوم، تتقدم فتحتل الأراضي، وتبني دولة ترفع عليها رايتها، تماما مثلما حاول «الإخوان» في السابق أن يفعلوا.

وتمتلك «الدولة الإسلامية» من المزايا ما لم يكن يمتلكه الإخوان، فهوية الأولى ومرونتها بما يتوافق مع العصر سمح لها بتجنيد أشخاص من مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك تركيا. وفي حين أن الترك العثمانيين في الأناضول لم يفكروا قديما في الانضمام إلى «الإخوان»، إلا إن «الدولة الإسلامية» نجحت في تجنيد أعداد غفيرة من الأتراك. وذلك لأن سردية «الدولة الإسلامية» المعادية للإمبريالية باتت عالمية بين المسلمين في الوقت الراهن، بما في ذلك بين الأتراك. وأظهر استطلاع للرأي أن الأتراك يكنون مشاعر عدائية تجاه السياسة الأمريكية، ويرجع ذلك في مجمله إلى تدخلها في الدول الإسلامية، فضلا عن دعمها للكيان الإسرائيلي.

ولكن جزءا من ذلك يعود إلى الهيكل الديني لتركيا الحديثة أيضا، فقد تبدد التصور العثماني لأنفسهم كطليعة لتقاليد آسيا الوسطى التي تجمع بين الإسلام والليبرالية. ونأت الجمهورية التركية، التي تأسست عام 1923م، بنفسها عن الخلافة، وبات تعميم المذهب السني أقل مؤسسية في تركيا. قليلون هم من يدخلون إلى المدارس الدينية التي يشرف عليها المرشدون الروحيون. لقد أصبح الإسلام السني في الأناضول فرديا، أو بمعنى آخر يبحث عنه من يريده بشكل مستقل، وحتى الأسر في كثير من الأحيان تقوم بممارسة شعائرها الدينية داخل البيت بينها وبين بعضها. وهذا ليس أمرا سيئا في حد ذاته، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى نوع من المسابقة والتنافس في التدين، وهي المسابقة التي دوما ما يكسبها السلفيون المتشددون.

هناك روايات مختلفة بشأن كيفية تعامل حكومة حزب العدالة والتنمية ذات الأغلبية السنية مع الحالة. تقول أحد الروايات إن حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تصمم على المضي قدما في إسقاط الرئيس السوري «بشار الأسد»، دعمت في السابق، وربما لا تزال تدعم تنظيم «الدولة الإسلامية». وتمضي الرواية قائلة إن «الأسد» ينتمي للطائفة العلوية، وقادة تركيا يؤيدون «الدولة الإسلامية» السنية ضده، معتقدين أنها بعد أن تؤدي دورها في إسقاط «الأسد» سوف يسهل السيطرة عليها. وتنفي الحكومة ومؤيديها ذلك بشدة، قائلين إن المساعدات التي تدخل إلى جماعات متمردة في سوريا ليست «الدولة الإسلامية» من بينها. وتبنت الحكومة إجراءات صارمة في الأسابيع الأخيرة، وخاصة بعد هجوم الاثنين الماضي على بلدة سروج الحدودية التركية، ولكن الجهود قد تكون قليلة جدا وتأخرت كثيرا.

وإذا كانت حكومة حزب العدالة والتنمية بالفعل لم تدعم «الدولة الإسلامية»، فإن هذا يعني أنها إما جاهلة، بشكل يثير الدهشة، بنظرة ومشاعر الجماعة نحوها، أو أنها تغامر على نحو غير معهود. وكان تنظيم «الدولة الإسلامية» صريحا في إعلان أن تركيا «دولة مارقة»، أو دولة كافرة. وقد حمل العدد الأول من مجلة باللغة التركية لها على شبكة الانترنت دعوة إلى «تجديد فتح القسطنطينية»، حيث حمل المقال بعض النصائح للقراء، مثل القول بتحريم أكل اللحوم في تركيا لأنه على الأرجح يتم إعداده من قبل الكفار. ولذا فإن مما لا شك فيه أنه مثلما قوض «الإخوان» السلطنة العثمانية، فإن «الدولة الإسلامية» تعمل على تقويض الشرعية السياسية لحزب العدالة والتنمية.

لكن قيادة حزب العدالة والتنمية ليس لديها فرصة سانحة ومتسع من الوقت لقطع رأس «الدولة الإسلامية» كما فعل العثمانيون. ومن أهم المخاطر التي تتهدد تركيا في الوقت الراهن ذلك التنظيم الذي يفضل البعض أن يسميه بـ«داعش». التواجد النشط لهذا التنظيم داخل الحدود التركية يعني أنه يتعين الآن إعلان حرب مفتوحة ضد الجماعة، ما يعني في الوقت ذاته تعريض حياة السكان المدنيين لخطر كبير، وبالأخص في المدن الرئيسية. ثلاثون عاما هي عمر حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، وهي الحرب الصعبة بكل المقاييس لكلا الجانبين، على الرغم من أنها محصورة داخل حدود معينة. ومن شأن الحرب ضد «الدولة الإسلامية» أن تكون أشد بكثير.

وتعالج حكومة حزب العدالة والتنمية خطا رفيعا بين أمن مواطنيها والحفاظ على السلطة الأيديولوجية. وللأسف، فإنه حتى الحكومات الأكثر قدرة والأعلى إمكانيات لا يمكنها أن تأمل في وضع حد لاتجاه تاريخي مثل تيار السلفية الذي يجتاح المنطقة. تماما مثل الضفدع في الماء الدافئ، فإن الدولة التركية لا تبرح مكانها في الوقت الذي تستعر فيه بيئتها وتزداد سخونة.

 

* «سليم كورو» هو زميل باحث في مؤسسة «أبحاث السياسات الاقتصادية» في أنقرة بتركيا. وهو معنيّ بالسياسات التركية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا. حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من جامعة «ويسكونسن ماديسون»، وماجستير في العلاقات الدولية والاقتصاد من كلية «جونز هوبكنز» للدراسات الدولية المتقدمة.

  كلمات مفتاحية

تركيا الدولة الإسلامية سوريا نظام الأسد الوهابية الدولة العثمانية

اتفاق تركي أمريكي على تحرك عسكري ضد «الدّولة الإسلامية» في سوريا

تركيا: حملة مداهمات واسعة واعتقال عشرات المرتبطين بالمتمردين الأكراد وتنظيم "الدولة"

تركيا تشدد الأمن على الحدود بطائرات دون طيار وخنادق إضافية

تركيا تواجه مخاطر متزايدة مع استمرار عمليات التهريب من سوريا

«ذا ديلي بيست»: تركيا تخطط لاجتياح سوريا لإيقاف الأكراد وليس «الدولة الإسلامية»

«إندبندنت»: أكثر 7 خرافات شيوعا عن «الدولة الإسلامية»

بين تنظيم «الدولة الإسلامية» والأكراد .. أين سيذهب «أردوغان»؟

«ناشيونال إنترست»: مقاربة جديدة للسياسة الخارجية في تركيا

«ناتو» يدعو لاجتماع طارئ الثلاثاء بناءً على طلب تركيا

لماذا قررت تركيا الاتجاه إلى حرب تنظيم «الدولة الإسلامية»؟

الحراك العسكري التركي .. تداعيات سورية وعراقية وإقليمية