لغز الفيلم الأمريكي «2001.. ملحمة الفضاء» المستمر.. تعرف عليه

الخميس 3 مايو 2018 04:05 ص

ربما كان المخرج «ستانلي كوبريك» عندما بدأ تصوير فيلمه «2001.. ملحمة الفضاء» يهدف أن يقدم فيلم خيالٍ علمي، لكن العمل الذي تحل هذا الشهر الذكرى الخمسون لبدء عرضه، كان أقرب إلينا وإلى حياتنا أكثر مما نحسب، كما يقول الناقد السينمائي «نيكولاس باربر في «بي بي سي عربي».

رغم أن 50 عاماً مضت منذ بدء عرض فيلم «2001.. ملحمة الفضاء»، لا نزال حتى الآن نحاول فهمه بشكل كامل، عادةً ما تُدرج هذه التحفة السينمائية التي أخرجها «ستانلي كوبريك، على قائمة الأفلام الأفضل في التاريخ، في أي تصويت يُجرى في هذا الشأن.

شهرة الفيلم والحيرة بفهمه

واحتل هذا العمل المركز الرابع في تصويت أجراه الموقع البريطاني المذكور بين نقادها السينمائيين، لاختيار أفضل 100 فيلم أمريكي، ومع ذلك، فهذا الفيلم لا يزال أحد أكثر الأعمال السينمائية إثارة للحيرة على مر التاريخ أيضاً.

فمثلاً هل هناك من مشاهدي الفيلم من يستطيع أن يقول لنا ما الذي كان يفعله عمود حجري ضخم مستطيل الشكل في أفريقيا ما قبل التاريخ؟ أو يُعرّفنا بالأسباب التي حدت برائد فضاء إلى أن يمرق عبر أضواءٍ ملونة متداخلة ذات طابع مُخدر، عابراً من كونٍ إلى آخر قبل أن يتحول إلى «جنينٍ» كوني؟

بجانب ذلك، هناك سؤالٌ ثالث يتعلق بحجم أحداث الفيلم التي تدور بالفعل في عام 2001، وذلك بالنظر إلى أن القسم الأول من الفيلم كان يتناول أحداثا متخيلة قبل ملايين السنوات، بينما يدور جزءان آخران، في منتصف العمل، بفاصل 18 سنة عن بعضهما البعض؟

وربما لم يكن «كوبريك» سيصبح منزعجاً بشدة من كل هذه الحيرة التي تكتنف فيلمه.

 فقد قال لمحاورٍ له عام 1968 إن «للمرء مطلق الحرية للتكهن بما يشاء بشأن المعنى الفلسفي والمجازي للفيلم، ولكنني لا أريد أن أُفصّل خريطة طريق لفظية للفيلم... ».

يثير غالبية ما تضمنه «2001.. ملحمة الفضاء» الحيرة والارتباك، وقد شبّهه «كوبريك» بلوحة فنية أو مقطوعة موسيقية.

حذف ما يمكنه تفسير الفيلم

أما «آرثر سي. كلارك»، وهو شريك «كوبريك» في كتابة الفيلم، فقد أجاب على بعض الأسئلة المتعلقة بقصته في روايةٍ مرتبطة بهذا العمل السينمائي، نُشِرتْ بُعيد بدء عرضه.

ولكن المخرج حذف كل ما قد يجعل من اليسير للغاية فهم فيلمه؛ الذي شبّهه بلوحةٍ فنيةٍ أو مقطوعةٍ موسيقيةٍ؛ بعبارةٍ أخرى بشيءٍ يمكن للإنسان أن يخْبُرَهُ ويشعر به «على مستوى داخليٍ من الوعي والإدراك والشعور».

مع ذلك، ليس كل ما يحيط بذلك الفيلم مُحيراً أو مربكاً، فثمة شيءٌ واحد واضح، يتعلق بمدى التشابه بينه وبين أفلام سابقة لنفس المخرج احتوت على مضامين مناوئة للحروب وللسلطة الحاكمة، خاصة فيلم «د. سترينغلوف»، الذي عُرِضَ عام 1964.

الفيلمان يبدوان، عند النظر إليهما عن بعد، وكأنهما لا يشتركان تقريباً في شيء، وأنهما بعيدان كل البعد عن بعضهما البعض.

فأحدهما «د. سترينغلوف»، هو فيلمٌ كوميدي بالأبيض والأسود، يحفل بالسخرية اللاذعة من سباق التسلح في العالم، ويقوم فيه الممثل «بيتر سيللرز» بأدوارٍ متعددة، أما الآخر فهو عملٌ زاخرٌ بالألوان، يكسوه طابعٌ تأملي، وتنبسط فيه النجوم أمام ناظريك، ووُصِفَ في الملصق الدعائي الأصلي له بأنه «دراما ملحمية للمغامرة والاستكشاف».

لكن فلننظر إلى أوجه الشبه بين الفيلمين المتمثلة في أجواء التكتم التي تخيم على الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، وغرف اجتماعات مجالس الإدارة التي تكتظ برجالٍ في منتصف العمر يرتدون بزاتهم، بجانب وجود آلة تبدو ناجحة وفعالة، لكنها مُصممةٌ بطريقة تجعلها تقتل من صنعّوها.

ومثال لذلك المشهد الذي يُعيد فيه الجنرال «كونغ» (يقوم بدوره الممثل سِلْيم بيكنز) في فيلم «د. سترينغلوف» توصيل الأسلاك الخاصة بالباب الذي ستلقى من خلاله القنابل من الطائرة، والمشهد الذي يطابقه تقريباً في «2001.. ملحمة الفضاء»، والذي يُوقف فيه أحد رواد الفضاء عمل الكمبيوتر الخاص بسفينته الفضائية.

بجانب ذلك، فلتنظر إلى القناعات التي تشكل جزءاً أساسياً من كلا الفيلمين، والتي تقوم على أن البشر في جوهرهم ذوو طابعٍ عنيفٍ مُدمر للذات، وأن أي شخص يؤمن بأنه على صواب مئة في المئة هو على الأرجح مهووسٌ خطر.

هناك أوجه شبه بين فيلميْ «2001.. ملحمة الفضاء»، و«د. سترينغلوف» الذي أخرجه «كوبريك» وتناول فيه الحرب الباردة بشكلٍ ساخر، ومن بينها غرف اجتماعات القادة.

وربما يقول قائل إنه قد يبدو من المبالغة وصف «2001.. ملحمة الفضاء» بأنه أحد أفلام الكوميديا السياسية ذات الطابع الساخر، ولكن إذا لم يكن «كوبريك» يريد منّا أن نضحك على مشاهده، لَما كان قد ركز على «مرحاضٍ يُوجد في منطقة انعدامٍ للجاذبية»، ولما خصص قسماً في فيلمه اختار له عنوان «فجر الرجل»، وهو ذاك الذي نرى فيه رجلاً يسحق أدمغة آخرين بهراوة بعد بزوغ الفجر!

أسرة «القردة العليا»

في المشاهد الأولى للفيلم، نرى أسلافنا الذين يكسو الشعر أجسادهم (ممن يجسد أدوارهم فنانو تمثيلٍ صامت يرتدون أزياء ملائمة للشخصية) وهم لا يأكلون سوى الجذور والتوت، إلى أن يعثروا بالصدفة على عمودٍ شاهق الارتفاع أسود اللون، كان يُشَبّه في السابق بشاهد قبر، ولكنه يجلب الآن إلى الأذهان صورة جهاز هاتف ذكي هائل الحجم من نوع «آي فون».

ويُسرّع هذا القالب الحجري الضخم الغامض من وتيرة تعلم هؤلاء «الرجال - القردة»، لتتفتق قريحة أحدهم عن فكرة استخدام إحدى العظام كسلاح، وبعدما يقتل بها كائناً مماثلاً له، وكذلك حيواناً من نوع «التابير» الشبيه بالخنزير، يقذف بها عالياً في الهواء.

وهنا لجأ «كوبريك» إلى تقنيةٍ في المونتاج، يجري بواسطتها الانتقال من مشهدٍ لآخر من خلال استخدام عنصرٍ مشترك بين الاثنين، وهو في هذه المرة العظمة التي تدور حول نفسها في الهواء، والتي تتحول فجأة إلى قمر اصطناعي يدور حول الأرض.

غير أننا نعلم بعد ذلك أن ذلك ليس قمراً اصطناعياً بالضبط، ولكنه من المفترض أن يكون - حسبما يقول المخرج- «قنبلةً فضائيةً تدور في المدار حول الأرض، (أي) أنها سلاحٌ فضائيٌ». وهنا يمكن لنا - على الأقل - أن نعرف ما يخلص إليه المخرج، ألا وهو أن التقدم الإنساني بحسب تقديره، لا يتمحور إلا حول تطوير سبلٍ أكبر وأفضل لقتل بعضنا البعض.

وفي هذا القسم من الفيلم، نلتقي «هيوود فلويد» (يقوم بدوره ويليام سيلفستر)، وهو عالمٌ في طريقه إلى القمر لمعاينة كتلة حجرية ضخمة أخرى غريبة السمات جرى اكتشافها هناك.

ولا يظهر «فلويد» بشكل تقليدي للباحثين في مجال الخيال العلمي، فلا هو مهووسٌ غريب الأطوار يظهر أمامنا دائماً بمعطف العمل في المختبرات، ولا بطلٌ ذكيٌ مٌفعم بالحياة يتنقل بين المجرات.

فهو عبارة عن شخصيةٍ قانعة لطيفة، تبدو مطابقةً تماماً لشخصية المواطن الأمريكي الذي يعمل من أجل إعالة أسرته، وتميل إليه المضيفات الحسناوات، وينسى حفل عيد ميلاد ابنته لأنه «على سفر».

من جهة أخرى، يحلو للمخرج أن يخبرنا دائماً بأن المسؤولين عن مصائرنا وأقدارنا، ليسوا بالضرورة الأكثر ذكاءً وابتكاراً وخيالاً في مجموعتنا الشمسية، وهو ما نراه في رسمه لملامح شخصيات الجنرالات الأمريكيين في «د.سترينغلوف» ونظرائهم الفرنسيين في «دروب المجد»، أو لطبيعة شخصية وزير الداخلية الذي يزعم أن لديه العلاج لآفة الجريمة في «التفاحة الآلية».

كما أن هؤلاء دائماً من الرجال، فالشخصية النسائية الوحيدة في «د.سترينغلوف»، هي سكرتيرة لجنرال أمريكي ترتدي ثوب سباحة، أما النساء اللواتي يظهرن في «2001.. ملحمة الفضاء» فلا يحظين بمساحة أوسع من الحوار، رغم أنهن يرتدين قدراً أكبر من ذلك من الملابس.

أما أحداث القسم الثالث من العمل، فتدور على متن مركبة فضاء هائلة الحجم في طريقها إلى كوكب المشتري. ويتألف طاقم المركبة من كلٍ من «دافيد بومان» (يجسد شخصيته كير دولاي) و«فرانك بول» (أدى دوره غاري لوكوود) جنباً إلى جنب مع ثلاثة رواد فضاء آخرين في حالة تجميدٍ أو سبات مؤقت.

لكن المسؤولية عن الجانب الأكبر من العمليات والأنشطة التي تدور على متن السفينة، تُلقى على عاتق جهاز كمبيوتر يُطلق عليه اسم «إتش آيه إل 9000»، والذي يقدم الأداء الصوتي الخاص به الممثل «دوغلاس رين»؛ فهل يمكن أن يُنذر وجود الربان الآلي ذي الذكاء الاصطناعي هذا بحدوث مشكلاتٍ لزملائه من أفراد الطاقم؟

حسناً، يُرينا الفيلم أن «إتش آيه آل 9000»، يعلن أنه «وبأي تعريف لغوي عملي، لا ينطوي على أي خطر وغير قابل للخطأ»، وهو ذاك الضرب من الثقة بالنفس الذي يشكل عادةً - في أفلام المخرج - إشارةً مُنذرةً بالسوء.

وكما هو متوقع، يُبلغ هذا الكمبيوتر الضخم كلاً من «دافيد» و«فرانك بأن» عطلاً أصاب طبق الاتصالات الخاص بالمركبة، وهو ما ليس صحيحاً وإنما نجم عن خطأٍ وقع فيه ذلك الربان الآلي.

وهنا، يقرر الرجلان أنه بات عليهما إغلاق الجهاز وإيقافه عن العمل على افتراضٍ مفاده بأنه أصيب بعطبٍ بالقطع، لكن لسوء الحظ، يتخذ ذلك الجهاز قراراً مماثلاً بأن «يوقفهما عن العمل» أولاً.

وفي هذا القسم تحديداً يمكن أن تُعاد تسمية «2001.. ملحمة الفضاء»، ليصبح «د.سترينغلوف في الفضاء»، لأننا نجد  المخرج فيه وقد أولى اهتمامه وتركيزه على ما يدور بخلد كلٍ منّا من يقينٍ مُبالغٍ فيه، وعلى إيماننا الأبله بأي منظومةٍ أو آلةٍ يبدو أن لديها كل الإجابات على أسئلتنا.

ففي «د.سترينغلوف»، ذاك الفيلم الذي عُرِضَ عام 1964، نجد أن «آلة يوم القيامة» التي يُفترض أن تضمن للعالم العيش في سلامٍ هي ما ستؤدي - في واقع الأمر - إلى محو الحضارة عن بكرة أبيها، بل إنها صُمِمتْ وبُرْمِجت لئلا يكون بوسع أي شخص إيقافها عن العمل.

أما فيلم «2001.. ملحمة الفضاء» الذي أعقبه بعد ذلك بأربع سنوات، فيتضمن مفارقاتٍ أكثر من ذلك بكثير، فالكمبيوتر المسؤول عن المهمة على مركبة الفضاء يرتكب خطأ؛ يؤكد حدوثه أحد المسؤولين عن التحكم في المهمة من على الأرض، لأن الجهاز التوأم لذاك الموجود على متن السفينة الفضائية قال ذلك أيضاً.

رغم ذلك، يبقى كمبيوتر «إتش آيه إل 9000» واثقاً من نفسه تماماً، على غرار ثقة جنرالات «د. سترينغلوف» في أنفسهم، بل إن ذلك الربان الآلي يقول بصوته الشبيه بالأزيز: «لا أعتقد أن هناك أي التباسٍ في هذا الشأن.. يمكن أن يُعزى الأمر فقط لخطأٍ بشري». وهنا يمكنك إذا أرهفت السمع، أن تشعر كأنك تسمع صوت المخرج، وهو يئن من فرط اليأس.

يُنذر وجود الربان الآلي ذي الذكاء الاصطناعي لسفينة الفضاء التي تظهر في الفيلم بحدوث مشكلاتٍ للبشر الموجودين على متن السفينة.

لا يعني كل ما سبق أن «2001.. ملحمة الفضاء» مجرد تتمة لـ«د.سترينغلوف»، فإذا تجاهلت نبرة السخرية المريرة اللاذعة التي يُفعم بها العمل، ستجد أنه لا يزال حافلاً بالعناصر الفنية المميزة، من قبيل المؤثرات الخاصة المذهلة، والتصميم الفني الخالي من العيوب والأخطاء، والتقنيات المتطورة التي بشرت بتطوراتٍ مستقبلية شهدها مجال التكنولوجيا فيما بعد، بجانب الموسيقى الكلاسيكية الساحرة.

يُضاف كل ذلك إلى أغرب ما تضمنه الفيلم على الإطلاق، وهو رحلة ديف «إلى ما وراء اللا نهاية»، والتي بلغت الذروة في إثارتها، ولا تزال تُدير الرؤوس والعقول إلى الآن بالقدر نفسه الذي كانت عليه بالقطع في عام 1968، عندما عُرِضَ العمل للمرة الأولى.

وبرغم كل ذلك، من المدهش ما آل إليه العمل في نهاية المطاف، بالنظر إلى أن «كوبريك» كان ينشد منه - إذا استعرنا هنا العبارة التي استخدمها كلارك - تقديم «فيلم خيالٍ علمي جيد يُضرب به المثل»، وأنه كان كذلك مفتوناً بشكلٍ خاص بفكرة الحياة التي قد تكون موجودة خارج كوكب الأرض.

فبدلاً من التركيز على ذلك، لم يستطع الرجل الإحجام عن الحديث عن الحياة البشرية، وهو ما يشكل أحد الأسباب التي تجعل من «2001.. ملحمة الفضاء» عملاً قد يكون مُقنعاً ومرضياً للغاية من جهة، ومُلْغِزاً بشدة من جهة أخرى، فمع أن «كوبريك» كان يحلم بعوالم أخرى، فإنه لم يكف عن العودة إلى الواقع للتعامل مع مشكلاته وتفاصيله، بعدما يُؤخذ لبعض الوقت بنشوة التحليق في الفضاء.

  كلمات مفتاحية

فيلم أمريكي ذكرى خمسون «2001: ملحمة الفضاء» ألغاز انغلاق فهم