استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

جميل مطر: نهاية عصر الشرطة «المدنية» والانتقال إلى «العسكرة»

الاثنين 7 يوليو 2014 07:07 ص

الحياة اللندنية، 7 يوليو/ تموز 2014

أين نحن من شرطة الزمن القديم، حين كان رجل الشرطة يفرض هيبته واحترامه بصيحة يطلقها في سكون الليل بين الحين والحين وعصا خشبية قصيرة في يده أو معلقة في وسطه.

تغيرت الشرطة، تغيرت وظيفتها وأساليبها، بل تغير موقعها ودورها. تعيش الآن معظم شعوب العالم في «حماية جهاز» أصرت قياداته على تحويله من سلطة مدنية إلى مؤسسة عسكرية، في وقت ما زالت أغلب دساتير العالم ترفض إسباغ صفة «العسكرية» عليه. تغيرت الشرطة في السنوات الأخيرة إلى حد أن صار ترتيبها «المؤسسي» في النفوذ والقوة السياسية يقع في مكان ما أقرب كثيراً إلى المؤسسة العسكرية وأبعد كثيرا من المؤسسات المدنية، ومنها مؤسسة القضاء ومؤسسات الحكم والإدارة.

لم نعهد في الماضي رؤية جنود الشرطة ينتقلون في مدرعات بأبراج دوارة يحمل البرج منها مدفعاً سريع الطلقات، أو رؤية طائرات بدون طيار تحمل شعار الشرطة جاهزة للإغارة على مواقع عصابات إجرامية وتهريب مخدرات أو على شقق يسكنها مواطنون نواياهم السياسية محل اشتباه. لم نتعود على رؤية ضباط وجنود شرطة يتمركزون في ميادين المدن وأزقتها مرتدين ملابس قتالية، هي في الأصل من مستلزمات الفرق الخاصة التابعة للجيوش النظامية، يرتديها جنود هذه الفرق لأغراض قتال حقيقي في الجبال والصحارى، وليس لأغراض إعلامية أو للتباهي بها أو تخويف الشعب.

لم نكن نتصور أن يوماً سيأتي يحمل فيه رجل الشرطة في حزامه قنابل صوتية القنبلة الواحدة منها كافية لإصابة عابر طريق بصمم دائم، وقنابل إشعاع، الشعاع الواحد يكفي للإصابة بالعمى الدائم، أو بحرق ينفذ تحت الجلد فيحدث تشوهاً دائماً.

ليست هذه التغيرات سوى قليل من كثير نشهده هذه الأيام في بلادنا ولكن أيضاً في الولايات المتحدة ودول أوروبية، تحت عنوان «عسكرة الشرطة». نشهد تحول «مؤسسة مدنية» بحكم التعريف والوظائف والمسؤولية إلى مؤسسة عسكرية. نرى التغيير صارخاً وبمعدلات متسارعة ومكثفة في الولايات المتحدة. هناك تُقدِم مدن صغيرة في ولايات اشتهرت بندرة الجريمة فيها وبالسلام الاجتماعي، على شراء طائرات من دون طيار وسيارات مدرعة وأسلحة فتاكة تزود بها الشرطة المحلية. حدث هذا التحول مثلاً، كما تشير التقارير الصحافية، في مدينة صغيرة في داكوتا الشمالية، لم تشهد عملاً إجرامياً منذ عامين. ووقع بصورة أكبر في مدن كبيرة مثل لوس أنجلوس ونيويورك، وفي مدن أخرى كثيرة اشتهرت بالتوتر الاجتماعي بسبب اختلافات الأعراق كما في البوكيركي في نيومكسيكو.

تزامن هذا التغيير الحادث في أميركا مع تغييرات مماثلة في دول في أميركا اللاتينية وفي القارة الأوروبية والشرق الأوسط، ولكن تزامن أيضا في الآونة الأخيرة، وهو الأمر الخطير، مع زيادة ملحوظة في معدلات انحسار الديموقراطية والقبول العام بحق «الدولة» في التجسس والتنصت على المواطنين كافة، ومع إصرار على العودة إلى أساليب التسلط السياسي واستخدام القوة المفرطة في التعامل مع عناصر الاحتجاج السياسي والاجتماعي. شاهدنا على التلفزيون ضخامة هذا التغيير في المجتمعات الغربية.

شاهدنا مثلاً الإجراءات العنيفة التي اتُخِذت مع المتظاهرين ضد قمة الكبار في مدينة بطرسبرغ العام 2009، وعند تفريق اعتصامات «احتلال وول ستريت» في نيويورك وفي مواجهة الاضطرابات اللندنية، ولكنها كانت أوضح في روسيا والصين والدول العربية. ويبدو لي أن الحكم الجديد في الهند عازم على تصعيد استخدام العنف ضد خصومه وحركات الحقوق.

كذلك تزامنت التحولات الحادثة في قطاع الشرطة مع الزيادة الملحوظة في أنشطة التطرف الديني والعرقي والاجتماعي في أفريقيا وأميركا الوسطى والشرق الأوسط. تزامنت أيضا مع موجة من أزمات الهوية واندلاع حركات انفصالية وصراعات حادة. تواكب صعود العنف الاجتماعي والسياسي «الداخلي» مع هدوء نسبي في الاحتكاكات والنزاعات بين الدول. بمعنى آخر، ازدادت زيادة كبيرة عناصر عدم الاستقرار وتهديد الأمن، وهذه تصب في خانة مهام أجهزة الأمن الداخلي، بينما انخفضت بشكل ملحوظ مظاهر التوتر والصراع بين الدول، وهذه تصب في خانة مهام الجيوش المكلفة بحماية الأوطان من الخطر الخارجي.

كانت واضحة أيضا في السنوات الأخيرة الزيادة في حجم اعتماد الأمن الداخلي على قوى الأمن الخارجي، أي على الجيوش. بل ازداد في واقع الأمر حجم وأشكال الاعتماد المتبادل بين الجهازين. رأينا في دول اعتادت على حكم العسكريين كيف أن المؤسسة العسكرية احتاجت إلى قوى الأمن الداخلي في تعقب المدنيين المعارضين للحكم العسكري ومعاقبتهم، ورأينا أيضاً كيف أن الشرطة احتاجت إلى المؤسسة العسكرية لتوفير أسلحة «قتال» متقدمة ومساعدتها في التدريب والانتقال الأسرع من مرتبة الجهاز المدني إلى مرتبة «المؤسسة العسكرية».

الدافع الأهم للتعاون بين الجهازين في العمل الداخلي، كان ولا يزال النشاط الإرهابي، كما هو حادث في نيجيريا ومصر ودول أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط، ولا يعني أنه في حال استمرار هذا التزامن بين زيادة أنشطة التطرف من ناحية وزيادة الأعباء الملقاة على عاتق أجهزة الشرطة أن تأخذ الدول الإفريقية ودول الشرق الأوسط وشرق أوروبا بتجربة أميركا اللاتينية، حيث يجرى إخضاع أجهزة الأمن الداخلي لسلطة ضباط من الجيش، أو كما في حالة المكسيك إنشاء قوة جديدة للأمن الداخلي مستقلة عن جهاز الشرطة ووزارة الداخلية، تخضع لقيادة ضباط من الجيش والبحرية ويُجَنَّد لها جنود خدموا في المؤسسة العسكرية. الهدف، وهو ما لا يخفيه قادة الجيش والحكومة، تفادي الفساد الضارب في جهاز الشرطة ووزارة الداخلية.

تشير مختلف المظاهر إلى أن هناك اتجاهاً قوياً لدعم جهاز الشرطة في معظم دول العالم، عن طريق «عسكرته»، أي دفعه نحو تبني أساليب وأخلاقيات وتجارب المؤسسة العسكرية. كما تشير المؤشرات إلى أن العالم بصدد ثقافة شرطة جديدة، أقرب ما تكون إلى ثقافة «العسكر» بأمل كبير في أن يتحقق التغير المطلوب في ظل سيطرة مؤكدة من المؤسسة العسكرية، لا تترك للشرطة فرصة المغالاة في فرض النفوذ والهيمنة والتحكم في الحياة السياسية.

لا أظن أنه يخفى على المهتمين بحقوق الإنسان والديموقراطية والعدالة الاجتماعية عواقب هذا التحول في مهام أجهزة الأمن الداخلي وأساليب عملها. هناك عواقب محتملة يصعب جداً استبعادها من نوع مستقبل السياسة في دول سمحت للسلطة بأن «تتعسكر» أو سمحت لمؤسستي الأمن الداخلي والخارجي بالتوحد في التخطيط والتداخل في عملهما، أو سمحت لجهاز الأمن الداخلي بترجمة هذه التغيرات لمصلحة زيادة نفوذها، هذه العواقب هي:

أولا: زيادة نفوذ سلطات الشرطة على حساب المؤسسات الأخرى في صنع المستقبل السياسي للدولة، فالمعروف عن الأمن الداخلي أنه الأقرب جغرافياً وواقعياً من حياة المواطن العادي من أي جهاز آخر في الدولة، وبالتالي هو الأقدر بالترهيب أو الترغيب في التأثير عليه، لأنه في النهاية وفي حال تمكينه، سيكون الجهة الوحيدة التي ستقرر من يقود في أي جهاز من الأجهزة المدنية.

تشير التطورات في بعض دول في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وفي مصر ودول عربية كثيرة، إلى أن أي قوة مضافة إلى قوة الشرطة تعني بالضرورة قدرة أكبر على تشكيل تحالفات تضم فئات كالنقابات وسلك القضاة وجماعات المصالح كرجال الأعمال، وقدرة أخرى على توجيه العمل والمناهج والإمكانات والبحوث داخل الجامعات، وقد لمسنا هذه القدرة في عديد من الدول العربية، حين قدمت الشرطة الحماية لجماعة ضد جماعة أخرى وتدخلت في انتخابات المجالس النقابية والمحلية ورشحت ضباطاً سابقين للبرلمان تحت دعوى أنهم بحكم التدريب والتجربة محامون وقضاة.

ثانيا: عسكرة الشرطة ينفي عنها بالضرورة صفتها الدستورية والقانونية كجهاز مدني يعمل أساساً لحماية الفرد العادي. التحول من الصفة المدنية إلى «العسكرة « يعني أن الشرطة لا تستطيع أن تدعي في المستقبل بدرجة مناسبة من الإقناع أنها من الشعب وإليه تعود، ولن ينظر إليها الفرد العادي على أنها موجودة أساسا لحمايته من المجرمين واللصوص والفاسدين.

هذا التحول يعني أيضاً أن هذه المؤسسة الأمنية ستسعى إلى أن تتمتع بامتيازات ومكانة المؤسسة العسكرية التي تتشبه بها وتتدرب على أيديها. ولا شك في أن استمرار سعي الشرطة للعسكرة سيؤدي آجلا أم عاجلاً إلى سباق على النفوذ السياسي واحتكاكات بين الجهازين الأمنيين، الأمن الداخلي «المتعسكر» والأمن الخارجي، حول الامتيازات والحصانات والمكانة الاجتماعية.

ثالثا: من طبائع «العسكرة» التزام السرية والابتعاد من الشفافية، فالسلاح المتقدم والتمويل المطلوب له سيخضعان لنظام من الصفقات يختلف عن أنظمة المشتريات التي تعودت عليها أجهزة الشرطة باعتبارها «مؤسسات مدنية». من ناحية أخرى، هناك خشية كبرى من أن تؤدي العسكرة إلى فتح شهية ضباط وجنود الشرطة لهذه الأسلحة الفتاكة، وشهيتهم لحرية أكبر في استخدام عنف غير مبرر أثناء عمليات تعقب المجرمين والمنشقين السياسيين. هذه الحرية الأكبر لن تجد قوة خارجية تحد منها، على عكس ما يحدث للمؤسسة العسكرية، التي ستجد دائماً أجهزة مخابرات أجنبية وأقماراً اصطناعية وأجهزة رصد دولية تقف لها بالمرصاد إن تجاوزت في التسلح حاجتها للدفاع، وإن سعت مثلاً للحصول على سلاح نووي، أو خرقت بنود اتفاقات سياسية وعسكرية مشتركة.

في حالة الشرطة، لا توجد الجهة الخارجية أو الداخلية باستثناء القوة المعنوية الخجولة لمنظمات المجتمع المدني، التي يحق لها، في ظل نظام غير ديموقراطي وغير برلماني، مساءلتها عن تجاوزاتها.

رابعاً: عسكرة الشرطة، في غياب قيود مؤسسية ودستورية واضحة، ستتسبب حتماً في زيادة استعدادها للتدخل في مهام خارج اختصاصاتها المباشرة. نعرف من تجارب التكامل العربي، أن مجلس وزراء الداخلية العرب كان يوصي أحياناً بالتدخل في السياسات الخارجية بحجة التصدي للإرهاب ومكافحة الجريمة المنظمة وتعقب المعارضين. حدث هذا حتى قبل أن تصل عسكرة الشرطة إلى ما وصلت إليه. لاحظنا أيضا كيف تدخلت الشرطة بحجة مسؤوليتها عن تأمين حياة الرؤساء وكبار المسؤولين لإقناعهم بالامتناع عن القيام بزيارات بعينها، وربما قطع العلاقات مع دول محددة، ومنع السياح الآتين منها.

لا يفوتني أن أشير إلى أنه من طبيعة السلوك في ظروف الأزمات كالظرف الذي تمر به حاليا أجهزة الأمن في عديد من الدول، وأقصد تحديدا الحالة «الإرهابية»، أن تمتنع هذه الأجهزة عن قبول النصيحة أو الإرشاد من جهاز آخر في الدولة.

أتصور مثلا أن موضوعاً حيوياً في قضية التنمية وبناء الدولة الحديثة كإصلاح وزارة الداخلية لن يُثَار مجدداً قبل وقت طويل. أظن أن الشرطة التي تعسكرت لن تقبل بسهولة أن تخضع لعملية إصلاح نصحت بها مؤسسات دولية أو كانت حلماً لدى مسؤولين مدنيين وعسكرين في الدولة، وأعلنت عن رغبتها في تحقيقها مؤسسات ومنظمات مدنية عديدة.

انتهى، أو كاد ينتهي، عصر كانت الشرطة فيه جهازاً من أجهزة الدولة المدنية، وكان الجيش المؤسسة الوحيدة التي يحق لها حيازة السلاح الثقيل. ويبدأ، أو بدأ فعلاً عصر تتقاسم فيه حيازة السلاح الفتاك مؤسستان، وربما أكثر.

  كلمات مفتاحية