«الجريمة الجيوسياسية».. نحو مقاربة قانونية جديدة لحصار قطر

السبت 14 يوليو 2018 12:07 م

بعد فرض حصار على قطر من الدول الأربع التي قدمت 13 مطلبا إلى حكومة قطر، رفضت قطر المطالب بوصفها مخالفة لحقوقها السيادية والقانون الدولي، وعرضت في الوقت نفسه الوساطة في النزاع، لكن ائتلاف الدول المحاصرة رفض ذلك وأصر على امتثال قطر، وتسبب في إلحاق الأذى بدولة قطر وأولئك المقيمين في البلد من خلال إغلاق المنافذ وقطع العلاقات بشكل مفاجئ.

يقيّم هذا المقال الذي نشر في «فورين بوليسي جورنال» هذه التجربة من منظور ما إذا كان يجب التعامل مع المواجهة على أنها «جريمة جيوسياسية»، وهي فكرة مبتكرة ومثيرة للجدل طورها الكاتب في محاضرة في جامعة كوين ماري في لندن في نهاية مارس/أذار 2018.

التوصيف كـ«أزمة» مضلّل

إذا أردنا توصيف المواجهات التي دارت طوال العام بين الائتلاف الخليجي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) وقطر، فقد كانت من جانب واحد منذ بدايتها.

تم توجيه سلسلة من المطالب إلى قطر في شكل إنذار نهائي، وكانت المطالب غير معقولة، وتتحدى حقوق قطر السيادية، وتنتهك أهم المبادئ الأساسية للقانون الدولي، ورفضت دول الحصار تعبير قطر الرسمي المتكرر عن استعدادها لقبول نهاية للنزاع يتم التفاوض عليها أو التوسط فيها.

وقد كان هذا الاستعداد واعدا بشكل خاص حيث إن قطر كانت الطرف المتضرر بسبب السياسات التي وضعتها دول الحصار، وعلى النقيض من ذلك، رفض الائتلاف الخليجي حتى الآن حتى النظر في حل دبلوماسي للأزمة، وأصر على دفع أجندته من خلال إصدار التهديدات والتحذيرات.

ولهذه الأسباب، كان من المضلل للغاية الإشارة إلى الحادث كـ«أزمة»، والتي تعتبر في العلاقات الدولية مصطلحا محايدا، في إشارة إلى مجموعة من الظروف التي تنطوي على تفاعل خطير وغير محسوم بين الخصوم، لكن هذا المقال يطمح في تسمية أكثر دقة للمواجهة، لإدراك الطابع الحقيقي للحال، بالنظر إلى غياب مبررات الأفعال غير المشروعة والمواجهة أحادية الجانب والتباين في الحجم والقوة، ليعالج الأمر في النهاية باعتباره «جريمة جيوسياسية».

والسؤال المطروح من هذا المنظور هو النظر فيما إذا كان يجب اعتبار التحالف الخليجي مسؤولا عن ارتكاب جريمة جيوسياسية خطيرة ومستمرة، ضحاياها هم دولة قطر وشعبها، ومواطنون أجانب وأطراف أخرى، تأذوا بسبب الحصار والتدابير القسرية الأخرى التي اعتمدها الائتلاف الخليجي.

ولطرح أسئلة من هذا المنظور، يتطلب الأمر أولا توضيحا لطبيعة وحالة ما يسمى هنا بـ«الجريمة الجيوسياسية».

ثغرات القانون الدولي

تكمن الأسباب وراء طرح فكرة «الجريمة الجيوسياسية» في التأكيد على إمكانية اتباع نهج غير رسمي أكثر مرونة وأكثر ملاءمة لتوصيف المسؤولية عن الضرر الناجم، وينبغي هنا إدراك أنه لا يوجد وضع واضح للجريمة الجيوسياسية في القانون الجنائي الدولي، ويجب التعامل معها كفكرة إبداعية مقترحة فيما يتعلق بالدبلوماسية والأخلاق الدولية وكخطوة مفيدة نحو خلق المزيد من الالتزام من قبل الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية المهيمنة بالمعايير الدولية المقبولة على نطاق واسع وتحدي الأنماط الحالية للإفلات من العقاب فيما يتعلق بجرائم تلك الجهات.

ويجعل هذا النمط من الاستخدام المتعسف للسلطة من القانون الدولي سلاحا قويا ضد الضعيف، وهو يماثل ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح حق النقض (الفيتو) للأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، وهو بمثابة القول لهذه الدول الخمس بأن الالتزام بميثاق الأمم المتحدة هو أمر وفق رغباتهم، أما بالنسبة للدول الـ188 الأخرى ذات السيادة فالأمر إلزامي، وهنا نتذكر ما قيل عن الأمم المتحدة عند تأسيسها، عن كونها مؤسسة مصممة لتنظيم الفئران في حين أن الأسود تتجول بحرية.

في الواقع، فإن التأكيد على مفهوم «الجريمة الجيوسياسية» يقدم وسيلة متواضعة لتوسيع نطاق القانون الدولي لتنظيم سلوك الأسود، وتعديل الهياكل المعيارية التي لم تكن فعالة حتى الآن إلا في إبقاء الدول الأضعف، الفئران، إما مستسلمة أو تثبطها عن الانخراط في السلوك المسبب للاضطراب.

في المأزق الحالي، تُحرم قطر من حماية حقوقها الأساسية، لأن الائتلاف الخليجي يستفيد من وضعه الجيوسياسي شبه الإقليمي للدخول في دبلوماسية قسرية مع تجنب المساءلة القانونية.

ومع ذلك، فإن الاقتراح القاضي بتكميل القانون الجنائي الدولي بالاعتراف بالجرائم الجيوسياسية هو أكثر من مجرد منح قطر خطا إضافيا من الحجج السياسية والأخلاقية من خلال تبرير شكاويها الخاصة الناشئة عن الضغوط التي يمارسها الائتلاف الخليجي، ولكنها استجابة أوسع نطاقا لإدراك أن الكثير من المعاناة الإنسانية والحروب المدمرة والاستغلال الاقتصادي والانهيار الاجتماعي والإساءة السياسية على مر التاريخ قد نتج بشكل مباشر أو غير مباشر عن ارتكاب الجرائم الجيوسياسية، التي لم يتم الاعتراف بها، ناهيك عن منعها ومحاسبة القائمين عليها.

ما الجريمة الجيوسياسية؟

إن الموقف المتبع هنا هو أن وضع ترسيم لما يسمى بـ«الجريمة الجيوسياسية» سيكون له أثر إيجابي على الرأي العام الدولي والمجتمع المدني، ويمكن أن يقيد توازن النشاط الدبلوماسي بطرق ملموسة مفيدة لضحايا «الجريمة الجيوسياسية»، وبدون مثل هذا التصنيف، توجد مجموعة منطقية من المعتقدات بأن السلوك الجيوسياسي سيبقى غير منظم باستمرار وخاضع للتقديرات.

ولطن هناك نقطة تقنية مهمة، حيث لا تعتبر الجرائم الجيوسياسية معترفا بها على هذا النحو في القانون الجنائي الدولي، ولا يمكن تقديمها شكوى صالحة إلى المحكمة الجنائية الدولية زلكنها في ذات الوقت أفعال غير مشروعة تقوم بها تلك الدول ذات السيادة وذات القدرات الجيوسياسية لتبني سياسات تعمد الإضرار بدول أخرى ذات سيادة وبشعوبها، وهناك تباين نسبي في تعريف القوى الجيوسياسية وفق السياق.

وهكذا، قد تكون الولايات المتحدة فاعلا جيوسياسيا فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية والتحالف الخليجي، في حين أن هذه الجهات الفاعلة فاعلة جيوسياسية فيما يتعلق بقطر، وهذا هو الحال بالنسبة للحالة التي يجري النظر فيها هنا.

لا تؤدي العلاقة الجيوسياسية إلى ارتكاب جريمة جيوسياسية بالضرورة، ما لم يكن هناك دليل على وجود نية لإحداث أذى أو فشل ناجم عن التقصير في إدراك الآثار المحتملة للإجراءات والسياسات.

 من بين الأمثلة التاريخية البارزة للجريمة الجيوسياسية هي دبلوماسية السلام في فرساي حيث أثرت على أوروبا والشرق الأوسط، عبر فرض السلام العقابي على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وتفضيل الطموح الاستعماري على رفاهية الشعوب والمجتمعات بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بفرض المجتمعات الإقليمية الأوروبية على الجماعات العرقية والدينية.

يعتبر وعد بلفور أيضا ودمجه في الترتيبات المفروضة على فلسطين وأغلبية سكانها العرب مثالا آخر على الجريمة الجيوسياسية، كما أن هناك مثالا آخر في فرض العقوبات العشوائية على العراق بعد حرب الخليج عام 1991، التي أسفرت عن عدة مئات الآلاف من القتلى المدنيين، وتم الحفاظ عليها مع المعرفة الرسمية لهذه الآثار المميتة على حياة الأبرياء من قبل حكومة الولايات المتحدة.

وبتوسيع هذا التحليل ليشمل قطر، فإن السؤال هو ما إذا كان الائتلاف الخليجي قد تبنى سياسات غير شرعية وحافظ عليها بصورة غير مشروعة، مما أضر بشعب قطر ودولة قطر.

وتتكثل عناصر الجريمة في كل من عدم المشروعية والوعي، ويبدو أن عدم المشروعية واضح إلى حد معقول من خلال الطبيعة الصريحة للمطالب الـ13 التي تؤكد أيضا على الوعي الذي تم الاعتراف به من خلال عملية إعادة التأكيد الدورية على المطالب من قبل المسؤولين الكبار الذين يمثلون حكومات الائتلاف الخليجي، كما أن ردود الفعل التصالحية لحكومة قطر على هذه المطالب غير المشروعة والدبلوماسية القسرية المصاحبة تقوي ادعاء الجريمة الجيوسياسية.

وكما هو مقترح، فإن وصف الأخطاء غير المشروعة التي ارتكبتها الجهات الفاعلة الجيوسياسية كـ«جريمة جيوسياسية» أمر مثير للجدل، ويجب تقييمه بعناية باعتباره تكتيكا عاما لتوسيع القيود المعيارية للجهات الفاعلة الجيوسياسية، وهدفها هو حماية تلك الدول والأشخاص المتضررين من هذه الأشكال غير المنظمة والمدمرة بشكل كامل تقريبا من الأخطاء الدولية.

أنواع الجريمة الجيوسياسية

هناك نوعان من الجرائم الجيوسياسية المرتبطة بالثغرات الرئيسية في القانون الدولي: أولا، المبادرات الدبلوماسية التي تسبب ضررا متوقعا، ومع ذلك لا يحظرها القانون الدولي الحالي، مثل العقوبات الجزائية التي تفرضها دولة منتصرة على بلد مدمر ومهزوم. وثانيا، التحركات الدبلوماسية التي تنتهك القواعد القانونية القائمة، إلى درجة كونها جرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات جسيمة للقانون الجنائي الدولي، ولكنها غير قابلة للإنفاذ ضد الجهات الفاعلة الجيوسياسية وحلفائها المقربين، مما يخلق معايير مزدوجة فيما يتعلق بتنفيذ القواعد القانونية.

الرأي الخلافيّ هنا هو أن مطالب الائتلاف الخليجي وأعماله القسرية تندرج تحت الفئة الثانية من الجرائم الجيوسياسية، أي التي تنطوي على سلوك محظور يتجاوز النطاق الحالي للقانون القابل للإنفاذ، مما يترك قطر على ما يبدو بدون علاج رسمي فعال.

إن المطالبة بالاعتماد على ادعاء بـ«الجريمة الجيوسياسية» هي تنبيه ضمير العالم إلى ثغرات القانون وتعبئة الضغوط على الائتلاف الخليجي لإسقاط مطالبهم واستعادة العلاقات الطبيعية عبر إنهاء الحصار والمقاطعة وأي إجراءات قسرية أخرى موجهة ضد قطر، وتحمل المسؤولية عن جميع الأضرار التي لحقت بقطر والقطريين وأي أطراف ثالثة عالقة في هذه الشبكة من المخالفات غير المشروعة.

مزايا وعيوب

بالنظر إلى هذا التعقيد، يبدو أنه من المفيد تقييم ما إذا كانت المزايا تفوق المساوئ بخصوص الزعم بوجود جريمة جيوسياسية قبل أن تحدد قيادة قطر في هذه المرحلة أفضل خياراتها السياسية.

فيما يتعلق بالمزايا، تكون العوامل التالية ذات صلة:

أولا: إن الزعم بجريمة جيوسياسية لا يتطلب أي استعدادات أو نفقات تجهيزية.

ثانيا: إن نص المطالب الثلاثة عشر هو انتهاك واضح لحقوق دولة قطر الأساسية ما يجعله عرضا مقنعا.

ثالثا: مع كون الادعاء غير رسمي، فإنه يترك الباب مفتوحا أمام الحل الدبلوماسي للحالة، متجنبا الإحراج الرسمي للدول الأعضاء في ائتلاف الحصار.

رابعا: الاعتماد على حجة الجريمة الجيوسياسية يجعل من شكاوى قطر سهلة الاستيعاب بالنسبة لوسائل الإعلام والجمهور، وتضع قطر في موقف واضح ومتعاطف.

خامسا: إن تقديم هذه الحجة هو مساهمة بناءة لسد الثغرات في القانون الدولي من خلال اللجوء إلى الاعتبارات الأخلاقية والسياسية، وخاصة المساعدة للدول ذات السيادة الضعيفة وخطوة للمساءلة القانونية للجهات الفاعلة الجيوسياسية حول أفعالها.

فيما يتعلق بالعيوب قد تكون العوامل الآتية ذات صلة:

أولا: سيعتبر الادعاء بجريمة جيوسياسية مثيرا للجدل، بل وحتى استفزازيا، ويمكن أن يؤدي إلى تصعيد المواجهة، مما يزيد من صعوبة الحصول على حل.

ثانيا: بما أن مفهوم الجريمة الجيوسياسية يهدد لاعبين سياسيين رئيسيين آخرين في العالم، فقد يُنظر إليه على أنه ابتكار غير مرغوب فيه، بل وخطير، يمكن أن يثبط المحاولات الدبلوماسية من قبل دول مثل الولايات المتحدة لفرض سطوتها.

ثالثا: بما أن الجريمة الجيوسياسية تتحدى مباشرة التحالف الخليجي، فقد تعيق التحرك نحو المصالحة والحلول الوسط، كما تجعل من الصعب التوصل إلى شروط للحل.

رابعا: إذا كان الهدف الأساسي لقطر هو إنهاء المواجهة، وليس أكثر من ذلك، فإن التركيز على الجريمة الجيوسياسية يمكن أن يجعل عملية المصالحة أكثر تعقيدا؟

في النهاية، يجب الاختيار فيما إذا كان تقديم هذه الحجة في هذه المرحلة من النزاع، يساعد قطر على تحقيق طيف أهدافها بما في ذلك السلام والمصالحة والوساطة والوئام بين دول الخليج والوحدة ضمن مجلس التعاون الخليجي.

وأيا كان القرار الذي يتم التوصل إليه، يبدو من المفيد إدراك أن نهج «الجريمة الجيوسياسية» قابل للتطبيق على هذا النوع من المواقف الصعبة التي تواجه قيادة دولة قطر.

المصدر | ريتشارد فالك - فورين بوليسي جورنال

  كلمات مفتاحية

حصار قطر جريمة جيوسياسية القانون الدولي