الكنيسة المصرية على صفيح ساخن.. دماء وانتحار وصراعات

الثلاثاء 7 أغسطس 2018 10:08 ص

دون مقدمات، باتت أخبار الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، تتصدر صفحات الحوادث والجريمة، بعد مقتل رئيس دير "أبو مقار" بوادي النطرون، شمالي البلاد، ومحاولة انتحار راهب، وتجريد آخر. 

تسارع الأحداث اللافت، وضع الكنيسة في بؤرة الضوء، كما وضع بابا الأقباط "تواضروس الثاني" في موقف حرج، وسط رغبة حكومية وأمنية في كشف ملابسات الحادث، لنفي فرضية العمل الإرهابي.

وخلال الأعوام القليلة الماضية، شهدت مصر حوداث اعتداء، راح ضحيتها قساوسة وأقباطا على يد تنظيمات مسلحة، لكن الحادث تلك المرة يعد نادرا، ووقع داخل الدير، حيث عثر على «إبيفانيوس» غارقا في بركة من الدماء أمام حجرته، وتبين وجود إصابة وتهشم بمؤخر الرأس بأداة حادة.

ويظل احتمال أن يكون المعتدي على اﻷنبا الراحل هو أحد قاطني الدير قائما، نظرا للمنطقة المنعزلة التي يتواجد فيها الدير، وكونه محاطا بأسوار عالية، فضلا عن مكان الاعتداء الذي يشير إلى معرفة القاتل بتفاصيل الدير، وأماكن تواجد كاميرات المراقبة به، وخط سير "إبيفانيوس".

تجريد "أشعياء" 

جاء قرار تجريد الراهب بذات الدير الذي شهد الجريمة، "أشعياء المقاري" وعودته لاسمه العلماني "وائل سعد تواضروس"، ليزيد من حدة الاتهامات داخل الصف القبطي بتورط رهبان الدير في الحادث. 

واعتبر البعض قرار التجريد تمهيدا لتقديم "أشعياء" للتحقيق أمام النيابة كمتهم في مقتل "إبيفانيوس"، وفقا للعرف الكنسي في التعامل مع الرهبان الخاضعين للتحقيقات أمام الجهات القضائية المدنية، حيث تجردهم الكنيسة ليتم التعامل معهم بصفتهم المدنية بحيث لا صلاحية لهم بالظهور بالزي الكنسي، خشية تسليط الضوء على الصليب المعلق في رقبتهم أو زيهم، والقول إن الدولة تحاكم رجال دين مسيحي ما يثير استياء الأقباط، بحسب "مدى مصر".

لكن الكنيسة، سارعت في بيان، إلى نفي ذلك، قائلة إنه "لا علاقة للقرار بالتحقيقات التي تجرى الآن والخاصة بموضوع (استشهاد) نيافة الأنبا إبيفانيوس وإنما لأسباب رهبانية بحتة".

وكان الأنبا "إبيفانيوس"، أسقف ورئيس دير القديس أبو مقار، قد عُثر عليه مقتولا في 29 يوليو/تموز الماضي، داخل الدير، دون أن تتمكن جهات التحقيق حتى اﻵن من تحديد هوية القاتل.

وجاء في قرار تجريد الراهب "أشعياء" أنه اتخذ بناء على تحقيق أجرته لجنة خاصة شكلتها اللجنة المجمعية لشؤون الرهبنة والأديرة بخصوص الاتهامات والتصرفات التي صدرت عن الراهب، والتي "لا تليق بالسلوك الرهباني والحياة الديرية"، بحسب نص القرار.

أزمة حساسة

ووفق الباحث القبطي "كمال زاخر"، فإن "الارتباك داخل الكنيسة واضح، والأيام الماضية تشير إلى الاختيار بين كشف الحقيقة وتجاوز أزمة المعايير الثقافية والدينية التي تمس هيبة الكنيسة وبين عدم كشفها ووضع الدولة موضع المسؤولية عن الحادث في وقت شديد الحساسية ولا يحتمل مثل هذه الأمور".

وأضاف: "البابا بنفسه هو من طلب تحويل الأمر للنيابة وهو ما يدل على إصراره كشف الحقيقة، وهناك إصرار من الدولة أيضا على الوصول إلى الحقيقة لدحض الفكرة القائلة إنه إرهاب".

وتشير تقارير صحفية إلى قرب صدور قرارات بتجريد آخر من رهبان الدير بسبب ممارسته أفعالا لا تليق بحياة الرهبنة، ما يؤكد القول بوجود خلافات حادة بين رهبان الدير، واحتمال تورط أحدهم أو أكثر في جريمة مقتل "إبيفانيوس".

اللافت أن قرارات ضبط الرهبنة، التي أصدرتها لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بالمجمع المقدس، برئاسة "تواضروس"، حذرت الرهبان من "التورط في أي تعاملات مالية أو مشروعات لم يكلفه بها ديره، أو التواجد خارج الدير بدون مبرر والخروج والزيارات بدون إذن مسبق من رئيس الدير"، ما يشير إلى أن تجاوزات مالية أو وقائع فساد قد شهدها الدير، وأدت إلى تفاقم الأحداث على الشكل القائم.

يعزز ذلك تقرير صادر عن لجنة شؤون الأديرة فى الكنيسة القبطية، قدمته للبابا "تواضروس" في فبراير/شباط الماضي، اتهم "إشعياء المقاري" بكسر مبدأين من مبادئ الرهبنة هى الطاعة والتجرد، والتفاخر بحصوله على الطعام والأموال، وتكوينه جبهة مضادة لرئيس الدير.

محاولة انتحار

ويبدو أن قضية مقتل الأنبا "إبيفانيوس" تتجه نحو منحى جديد، ربما يميط اللثام عن صراعات حادة وانقسامات عنيفة داخل البيت القبطي، لا سيما بعدما  أقدم الراهب المجرد من الرهبنة "أشعياء المقارى"، على الانتحار بتناول السم، وتم التحفظ عليه فى العيادة الطبية بالدير لحين حضور النيابة، وعقب التحقيق معه وانصراف النيابة بنحو ساعة، فوجئ الرهبان براهب شاب يدعى "فلتاؤس المقارى"، يحاول هو الآخر الانتحار بإلقاء نفسه من الدور الثالث، وفق صحف مصرية.

ووفق مصادر أمنية، فإن "الأب فلتاؤس المقاري حاول الانتحار بقطع شرايين يديه، ثم ألقى نفسه من أعلى عيادة الدير بالطابق الثالث؛ فأُصيب بكسور في العمود الفقري والحوض، وتم نقله لمستشفى مايكل أنجلو الأمريكاني بالزمالك في حالة حرجة".

اللافت أن الراهب المجرد من صفته على خلاف مع الأنبا الراحل "إبيفانيوس" الذي تقدم بطلب للبابا "تواضروس الثاني" في فبراير/شباط الماضي، لنقل "أشعياء" من الدير وصدر بالفعل قرار باباوي بذلك إلا أن "أشعياء" تمكن من جمع توقيعات من زملائه تطالب بالإبقاء عليه بينهم، بلغت 45 توقيعا وقد ظل في الدير حتى صدور قرار تجريده.

"شنودة" و"متى"

وليس مستبعدا وجود علاقة بين الحوادث الثلاثة، مقتل "إبيفانيوس"، وتجريد "أشعياء" ومحاولة انتحار" فلتاؤس"، يعزز تلك الفرضية وجود حالة انقسام فكري تاريخية بين رهبان دير اﻷنبا مقار، لم تكن متداولة بشكل واضح في العلن، غير أن أغلب المتابعين للشأن القبطي كانوا على علم بتفاصيلها وجذورها.

وتعود جذور الخلافات الفكرية في الدير إلى صراع نفوذ بين اﻷب "متى المسكين" واﻷنبا "شنودة الثالث" قبل جلوس اﻷخير على كرسي الباباوية، والذي ترشح له الأب "متى" أمامه، قبل أن يجلس البابا "شنودة" على الكرسي في 1971، غير أن الخلاف وصل ذروته في 1981 عندما حدد الرئيس المصري الراحل "أنور السادات" إقامة "شنودة" في دير اﻷنبا بيشوي، ضمن ما عُرف باعتقالات سبتمبر/آيلول، والتقى "السادات" وقتها باﻷب "متى"، وكلفه بإدارة أمور الكنيسة، وكان الأخير وقتها بمثابة اﻷب الروحي لدير اﻷنبا مقار.

لم يكن الصراع بين البابا "شنودة" وأتباعه، والأب "متى" المسكين وتلامذته سرا خفيا، ﻷن البابا "شنودة" أعلنه في أكثر من مناسبة، في عام 1991 عندما سُئل عن سبب الخلاف بينه وبين رهبان ورئيس دير الأنبا مقار قال: «رهبان دير الأنبا مقار يتمسكون بأب من الأباء أكثر من الكنيسة كلها، يعني يطيعون هذا الأب أكثر مما يطيعون البابا والمجمع المقدس والأساقفة، فإحنا سايبنهم على راحتهم هنعمل ايه؟».

كما قام البابا "شنودة" بنشر عشرات الكتب للرد على كتب الأب "متى المسكين"، والتي صدر قرار بمنع تداولها في مكتبات الكنيسة.

وفي عام 2012، قام وفد من رهبان الدير بزيارة الأنبا "باخوميوس"، القائم مقام البابا، وطلبوا منه عدم السماح بتولي أحد أبناء البابا "شنودة" رئاسة الدير وإلا تفجّرت أزمة حقيقية. 

بعدها، وفي عام 2013، قرر البابا "تواضروس" تعيين أساقفة جدد، وبعد عدة جلسات مع رهبان دير الأنبا مقار ليختار رئيسا له، وسط انقسامات بين الفريقين، ترشح للدير ثلاثة آباء ليحصل اﻷنبا "إبيفانيوس"، تلميذ اﻷب "متى"، على أغلبية اﻷصوات، وسط امتناع عدد من الرهبان عن التصويت، ويصبح رئيسا للدير.

وفي 25 يوليو/تموز الماضي، وقبل أسبوع من مقتل "إبيفانيوس" كرمت الكنيسة القبطية اﻷرثوذكسية اﻷب "متى المسكين" في احتفالية كبرى بمئوية مدارس اﻷحد، والذي اعتبرته الكنيسة أحد روادها، وهو التكريم الذي أثار استياء في بعض اﻷوساط القبطية، لتشن بعض الصفحات المسيحية هجوما على هذا التكريم، متهمة اﻷب "متى" بأن أفكاره تمثّل خطورة على الكنيسة.

وبينما ينتمي دير الأنبا مقار تاريخيا إلى القمص "متى المسكين"، فإن كثيرا من رهبانه أعلنوا ولاءهم لمدرسة "شنودة" بعد رحيل "متى المسكين" 2006، وهو ما أوجد صراعا متناميا بين الفريقين منذ سنوات.
 

  كلمات مفتاحية

دير أبو مقار تواضروس الثاني إبيفانيوس أشعياء المقاري البابا شنودة