"جورج فريدمان": الأبعاد الجيوسياسية للأزمة الاقتصادية في تركيا

الخميس 16 أغسطس 2018 03:08 ص

من السهل للغاية أن نهمل السياق التاريخي في النظر إلى الأحداث، وفيما يتعلق بالدول، فإن السياق يكون مسألة عقود أو قرون، وليس ساعات أو أسابيع.

ومن الغريب أن أولئك الذين يحاولون فهم الأزمة المالية التركية يراجعون سعر الليرة كل صباح، ويتابع آخرون السيناريو المتوقع للأزمات المالية من خلال وضع الجميع في أدوار الضحايا أو الأشرار.

وفي الواقع، فإن أسباب أزمة تركيا معقدة، والكثير منها لا علاقة له بالاقتصاد، وكانت المشكلة قائمة تحت السطح منذ أعوام، وكانت تستدعي إعادة تقييم لجميع الأنظمة السياسية والاجتماعية.

وهذا ما يحدث في تركيا الآن؛ حيث تتم إعادة التقييم.

وتعد الأزمات المالية، خاصة في القوى الناشئة، شائعة، وهي تزعزع الاستقرار وتضعف البلاد، ولكن كما هو الحال مع الولايات المتحدة عام 1929، فإنها نادرا ما تدمر البلاد تماما، وتركيا ليست مختلفة عن ذلك.

السياق التاريخي

كانت الدولة العثمانية إمبراطورية عظيمة، ووصلت قوتها إلى عمق أوروبا والبحر المتوسط، ​​والشرق الأوسط، وشمال أفريقيا.

وكانت أغلبيتها مسلمة ويحكمها المسلمون، لكنها كانت مستعدة للتحالف مع الدول المسيحية، وللتجارة مع أي كيان، حيث دمج العثمانيون الإسلام مع سياسة خارجية واقتصادية متطورة.

لكن مع انهيار العثمانيين بعد الحرب العالمية الأولى، تضاءلت تركيا في الحجم والقوة والثروة، وفقد الحكام الإسلاميون المصداقية، وتمت إعادة تشكيل البلاد من قبل "مصطفى كمال أتاتورك" كقوة أوروبية علمانية، وكضابط سابق في الجيش، كلف "أتاتورك" الجيش بالدفاع عن فكرته عن الدولة التركية الجديدة.

وامتنعت تركيا عن المشاركة في الحرب العالمية الثانية، ولكن في أعقاب ذلك، ردا على المحاولات السوفييتية لزعزعة استقرارها، أصبحت تركيا جزءا رئيسيا من التحالف المناهض للسوفييتية بقيادة الولايات المتحدة.

وكانت عضويتها في هذا التحالف ضرورية، وعززت صورتها باعتبارها غربية وعلمانية، وأثارت أي حكومة تركية حاولت الابتعاد كثيرا عن رؤية "أتاتورك" تدخلا عسكريا حاسما، ولم تكن تركيا مستقرة أبدا داخليا، لكن مكانتها في العالم كانت راسخة.

لكن تركيا قد خرجت فجأة عن عباءتها خلال عامي 1991-1992، عبر 3 أحداث:

أولا، أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى إزالة التخوف الرئيسي الذي دفعها نحو استراتيجيتها الغربية.

ثانيا، أدى توقيع معاهدة "ماستريخت"، ورفض أوروبا طويل الأجل للسماح لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم رغبة تركيا في الانضمام إليه، إلى خلق فجوة بين تركيا وأوروبا.

وأخيرا، أشعلت عملية "عاصفة الصحراء"، إلى جانب أحداث أخرى، الوعي الذاتي الإسلامي، وزعزعت استقرار النموذج التركي العلماني الذي أشرفت فيه نخبة علمانية أوروبية على جمهور مسلم سلبي.

وأصبحت تركيا معادية بشكل متزايد لأوروبا والعكس صحيح، وكانت القضية السطحية لهذا العداء دوما هي مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي، لكن الأتراك كانوا بخير خارج الكتلة، ربما أفضل مما كانوا سيفعلون بداخلها.

وكانت القضية الأعمق هي عدم ثقة أوروبا في أسلمة تركيا والأتراك في أوروبا، وكذلك المخاوف بشأن الهجرة والعنف،  ورأت أوروبا - ولاسيما ألمانيا- تركيا كمصدر خطر عليها.

وأصبح الأتراك أيضا يشكون في النوايا الأمريكية، غير راغبين في لعب دور شريك صغير جدا للولايات المتحدة وتوجوا تلك النظرة برفض المشاركة في غزو العراق عام 2003، خوفا من أن يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار المنطقة، وهو ما فعلته الحرب، وفي نفس الوقت خفتت بعض العلاقات التركية الأخرى، أو دمرت، وعلى رأسها العلاقة مع (إسرائيل).

ومع انتشار الأيديولوجية الإسلامية بين الشعب التركي، كان النظام العلماني مجبرا على دمجها، وظهر حزب العدالة والتنمية عام 2001 استجابة لهذه المتغيرات، وبحلول انتخابات عام 2002، كان حزب العدالة والتنمية أكبر الأحزاب في البرلمان التركي.

ومن بعض النواحي، كان حزب العدالة والتنمية أقل تشددا مما ظهر؛ ولم يقم بإسقاط النظام العلماني فجأة، لكنه قام بتسخير المشاعر الإسلامية التي كانت تجتاح العالم الإسلامي، لإبعاد تركيا عما كانت عليه منذ الحرب العالمية الأولى.

ازدهار وقوة

وكان حزب "العدالة والتنمية" ناجحا بشكل ملحوظ بطرق أخرى، حيث أشرف على فترة رائعة من النمو الاقتصادي، وباستثناء عام 2009، بعد الأزمة المالية العالمية، حافظت تركيا على معدل نمو سنوي يتراوح بين 5 و10%.

وكان النمو أحد العناصر التي حولت تركيا من قوة هامشية إلى قوة إقليمية مهمة، ولقد منحها ذلك مقعدا على الطاولة مع الولايات المتحدة وروسيا فيما يتعلق بشؤون المنطقة، وتدفق المقرضون الأجانب والمستثمرون إلى تركيا للاستفادة من الطفرة التي بدا أنها لن تنتهي أبدا.

وكان كل شيء يسير على ما يرام على السطح، ولكن تحت السطح، كان عدم الاستدامة هو المصير المحتمل لعدة أسباب، أولا، سمحت الطفرة الممتدة في تركيا، دون ركود كبير بعد عام 2008، بظهور نوع من عدم الكفاءة، وتعتبر حالات الركود تصحيحات ضرورية للاقتصادات سريعة النمو، كما أن التدفق المستمر للأموال الأجنبية إلى تركيا أخفى المشاكل الأساسية.

ثانيا، لم تتم تسوية مسألة العلمانية والدين، واستمر الجيش، أو على الأقل جزء منه، في رؤية نفسه، كما يدعوه الدستور، باعتباره الضامن للعلمانية.

وبما أن الحكومة أصبحت على ما يبدو إسلامية بشكل متزايد، فقد رأت عناصر قوية داخل الجيش أنه من واجبهم وقف هذه الحركة بطريقة أصبحت طبيعية منذ الحرب العالمية الأولى، عن طريق التدخل في العملية السياسية.

ثالثا، كانت هناك قضايا استراتيجية تواجه تركيا في سوريا والعراق والبحر الأسود، ناهيك عن القضية الكردية في تركيا نفسها، ولم يكن لتركيا استراتيجيات واضحة في أي من هذه الأماكن، ووجدت القوى الكبرى تتدخل بالقرب من حدودها، وكان سلوك تركيا تكتيكيا، وجعل غياب الاستراتيجية  تصرفاتها غير متوقعة بالنسبة إلى الدول الأخرى، الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات.

واندلعت الأزمة عام 2016، عندما حاول الجيش التركي إسقاط حزب العدالة والتنمية واستبداله عبر انقلاب عسكري، ودفع الانقلاب الفاشل الحكومة إلى القضاء على أي تهديد مستقبلي من الجيش، وترهيب الأعداء المحتملين، ولقد اعتبر "أردوغان" ذلك ضرورة لحماية الحكومة المنتخبة ديمقراطيا وفرصة لفرض إرادته على المجتمع ككل.

وغير الانقلاب وحالة الطوارئ الممتدة سمعة تركيا بين المستثمرين الأجانب والمقرضين، وعلى الرغم من استمرار النمو الاقتصادي، لكن استقرار تركيا أصبح موضع شك وتصدعت الحكومة بشدة، وطالت مدة حملة القمع، الأمر الذي هدد استقرار الحكومة.

ونتيجة لذلك، تباطأ تدفق الأموال الأجنبية، وبدأت نقاط الضعف الكامنة في الاقتصاد تظهر نفسها، وكانت الحكومة بحاجة إلى نمو مرتفع للحفاظ على الاستقرار.

ومع تراجع الثقة، حاولت اتخاذ المزيد من الإجراءات اليائسة لاحتواء المشاكل، ما زاد من عدم الارتياح بين الأجانب بشأن استقرار الاقتصاد.

وما حدث هو أنه في المجالات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، فإن الحل الذي توصلت إليه تركيا زاد من ابتعاد وانعزال تركيا عن الغرب.

وتعد الأزمة الحالية جزءا من مشكلة نظامية، وكانت الولايات المتحدة، بعد أن نشأت بشكل كبير من رحم الحرب الأهلية التي استمرت حتى العشرينات من القرن الماضي، قد خضعت لأزمة مالية ضخمة مكنتها من إعادة هيكلة الحكومة الفيدرالية والخروج منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وكان هناك من شكك في إمكانية تعافيها، لكن الولايات المتحدة، بالطبع، نجت من هذه الأزمات.

لقد جادلت من قبل بأن تركيا تبرز بشكل متزايد كقوة إقليمية كبرى، ولا تقلل هذه الأزمة من ثقتي في ذلك، فمثل هذه الأزمات شائعة، بل ضرورية، بين القوى الناشئة، لأنها تمكنها من التخلص من الأجزاء الفاشلة.

ومن الضروري عدم قضاء وقت في تخيل أن القادة السياسيين وخصوصياتهم تحدد الاتجاه الطويل الأمد للدول، فعلى المدى الطويل، لا تخضع الحقائق الجيوسياسية، مثل الواقع الاقتصادي، لنزوات أي شخص، ولا يمكن فهم تركيا، مثل البلدان الأخرى، بالنظر إلى سلوك شخص واحد، أو عدد قليل من الناس، وتظل تركيا، من خلال الجغرافيا والتاريخ، القوة الرئيسية في المنطقة.

المصدر | جورج فريدمان - جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية

مستقبل تركيا الاقتصاد التركي حزب العدالة والتنمية الهيمنة الإقليمية أردوغان الليرة التركية