"دماء في الدير".. قصة 10 رهبان قسموا الكنيسة المصرية

الاثنين 20 أغسطس 2018 06:08 ص

صبيحة 5 مايو/أيار 2009، دخل بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الراحل (الكنيسة المصرية)، "شنودة الثالث"، دير الأنبا "أبو مقار" بمدينة وادي النطرون، شمالي البلاد، في زيارة هي الأولى منذ 31 عاما.

وآنذاك، استقبله رهبان الدير البالغ عددهم 110، إضافة لـ20 طالب رهبنة؛ حدد لهم موعد رسامة بعد 6 أشهر، لكنه في ذلك الموعد رسّم رهبانا آخرين قسموا الدير وأخرجوا صراعات الكنيسة للعلن.

استكشف "شنودة" خلال تلك الزيارة الدير لأول مرة بعد قطيعة زادت على ربع قرن؛ فرغم أهمية ذلك الدير الفكرية والاقتصادية الكبيرة للكنيسة باعتباره أحد المدارس الأربعة لتخريج رهبان جدد، ظل في قطيعة تامة عن الكنيسة طيلة حياة الراهب الراحل "متى المسكين" (توفى في 2006).

زيارة "شنودة" شهدت الإيذان بسيطرته الإدارية على الدير بشكل كامل؛ حيث أعلن خلالها أنه المسؤول المباشر عن الدير، وعن الرهبان بعد قبوله استقالة الأنبا "ميخائيل" رئيس الدير السابق ومطران أسيوط بعد مضى 65 عامًا على خدمته كرئيس للدير منذ عام 1944، حيث قدم استقالته في 21 مارس/آذار 2009.

لكن خطة "شنودة" بالسيطرة الفكرية على الدير لم تكتمل إلا بعد تلك الزيارة التي التقى خلالها طالبي الرهبنة الـ20؛ إذ حدد موعدا لرسامة رهبان الدير الجدد برئاسته لأول مرة، وذلك بعد 6 أشهر.

قصة "متى المسكين"

استقلال دير "أبو مقار" (أو مكاريوس الكبير) استمر ساريا حتى رحيل الأب الروحي "متى المسكين"، عام 2006؛ حيث كان بينه وبين "شنودة" خلافات معلنة.

إذ شن "شنودة" هجوما كبيرا على أفكار "متى المسكين" وأتباعه وصلت إلى صفحات الجرائد، وفي كتب روحية، حتى في عظاته الأسبوعية.

ولم ينس "شنودة" يوما لـ"متى المسكين" أنه كان رئيس لجنة إدارة شؤون الكنيسة بمعزل عنه، عندما استبعده آنذاك الرئيس المصري الراحل "أنور السادات"، ووصل الأمر إلى التصدي لكل من يحاول الرهبنة في الدير؛حيث كان يهدد بحرمان من يفكر في دخول هذا الدير.

الخلاف بين الفريقين لم يكن سياسيا أو إداريا فقط، لكنه عقدي أيضا؛ فـ"متى المسكين" كان منفتحا على الكنائس الأخرى، ودائم الترجمة من الأديرة والمجامع المقدسة الأخرى، ودأب على النقل منها، وكان يبدي تسامحا لافتا إزاء الخلافات معها.

في المقابل، فإن تنظيم الأمة القبطية (الذي ينتمي إليه شنودة) يرى كل ذلك هرطقة (خروج على العقيدة)، ويعتبر أن خلاص المسيح لا يشمل أولئك الذين ليسوا أرثوذكس، ويصف النقل عن الكنائس الأخرى والتقارب معهم بمثابة خلل في العقيدة ربما يوجب الطرد والتجريد (الشلح) من الكنيسة، وقد يصل لاعتباره مهرطقا.

وفي تعليقه على توجهات الدير التي كان ينشرها عبر مطبعته ومركز البحث والترجمة الخاص به، وصف "شنودة" رهبان دير "أبو مقار" بـ"المضطربين نفسيا"، محذرا من قراءة -بل ومنع توزيع- مطبوعات الدير بالأخص كتب "متى المسكين".

كتيبة الرهبان

عقب تلك الدراسة، أرسل "شنودة" لرؤساء الأديرة الثالثة (بيشوي، السرياني، البرموس)؛ للبحث عن طلبة رهبنة يتمتعون بمواصفات خاصة، ويمتلكون الحجة التي تمكنهم من المبارزة فكريا، ويؤمنون بفكره، ويدينون له بالولاء، وجرى إرسال الأسماء بناء على ترشيحات رؤساء الأديرة الثلاثة.

بعد وضع أسماء المرشحين من قبل رؤساء الأديرة، وقف 10 من طلبة الرهبنة أمام البطريرك، وكانوا بمثابة "كتيبة" لغزو دير "الأنبا مقار"، وتفتيت فكر القمص "متى المسكين"، وبذلك أوصاهم "شنودة"، وأدخلهم الدير لمدة 6 أشهر، على أن تتم بعدها رسامتهم رهبانا بالدير لنشر أفكاره ومواجهة تعاليم "متى المسكين".

في الموعد المحدد، رسم شنودة أوائل عام 2010 طلبة الرهبنة بالدير، وألبسهم بنفسه "قلنسوة" (غطاء رأس للرهبان) معتمد من المجمع المقدس برئاسته.

لكن المشكلة أن "متى المسكين" كان لا يعترف بتلك الـ"قلنسوة" ويرفض ارتداءها؛ ما دفع أتباعه، أيضا، لرفض ارتدائها، ولم يجر ترسيمهم كما كان مقررا.

عرفت هذه الدفعة من رهبان دير "أبو مقار" بدفعة 2010، كما أطلق عليها دفعة الأنبا "ميخائيل"، (رئيس الدير السابق)، وكان عددهم 10 رهبان، وحملت في جعبتها مسؤولية تطهير الدير من تعاليم "متى المسكين"، وألبسهم "شنودة" القلنسوة الرهبانية، في محاولة لتمييز رهبانه عن بقية رهبان الدير وإعلان انتهاء استقلاليته.

قاتلان ومتمرد

بدأ الرهبان الـ10 عملهم بمحاولات التغلغل في أوساط الرهبان، والجدال عن عقائدهم، لكن كثيرا من تلك المحاولات قوبلت بالصد والرفض، ولم تفلح كل تلك المحاولات في زيادة أعدادهم بشكل لافت.

عقب ذلك الصد، بدأت خطة الرهبان تتغير من الجدال إلى الهجوم، وتصيد الأخطاء والتشهير بالرهبان الآخرين، ونشر مقاطع فيديو للعظات الأسبوعية للأساقفة والرهبان المخالفين، التي تحتوي على ما اعتبروه "هرطقة"، ووصلت الخلافات إلى دوائر مواقع التواصل الاجتماعي المسيحية، وسمع بها من خارج الدير.

في عام 2013، قرر البابا الحالي، "تواضروس الثاني"، إجراء انتخابات في الدير لاختيار رئيس جديد له، لكن ذلك الإجراء جاء بأسوأ كوابيس "كتيبة الرهبان" إلى رئاسة الدير، الأنبا "إبيفانيوس"؛ أكبر تلاميذ "متى المسكين".

عقب اختياره رئيسا، أوصى "تواضروس" رئيس الدير الجديد "إبيفانيوس" بلم شمل الدير وإنهاء الخلافات، لكن تلك الخلافات لم تلبث أن استعرت.

وصلت الخلافات إلى ذروتها باختيار "تواضروس" لـ"إبيفانيوس" مسؤولا عن ملف الحوار بين الكنيسة والكنائس الأخرى، وهي المهمة التي تولاها الأنبا الراحل قبل أسابيع من مقتله بجهد كبير؛ إذ رتب اجتماعا لكنائس الشرق (شارك فيه تواضروس في بيروت)، كما رتب اجتماعا آخر بين "تواضروس" وبابا الفاتيكان "فرانسيس".

لكن اجتماع "فرانسيس" و"تواضروس" اشتمل على خطيئة لا تغتفر بحق رهبان الأمة القبطية؛ إذ أدى "تواضروس" و"فرانسيس" صلاة مشتركة من أجل الشرق الأوسط، بينما المشاركة في صلاة مع كنيسة أخرى مخالفة عقدية؛ لأنه اعتراف ضمني بهم، واعتبر الرهبان المناوئون لـ"إبيفانيوس" أن تلك الهرطقة المسؤول عنها هو القس الراحل.

"يعقوب المقاري"

برز اسم الراهب "يعقوب المقاري" (أحد رهبان دفعة 2010) على نطاق واسع بعد مقتل "إبيفانيوس" وسط أنباء تحدثت عن تجريده وطرده من الدير، لكن الكنيسة نفت صدور قرار رسمي بذلك، ثم أعلنت عن مهلة لمدة شهر لضبط أوضاع الأديرة المخالفة والخارجة عن سلطة الكنيسة، وإلا اعتبرته الكنيسة عصيانا، وهو البيان الذي اعتبروه مهلة لـ"يعقوب".

وحصل "يعقوب" على أرض مملوكة لسيدة قبطية تعيش بالخارج، إضافة إلى تبرعات من الأقباط بلغت 33 مليون جنيه مصري عام 2012 (تعادل 5.4 ملايين دولار آنذاك)؛ وذلك لبناء دير يحمل اسم "القديس الأنبا كاراس السائح"، في وادى النطرون.

وتمكن "يعقوب" من بناء أجزاء كبيرة من الدير، وحاولت الكنيسة التفاوض معه من أجل تسجيل أرض الدير باسم البابا "تواضروس" بصفته وليس شخصه باعتباره بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كما هو الحال فى أراضى كافة الأديرة، إلا أنه اشترط أن يصبح رئيسا للدير.

المفاوضات مع الراهب انتهت بصدور قرار تسريحه من دير "أبومقار" عام 2015، وصدور بيان رسمى موقع من الأنبا "ابيفانيوس" أسقف ورئيس الدير يؤكد فيه قطع أى علاقة بين الدير وبين الراهب المذكور، مع التحذير من أية معاملات مالية تتم معه.

لكن "يعقوب" لم يتم تجريده من رتبته نهائيا، كما لا يزال يمارس الرهبنة في الدير الجديد الخارج عن سلطة الكنيسة.

"إشعياء المقاري"

المتهم الأول في قضية مقتل "إبيفانيوس"، ورأس حربة "كتيبة الرهبان" في الخلافات داخل الدير؛ حيث نشرت مصادر كنسية خطابا من "إبيفانوس" يشكو فيه إلى "تواضروس" من تصرفات الراهب "إشعياء" أثناء رهبنته بدير "أبو مقار".

وذكر الخطاب أن الراهب "أشعياء" له "ذات كبيرة ويكسر قانونين في نظام الرهبنة، هما الطاعة والتجرد، ويفتخر أنه يحصل على أموال ومأكولات، ويستضيف الرهبان لديه في قلايته".

وتابع الخطاب: "كما أنه لا يتعامل مع الأب الأسقف أو أمين الدير نهائيا، ويقترب من عمل جبهة مضادة في الدير، ولا يمسك أي عمل في الدير بالرغم من أنه شاب في الثلاثينات".

وتبين من الخطاب أنه بعد أيام قرر البابا "تواضروس"، نقل الراهب إلى "دير الزيتونة"، ومتابعة سلوكه 3 أعوام، وحال كسر السلوك الرهباني يطرد من الرهبنة.

لكن "إشعياء" لم ينفذ ذلك القرار، وجمع توقيعات من زملائه الرهبان لوقف ذلك القرار، وظل في الدير إلى حين مقتل "إبيفانيوس".

وعقب مقتل رئيس الدير بيوم واحد، حاول "إشعياء" الانتحار بتناول السم، لكنه بتضييق التحقيقات عليه اعترف بأنه قتل "إبيفانيوس"، وإن زميله "فلتاؤس" عاونه في ذلك، وكشف أن الدافع وراء جريمته هو الخلافات العقدية والمالية مع رئيس الدير.

"فلتاؤس المقاري"

ظهر اسم "فلتاؤس" على نطاق واسع بعد مقتل "إبيفانيوس" بيوم واحد؛ حيث حاول الانتحار بقطع شرايين يده، وعند نقله إلى مبنى العيادات، صعد إلى الدور الثالث وألقى بنفسه من أعلى المبنى؛ ما أدى لإصابته بكسور في العمود الفقري والحوض، وجرى نقله لمستشفى الأنجلو أمريكان في حالة حرجة.

لكن التحقيقات توصلت إلى تورطه في جريمة القتل ومعاونته لـ"إشعياء"، واعترف بعد تحسن حالته بجريمته.

وبينما برزت أسماء 3 من الرهبان على نطاق واسع، فإن بقية الدفعة المذكورة (كتيبة شنودة) لم تكن بمنأى عن الخلافات التي قسمت الكنيسة ما بين تلاميذ "متى المسكين" وأنصار "شنودة" أو "الأمة القبطية"، خاصة في ظل تأكيدات أن عدد المشاركين في مقتل "إبيفانيوس" لم يكونا راهبين اثنين فقط.

  كلمات مفتاحية

مصر الكنيسة المصرية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية شنودة الثالث متى المسكين إبيفانيوس إشعياء المقاري يعقوب المقاري دير أبو مقار