"أوراسيا ريفيو": تونس والأزمة الخليجية.. لماذا تلتزم سياسة الحياد؟

الاثنين 20 أغسطس 2018 10:08 ص

كان القرار الكبير الذي اتخذته المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين، عام 2017، بقطع جميع العلاقات مع قطر، قد أدى إلى حدوث موجات من الصدمة في جميع أنحاء العالم. وقد بررت ما تسمى بـ"دول الحصار" تحركها الجذري بالإشارة إلى قطر كمصدر رئيسي لعدم الاستقرار في شبه الجزيرة العربية، المضطربة أصلا. وفي حين أن العديد من البلدان من الشرق الأوسط إلى أفريقيا سارعت إلى الانحياز إلى جانب إما قطر أو دول الحصار، فإن الخلاف يمثل إزعاجا مقلقا لتونس.

ونتيجة لثورة عام 2011، ازدهرت علاقة تونس بالدوحة لتصبح صداقة كاملة. وأشادت قناة "الجزيرة"، وهي المحطة الإخبارية الشهيرة التي تمولها قطر، باحتجاجات 2010-2011 ضد الرئيس المخلوع "زين العابدين بن علي"، ورحبت على الفور بالنجاح الانتخابي الذي تلاه لحزب "النهضة" الإسلامي. وفي المقابل، دفع ظهور الإسلام السياسي السعودية والإمارات بعيدا عن تونس.

وعلى الرغم من أن الدعم المالي الذي قدمته الدوحة وفر فترة راحة لا غنى عنها، أدركت تونس أنها لا تستطيع الاعتماد فقط على قطر لمعالجة القضايا الاقتصادية المستعصية التي نتجت عن اضطرابات عام 2011. ولذلك، سعت تونس لجذب الاستثمارات من كل من أبوظبي والرياض، مع الحفاظ على صداقتها مع الدوحة. وفي الوقت الذي بدت فيه هذه المناورة الدبلوماسية مجدية، اندلعت أزمة الخليج وقررت تونس أن الحياد يمثل أفضل مسار لاتباعه.

وفي نهاية المطاف، لم يكن حياد تونس ناجحا كما كانت تأمل. وقد قبلت السعودية ذلك جزئيا للعب في البداية، ولكن من يوليو/تموز 2017، تدهورت العلاقات التونسية الإماراتية إلى النقطة التي وجد فيها البلد الشمال أفريقي نفسه في المربع الأول، معتمدا على دعم الدوحة.

صعود النهضة: تونس تغازل قطر وتركيا

وكان القضاء على الإسلام السياسي والسعي للحفاظ على الهوية التونسية العلمانية هما العنصران اللذان ميزا حكم "بن علي" منذ توليه السلطة عام 1987. ومن أجل منع النزعة الإسلامية من الزحف إلى الحياة السياسية والاجتماعية في تونس، توسع "بن علي" في سياسة القمع مغذيا استياء جزء كبير من المجتمع. ولم يكن من المستغرب إذن أن تقوم كل من المنظمات الإسلامية المعتدلة منها والمتشددة بدور حاسم في تسريع انهيار نظام "بن علي". وفي عام 2011، كان من المفترض أن تملأ الحركة الإسلامية الفراغ الذي كان سينتج عن الانفجار الداخلي لنظام "بن علي".

وفي الواقع، تم ملء هذا الفراغ على الفور من قبل حزب "النهضة"، وهو حزب سياسي تأسس في الثمانينيات، مستوحيا مزيجا من مبادئ الثورة الإيرانية و"الإخوان المسلمون". وفاز الحزب في انتخابات 2011 وشكل حكومة صديقة لقطر. ولم يكن هذا مستغربا، ففي الواقع، كان قمع "بن علي" للإسلام الإسلامي في تونس مستهجنا من قبل الدوحة، والتي بدورها لديها تاريخ في دعم الإسلام السياسي، وتحديدا جماعة "الإخوان"، ولذلك تفاعلت وسائل الإعلام الرئيسية في قطر بإيجابية مع نهاية حكم "بن علي"، وكان التآزر الناشئ بين قطر وتونس في طريقه للانطلاق.

وبالإضافة إلى تأثر حركة "النهضة" بـ"الإخوان المسلمون" تاريخيا، فإن كبار قادة حركة "النهضة" كانوا غالبا ما يرون في "تركيا أردوغان" نموذجا لما يأملون أن تصبح عليه تونس. ووفقا لمؤسس الحركة "راشد الغنوشي"، فإن تركيا تثبت أن الحداثة والقيم الإسلامية يمكن أن يتعايشا معا في نفس النظام السياسي. ومما لا شك فيه أن إشادة "الغنوشي" بأنقرة مهدت الطريق لصلات أقوى بين حكومة "النهضة" وتركيا. وفي سبتمبر/أيلول 2011، وقعت أنقرة وتونس معاهدة الصداقة والتعاون، والتي تبعتها سلسلة من الاجتماعات التي تهدف إلى دعم التعاون بين البلدين في مجموعة متنوعة من المجالات.

وكانت العلاقات مع كل من قطر وتركيا حجر الزاوية في سياسة تونس الخارجية ما بعد الثورة. وساعدت مثل هذه الدبلوماسية الثلاثية تونس على التغلب على التداعيات الاقتصادية والسياسية الناتجة عن ثورة 2011. علاوة على ذلك، لم يكن التآزر الجديد بين تركيا وتونس وقطر يشبه أي تعاون آخر في المنطقة، أي أنه لم يكن يعتمد فقط على الحسابات الاقتصادية للبلدان المعنية. وبدلا من ذلك، بدا في نهاية المطاف أنه مبني على أساس القيم، وعلى وجه التحديد، الأساس الإسلامي المشترك.

ضد السعودية والإمارات

وفي المقابل، تابعت السعودية والإمارات صعود الحركة الإسلامية في تونس بمزيد من المخاوف. وكانت كلتا الدولتين الخليجيتين حذرتين بالفعل من جماعة "الإخوان"، مصدر الإلهام الأصلي لحركة "النهضة". وبالتالي، ترجمت كل من الرياض وأبوظبي شعورهما بالضيق من نجاح "الغنوشي" الانتخابي عبر تخفيف علاقاتهما مع تونس في مرحلة ما بعد الثورة. وفي حين اتخذت الإمارات خطوة جذرية تتمثل في استدعاء سفيرها من تونس عام 2013، منحت المملكة "بن علي" وعائلته ملاذا. ومن الضروري معرفة السياق التاريخي لقرار المملكة، من أجل تقدير أهميته لمستقبل العلاقات السعودية التونسية.

وفي عام 1941، قدمت المملكة ملاذا لرئيس وزراء العراق السابق "رشيد علي الجيلاني"، بعد محاولته الفاشلة للإطاحة بالبريطانيين من العراق بمساعدة دول المحور. وفي ذلك الوقت، بدا رفض المملكة المتعجل تسليم "الجيلاني" إلى البريطانيين غير متسق مع تعاون العائلة المالكة منذ فترة طويلة مع لندن. ومع ذلك، كان لدى السعودية دافعا خفيا، وكان رئيس الوزراء العراقي المخلوع رافعة لتعزيز جدول أعمال الرياض في الشرق الأوسط. وفي عام 1958، حاول "الجيلاني" الإطاحة برئيس الوزراء العراقي "عبدالكريم قاسم"، الذي كان يكرهه السعوديون بسبب علاقته المريحة بالحزب الشيوعي العراقي. وربما كان السعوديون يخططون لكسب ورقة "بن علي" وأتباعه ولاستخدامها فيما بعد، خاصة إذا فشلت تونس في تقييد الحركة الإسلامية.

وبعد نجاحه الساحق في انتخابات عام 2011، شكل حزب "النهضة" (ترويكا) من مختلف الأطياف (الترويكا هي ائتلاف حاكم ثلاثي من حكومة ورئيس وبرلمان، يضم الأحزاب الثلاثة صاحبة الحصة الأكبر من الأصوات الانتخابية). ومع صعود الحكومة الجديدة أُثيرت مخاوف من أن حزب "الغنوشي" عازم على محو هوية تونس العلمانية، وفي النهاية استسلمت حركة "النهضة" للضغوط من العلمانيين، وانسحبت من السلطة ليتولى الحزب العلماني "نداء تونس" الحكم بعد انتخابات عام 2014.

الانقلاب الانتخابي

أشاد السعوديون والإماراتيون بانقلاب "نداء تونس" الانتخابي، باعتباره متنفسا بعد المخاوف الكبيرة. وفي عام 2014، بدا الإسلام السياسي في موقف ضعيف في تونس، وكذلك بدا نفوذ قطر في البلاد خافتا. وسارع السعوديون للاستفادة من هذا المناخ السياسي الجديد. وفي سياق "رؤية تونس 2020"، وهو مؤتمر الاستثمار الدولي الذي يهدف إلى مساعدة تونس على التغلب على أزمتها الاقتصادية تعهد السعوديون لتونس بمبلغ 780 مليون دولار. ولئلا تسرق الرياض البساط منها، وعدت قطر بما يصل إلى 1.25 مليار دولار. وبشكل ملحوظ، تجنب الإماراتيون المؤتمر. ومع ذلك، لم تكن أبوظبي تعتزم الاستسلام، واستمرت في استكشاف سبل سد الفجوة مع تونس، وذلك عبر ساحة ليبيا.

وفي عهد حكومة النهضة، اقتربت تونس بثبات من حكومة الوفاق الوطني المدعومة من قطر، وعلى النقيض، قامت بتجنب مخيم "حفتر" المدعوم من الإمارات. ومن الواضح أن هذا كان نتيجة ثانوية لاتحاد النهضة مع قطر، ومع ذلك، لم تقم تونس بقطع العلاقات مع "حفتر" نهائيا، والسبب في ذلك مزدوج.

أولا، تقع تونس على الحدود مع ليبيا، ومن المفهوم، أنها مهتمة للغاية بدرء المزيد من الآثار الجانبية القادمة من الأزمة الليبية، لا سيما فيما يتعلق بالأنشطة الإرهابية، ووصولها إلى أراضيها. ولأن اهتمام تونس الأساسي هو تأمين حدودها الشرقية ودعم أمنها القومي، فإنها ملزمة بالتفاوض مع كل من حكومة الوفاق الوطني الليبية ومعسكر "حفتر"، من أجل تسهيل ظهور حل وسط مستقر بين جميع المتنافسين.

ثانيا، بعد تولي "نداء تونس" الحكم عام 2014، قررت تونس الحفاظ على الحوار مع "حفتر" كقناة لإصلاح الحواجز مع الإمارات. وكان مثل هذا المنعطف، في نظر الإماراتيين، دليلا على أن تونس مهتمة حقا بإقامة علاقة قوية مع الإمارات. والأهم من ذلك، من خلال الانحياز إلى الإمارات في الأزمة الليبية، كانت تونس تثبت للإمارات أنها ليست تابعة تماما للدوحة، وأن شراكتها الاقتصادية مع قطر لم تتحول إلى شراكة دبلوماسية.

وبدا هذا المسعى الدبلوماسي مثمرا عام 2017، عندما تمت دعوة "حفتر" رسميا إلى تونس. وأكد عزوف "حفتر" عن الدعوة في البداية أن تونس، حتى بعد صعود "نداء تونس" العلماني، كانت لا تزال قريبة إلى حد كبير من قطر. ومع ذلك، تراجع "حفتر" بسرعة وقبل عقد اجتماع مع الرئيس التونسي "السبسي" لمناقشة جدوى التوصل إلى تسوية منسقة للأزمة الليبية. والأهم من ذلك، فقد تم استكمال "المسار الليبي" للتقارب بين تونس والإمارات بعلامات مشجعة على الجبهة الاقتصادية. وبدت الإمارات مستعدة لمساعدة تونس في دفع عجلة اقتصادها المتعثر، حيث أصبحت الأخيرة قادرة على الاستفادة من مغازلة الإماراتيين للحصول على المزيد من الدعم المالي من الدوحة.

قطر تتألق من جديد

لكن اندلاع الأزمة الدبلوماسية بين قطر ودول الحصار قوض المصالحة الناشئة وقتلها في المهد. وعلى الرغم من علاقتها المستمرة بالدوحة، رفضت تونس الانحياز إلى جانبها، لعدم إعاقة الانفراجة الأولية مع الإمارات. ومع ذلك، قامت تونس بتشديد روابطها الاقتصادية مع قطر في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وهي خطوة لم تسعد أبوظبي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الخلاف الدبلوماسي بين الدولة الخليجية وتونس قد تكشف خلال الشهر التالي، عندما قررت الإمارات منع النساء التونسيات من الصعود إلى رحلات طيران الإمارات. وأوضحت أبوظبي الأساس المنطقي وراء الحظر من خلال الاستشهاد بمخاوف أمنية وشيكة. لكن التفسير لم يرض وزير الخارجية التونسي، الذي طالب باعتذار علني من الإمارات.

وفي ضوء الانكماش الذي تلا ذلك في العلاقات التونسية الإماراتية، لم يكن هناك شك في أن حظر الطيران شكل حدثا فاصلا. وفي "المسار الليبي"، تراجعت تونس، حيث أجرى وزير خارجيتها "خميس الجهيناوي" مؤخرا محادثة هاتفية مع نظيره في حكومة الوفاق الوطني "محمد الطاهر سيالة" لمناقشة "طرق تعزيز العلاقات الثنائية والتكامل بين البلدين الشقيقين". وكما لو أن هذا لم يكن كافيا، ففي يوليو/تموز عام 2018، حطمت صحيفة "لوموند أفريك" ما تبقى من العلاقة المتراجعة بقصة حول انقلاب مزعوم كانت الداخلية التونسية السابقة تخطط له بالتواطؤ مع أجهزة الاستخبارات الإماراتية. وبحسب ما ورد، تم تصميم المؤامرة، التي تم إحباطها في نهاية المطاف، لإبعاد حزب "النهضة" عن المشهد السياسي والقضاء على الإسلاموية في تونس، وبذلك تعود البلاد إلى وضعها السابق للثورة. 

وفي الوقت الحالي، يبدو أن الدوحة تفوز في معركة النفوذ في تونس. فلا تزال قطر أكبر جهة استثمار عربية في تونس، ولن يتم استبدالها بسهولة، خاصة إذا فشلت تونس في التوافق مع السعوديين والإماراتيين. ومع ذلك، فإن المأزق الاقتصادي في تونس، والمؤسسات السياسية الهشة، ستمنع قطر من إبقاء أبوظبي والرياض خارج المشهد. ومن جانبها، تدرك تونس ضرورة البحث عن بدائل لدعم قطر للحفاظ على استقلال سياستها وسيظل الدعم المالي من قبل المملكة العربية السعودية والإمارات رافدا مهما للبلاد في رحلتها للحفاظ على استقرارها خلال حقبة ما بعد الثورة.

المصدر | إنريكو تروتا - يوراسيا ريفيو

  كلمات مفتاحية

أزمة قطر نداء تونس حركة النهضة خليفة حفتر حكومة الترويكا قطر الإمارات السعودية