"الانتحار" بمصر "حلال" ولكن.. بعيدا عن المترو

الأربعاء 5 سبتمبر 2018 04:09 ص

"الانتحار".. أصبح خبرا يوميا في مصر، خلال الفترة الأخيرة، للدرجة التي قال عنه خبير نفسي بارز أنها ظاهرة "خرجت من حزام الأمان" و"وصلت لحزام الخطر"، وسط حالة من اللامباة وصفها مراقبون في التعاطي الرسمي والإعلامي مع الأزمة.

ما بين ترديد فتاوى بأن "المنتحر ليس بكافر وأن مصيره لن يكون النار"، وبين "مناشدات للحفاظ على مصالح الشعب وأن من يريد الانتحار فليجأ لطرق بديلة عن مترو الأنفاق".. جاء التعاطي الإعلامي مع الأزمة، التي لم يخرج أي مسؤول حكومي ليتحدث عنها، خلال الشهرين الماضيين، رغم تعاظمها.

لا توجد إحصاية رسمية بعدد المنتحرين في مصر خلال الشهرين الماضيين، إلا أن تقريرا للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (غير حكومية)، رصد خلال يوليو/تموز الماضي، وقوع 15 حالة انتحار، بينها 13 حالة لقيت حتفها على الفور.

التقرير أرجع تصاعد حالات الانتحار إلى سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.

وفي أغسطس/آب الماضي، تزايدت وتيرة الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام عن المنتحرين من الجنسين، للدرجة التي تم رصد أحيانا حالتين إلى ثلاث حالات انتحار يوميا، في الصحف المحلية.

وفي الأشهر القليلة الماضية، تناقلت وسائل الإعلام المصرية أنباء عن حوادث متزايدة من الانتحار، خاصة بين الشباب، بدا أن غالبها بسبب صعوبة الظروف الاقتصادية.

هذه الحالات ليست وليدة ظرف طارئ خلال الأشهر الماضية، بل هي استمرار لمعدل متزايد من حالات الانتحار في مصر.

ففي عام 2009، تمكن 5 آلاف منهم بالفعل من إنهاء حياتهم منتحرين، داقين بذلك ناقوس خطر مفاده "الانتحار فى مصر ظاهرة خطيرة تتصاعد يوما بعد يوم".

وفي أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية، العام الماضي، تصدرت مصر، قائمة الدول العربية التي تسجل أعلى معدلات حوادث الانتحار لكل 100 ألف شخص، وتحديدا لمن هم أقل من 40 عاما، حيث تشهد مصر 3 آلاف محاولة انتحار سنويا (8 حالات انتحار يومية).

ووفقا للتقرير، فإن مقابل كل حالة انتحار، عدد من الحالات الأخرى التي تحاول الانتحار وتفشل، مشيرا إلى أن الانتحار يعتبر ثاني أهم أسباب الوفاة للفتيات التي تتراوح أعمارهن بين 15 إلى 29 عاما.

ووفق تصريحات مسؤولين بوزارة الصحة، فإن الأعداد الحقيقية لمحاولي الانتحار غير موجودة، بالنظر إلى أن أهل المنتحرين أو محاولي الانتحار يرفضون الإعلان عن ذلك، ولذا لا توثق أغلب الحالات.

لكن وزارة الصحة، أعدت دراسة على عينة من طلاب مرحلة الثانوية العامة قدرت بـ10638 طالبا في العام الجاري، وقالت الدراسة إن 21.7% من الطلبة يفكرون في الانتحار.

وكان مركز السموم التابع لجامعة القاهرة أصدر تقريرا عام 2016 يفيد بأن مصر تشهد نحو 2400 حالة انتحار باستخدام العقاقير السامة سنويا.

بينما كشف مركز "المصريين للدراسات الاقتصادية والاجتماعية" (غير حكومي) في تقرير أن مصر شهدت 4 آلاف حالة انتحار بسبب الحالة الاقتصادية، في الفترة من مارس/آذار 2016 إلى يونيو/حزيران 2017.

لماذا ينتحرون؟

يساعد عدد من خبراء الطب النفسي، في تحليل ظاهرة الانتحار، ويقولون إن أبرز أسبابها هو اضطراب الاكتئاب، باعتباره أهم العوامل الممكن أن تؤدى إلى محاولة الأشخاص التخلص عن حيواتهم عن عمد، لافتين إلى أنه مسؤول عما بين 15 و18.9% من حالات الانتحار، يليه الإدمان بنسبة 15%، ثم الفصام بنسبة 10%.

وعن علاقة الانتحار بالظروف الاقتصادية والأحوال المادية، فيقول الخبراء، إن بعضا ممن تنغلق في وجوههم كل الأبواب لا يجدون إلا في الانتحار ملجأ، لافتين إلى أن الضغط النفسي الشديد إزاء عجز الآباء عن تلبية احتياجات صغارهم المادية، خاصة إبان المواسم الدورية كالأعياد أو بداية عام، فيتحول شعور الشخص بالعجز وانعدام الحيلة إلى غضب شديد تجاه المجتمع.

ويُحيل المختصون والساسة المصريون، الأزمات النفسية التي يعاني منها المنتحرون، إلى الفقر، والبطالة، وغلاء المعيشة، وقلة أماكن العمل، والانخفاض في مستوى الحياة، وكذلك من المشاكل الزوجية.

وبينما تتفاوت الآراء حول أسباب تزايد الانتحار، يصعب على كثير من المواطنين غير المتخصصين الفصل بين تلك الحوادث المروعة، وتداعيات الضغوط النفسية والأسرية التي يرونها حولهم طوال الوقت نتيجة الارتفاع الجنوني في الأسعار.

ولم تشهد معدلات الدخل تحسنا، خاصة وأن تلك الأوضاع الصعبة تترك مضاعفاتها على الكثير من جوانب الحياة، التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على المواطنين، الذين تتفاوت قدراتهم النفسية والعقلية على الاستيعاب والتعامل مع تلك المشكلات الصعبة.

الخبير بعلم الاجتماع "محمد فتحي"، قال إن "الكثير من هؤلاء الذين يقررون الانتحار هم ضحايا الظروف الاجتماعية الصعبة وضغوطات الحياة التي لا يمكنهم تحملها".

"المجتمع لا يعترف الألم النفسي الناتج عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وللأسف يتم إهماله حتى يزيد ويلجأ الشخص للانتحار"، هكذا يلخص "كريم درويش"، خبير الطب النفسي في مصر، وضع الانتحار.

وتابع في تصريحات صحفية: "الشخص يختار الانتحار تحت عجلات المترو، حتى لا يشعر بالوجع عند إنهاء حياته، وهذا يظهر مدى الألم الذى يمر به المريض".

وهناك من يدّعي أن قسما من حالات الانتحار ينبع من الوضع السياسي غير المستقر في مصر، والذي مرّ بالكثير من التقلبات في السنوات الأخيرة، حيث وصف قيادات من "الإخوان" تزايد حالات الانتحار بأنها "احتجاج سلبي على النظام"، في وقت قالت وسائل إعلام مقربة من النظام أن قسما من حالات الانتحار هدفها إرسال رسالة سياسية.

ومع تزايد حالات الانتحار في مصر، ترى أستاذة الطب النفسي "سحر طلعت"، ضرورة تركيز الأسرة والأصدقاء مع المقدم على الانتحار.

وأضافت أنه "عادة يبعث المنتحر إشارات للمحيطين به ينبههم بخطوته، وتكون أغلبها عبارة عن أحاديث حول جدوى الحياة، وأحيانا يكون تصريحا مباشرا بالرغبة في الانتحار".

ولا يجوز التعامل باستهانة مع هذه الأحاديث، تتحدث أستاذة الطب النفسي، مضيفة: "علينا طمأنة من يفكر في الانتحار، وإشعاره بإحساسنا بمشكلته، ومحاولة إقناعه باللجوء إلى المساعدة النفسية المتخصصة".

ليس بكافر

بيد أن حديث "سحر" يناقضه تماما، الفتوى التي أصدرها أستاذ الفقه والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر والداعية المثير للجدل "أحمد كريمة"، حين قال إن "الانتحار جريمة منكرة وكبيرة من الكبائر، وفاعله فاسق وآثم، ولكن ليس بكافر أو خارج عن الملة، وبالتالي فليس مصيره النار خالدا فيها".

هذه الفتوى أثارت جدلا واسعا، واعتبرها كثيرون، تشجيعا للمنتحرين على الإقدام على هذه الفعلة، طالما أن عقابها لن يكون الخلود في النار.

حتى إن الكاتب "جمال نافع"، سخر منها في مقاله بصحيفة "الأهرام"، بعنوان "الانتحار الحلال"، والذي استعرض الآيات والأحاديث التي تحرم قتل النفس أو إيذاء البدن، وتساءل: "ما هو الهدف من هذه الفتوى؟، فالمنتحر أصبح بين يدى الله، وكل هذه التبريرات والفتاوى توجه إلى بقية الأفراد الذين هم على قيد الحياة، ألا يظن أستاذ للشريعة الإسلامية أنه بهذه الفتوى، يسهل أمر التخلص من الحياة لكل من ضاقت به سبل الحياة؟".

الأمر نفسه، ذكره الطبيب النفسي "أحمد فهمي"، حين تعجب من هذه الفتوى، وقال إنها دعوة لمن يرغب في الانتحار، أن يقدم عليه "طالما أن الله يغفر ويرحم".

انتحروا بعيدا

الأمر لم يقف عند الدعوة المبطنة، بل صدرت دعوة صريحة من هيئة مترو الأنفاق (حكومية)، التي شهدت مؤخرا أكثر حالات الانتحار في العاصمة، حين خرج المتحدث باسم المترو، ليطالب المنتحرين الابتعاد عن المترو، حتى لا يعطلوا مصالح المواطنين.

المسؤول الحكومي، طالب الراغبين في الانتحار والمرضى النفسيين، بالتوقف عن محاولات الانتحار تحت عجلات المترو، كون أن الشركة ليس جهة انتحار، وأنها تتكبد خسائر كبرى بعد كل حالة انتحار، فضلا عما تسببه في تعطل حياة الملايين من المواطنين الذين يعتمدون عليه في تحركاتهم طوال الوقت.

وهي الدعوة التي اعتبرها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنها تعبر عن رؤية الحكومة التي لا تعطي لحياة المواطن المصري أية قيمة، في مقابل البحث عن المكاسب وكأنها تقول انتحروا ولكن بعيدا عن المترو.

كما حملت هذه الدعوة الحكومية، غضبا عبر مواقع التواصل، حيث اتهم ناشطون السلطات بعدم التعامل بشفافية مع هذه الظاهرة الخطيرة، التي حذر منها أستاذ الطب النفسي "محمد المهدي"، بدراسة أسباب زيادة حوادث الانتحار، محذرا "مصر خرجت من حزام الأمان لحوادث الانتحار، ووصلت لحزام الخطر العالمي للانتحار".

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

مصر انتحار الفقر أزمات اقتصادية خطر مترو الأنفاق