عملية الخلد.. خطط إسرائيل التاريخية لطرد المواطنين العرب

الخميس 18 أكتوبر 2018 03:10 ص

في كتابه المنتظر نشره هذا الشهر تحت عنوان "مذبحة كفر قاسم: سيرة سياسية"، يكشف المؤرخ الإسرائيلي "آدم راز" تفاصيل جديدة حول المذبحة التي وقعت قبل أكثر من 6 عقود وفق منظور أوسع يتعامل مع المذبحة كجزء من خطة إسرائيلية مبكرة لتهجير العرب عن المناطق الحدودية المحتلة، مستدلا على ذلك بالمحاكمات الصورية التي نفذها جيش الاحتلال لضباطه المتورطين في قتل قرابة 50 شخصا من الرجال والنساء والأطفال في كفر قاسم خلال اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1956. 

وينشر "الخليج الجديد" أهم النتائج التي خلص إليها "راز" وكما نشرتها صحيفة "هآرتس" العبرية. 

في منتصف شهر يوليو/تموز، خرج اعتراف غريب أمام محكمة الاستئناف العسكرية الإسرائيلية في قاعدة "كيريا"، مقر المؤسسة العسكرية في تل أبيب.

ودعا القاضي "ميريتس"، وهو قيادي في الجيش الإسرائيلي، عضو الكنيست "عيساوي فريج" من بلدة كفر قاسم الإسرائيلية العربية، إلى منصة الشهود وسأله سؤال واحد فقط: هل من المرجح أن يسبب نشر وثائق سرية تتعلق بمجزرة في قريته عام 1956 في إثارة غضب سكان القرية؟

ورد "فريج"، الذي كان العديد من أفراد عائلته من بين عشرات الضحايا الذين قتلتهم شرطة الحدود، بأن الغضب لم يتبدد خلال الـ 62 عاما التي مرت منذ وقوع الحادث. ومع ذلك، أكد عضو الكنيست أن القرويين لا يسعون للانتقام.

وقال: "ليس لدينا مصلحة في تعطيل أمن الدولة أو حياة أي شخص"، مضيفا أن الناس يعرفون بالضبط أين يعيش العميد "يشكا شادمي"، الضابط الأعلى رتبة الذي سيقدم للمحاكمة بسبب الحدث.

ولم يكن "شادمي"، قائد اللواء المسؤول عن تلك المنطقة في ذلك الوقت، والذي نفذ مذبحة ضدها، الذي يعيش بعيدا في منزله الواسع في حي "رمات أبيب" الراقي، لم يكن يعلم أن اسمه قد أثير مرة أخرى فيما يتعلق بعلاقته بالمذبحة التي طاردته طوال حياته.

وتتضمن المحاكمة، التي لا تزال جارية، دعوى قضائية للمؤرخ "آدم راز" الذي يطالب بأن يقوم الجيش الإسرائيلي ومحفوظات الدفاع برفع السرية عن الوثائق المتعلقة بهذه القضية.

ويقول "راز" البالغ من العمر 35 عاما ويعمل في مؤسسة "بيرل كاتس نيلسون، في مقابلة حديثة مع "هآرتس": "لا تزال معظم المواد مصنفة تحت بند السرية. وفوجئت باكتشاف أنه من الأسهل الكتابة عن تاريخ البرنامج النووي الإسرائيلي أكثر من الكتابة عن سياسات (إسرائيل) فيما يتعلق بمواطنيها العرب". ولم تصدر المحكمة حكمها بعد، لكن كتاب "راز" باللغة العبرية: "مذبحة كفر قاسم: سيرة سياسية"، قد تم نشره هذا الشهر وهو أول دراسة شاملة من هذا القبيل.

وكان أحد الأشخاص الذين قابلهم "راز" هو "شادمي"، الذي توفي الشهر الماضي عن عمر يناهز 96 عاما. وفي صيف عام 2017، أجرى "راز" محادثات مع "شادمي"، جرت في منزل الأخير. ومع الصراحة التي غالبا ما يتمتع بها أولئك الذين وصلوا إلى سن متقدمة، قدم "شادمي" شهادة نادرة ومثيرة من وراء الكواليس، في واحدة من الأحداث التكوينية في تاريخ دولة (إسرائيل)، وخاصة في مجتمعها العربي. ومن بين أمور أخرى، أدى الحادث إلى اعتذار استثنائي من قبل رئيس (إسرائيل) عن جريمة ارتكبها جنود الدولة ضد مواطنيها.

والآن، في أعقاب وفاة "شادمي"، ونشر كتاب "راز"، يتم نشر شهادة الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى. 

وقال "شادمي" إن المحاكمة التي وقعت عام 1958، التي اتُهم فيها في البداية بالقتل، لكن تمت تبرئته لاحقا، كان الهدف منها تضليل المجتمع الدولي فيما يتعلق بسعي (إسرائيل) الظاهر للعدالة.

ومن جانبه، فإن "راز" مقتنع بأن خلفية المحاكمة ظاهريا كانت التمويه لإخفاء "عملية هافار بيريت"، وهو برنامج سري لطرد سكان ما يسمى بالمثلث العربي في الأردن وحتى الجنوب الشرقي في حيفا، وهي التفاصيل التي لم يتم الكشف عنها.

عرب طيبون وعرب سيئون

كانت حياة "يشكا شادمي" مليئة بجميع الحلقات التي يتوقعها المرء في سيرة عضو من جيل 1948، وهو الجيل الذي أسس الدولة العبرية. ولولا وصمة "كفر قاسم"، لكان قد دخل كتب التاريخ كواحد من كبار القادة العسكريين في الجيش الإسرائيلي، وربما كان قد دخل في السياسة، مثل صديقه وزميله "إسحق رابين".

ووُلد "شادمي" عام 1922، لأبوين مهاجرين من أوروبا الشرقية، حيث كان والده أحد القادة الأوائل لجيش "الهاجاناه" الصهيوني قبل بدء الدولة، ثم في الجيش الإسرائيلي بعد تأسيسه لاحقا.

"يشكا" عندما كان صبيا، تلقى تدريبا أوليا على الهاجاناه. وفي مذكراته، كتب عن أول عملية عسكرية له، حيث عمل كمساعد لضابط الهاجاناه "إيغال ألون" تزامنا مع أعوام الثورة العربية (1936-1939) حيث تعرف للصراع العربي اليهودي.

وفي مذكراته يقول: "لقد نشأت مع أطفال عرب. كنا أصدقاء، وكنا نلعب معا. وبالنسبة لي، لم يكن العرب أجانب يحتاجون إلى الكراهية أو الخوف. لقد نشأت معهم، وتحدثت معهم، وتحدثوا بالعبرية، وتحدثت العربية المختلطة. وعندما اندلعت أعمال الشغب، تم فتح الصدع. وكان هناك عرب صالحون، وعرب آخرون سيئون، أطلقوا النار. وفي سياق المخاوف التي أدت إلى نشوب الصراع، بدأت في اكتشاف شخصية البطل اليهودي، الذي يركب الحصان مع الكوفية والعباءة".

على مدار السنوات التالية ترقى "شادمي" في المناصب العسكرية، لكن الحدث الفارق في حياته وقع في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1956، إبان العدوان الإسرائيلي على مصر حيث تم تكليف "شادمي"، الذي كان مسؤولا عن لواء القيادة الوسطى، بالدفاع عن المنطقة المتاخمة للحدود الأردنية، وتنفيذ حظر التجوال في القرى العربية المجاورة، ومن بينها "كفر قاسم".

كانت أوامر "شادمي" لجنوده هي إطلاق النار على أي شخص ينتهك حظر التجول. وكانت نتيجة ما حدث كارثية، فبين الخامسة والسادسة من مساء في ذلك اليوم المشؤوم، قُتل 47 من العرب الذين كانوا عائدين إلى ديارهم في "كفر قاسم"، من الأولاد والبنات والنساء والرجال، رميا بالرصاص على أيدي قوات حرس الحدود.

وتمت إدانة 8 من ضباط وجنود الجيش بتهم إطلاق النار، وتم إرسالهم إلى السجن بشروط متباينة، وبحلول عام 1960، تم إطلاق سراح جميعهم دون أن يكملوا معظم فترات سجنهم. بل إن بعضهم حصل على وظائف حكومية راقية. 

وبعد أكثر من عامين بقليل من المجزرة الدموية في "كفر قاسم"، أصبح "شادمي" الضابط الأعلى مرتبة الذي يخضع للمحاكمة من أجل المجزرة. ولكن في النهاية، تم تبرئة "شادمي" من تهمة القتل، حيث قرر القاضي أن الاتهامات الموجهة إليه "غير مثبتة بشكل عام ومبدئي".

وتمت إدانة "شادمي" بتهمة إجرائية وتقنية واحدة فقط، وهي "تجاوز صلاحياته"، وإصدار أوامر بشأن ساعات ومظاهر حظر التجوال، بينما يتم تفويض الحاكم العسكري فقط للقيام بذلك. وأغضبت العقوبة التي تلقاها سكان "كفر قاسم"، وهي غرامة رمزية تعادل مائة جنيه إسرائيلي في ذلك الوقت.

احتفل "شادمي" بانتصاره مع رئيس الوزراء "بن غوريون" والعديد من جنرالات جيش الدفاع الإسرائيلي. ومع ذلك، قال "شادمي" لـ"راز" إن التعبيرات عن الفرح كانت في الغالب للاستهلاك العام. وأخبرنا بأن نتيجة المحاكمة، التي أطلق عليها "المسرحية" و "المحاكمة الاستعراضية"، معروفة منذ البداية. 

ومن البداية عينت الدولة له أفضل دفاع قانوني ودفعت مقابل خدماته. وفي ضوء ذلك، قال "شادمي" إنه شعر بأن ميزان القوى بين المدعي العسكري الضعيف والدفاع الفائق الذي حصل عليه كان دائما مائلا لصالحه.

وعلاوة على ذلك، وفقا لـ "شادمي": "قيل لي إنه يمكنني الاعتراض على القضاة الذين تم تعيينهم إذا لم أثق بهم". كما حصل على تأكيدات من قيادي كبير آخر في الجيش الإسرائيلي وهو "مئير شمغار"، نائب المعاون العسكري في ذلك الوقت، والذي أصبح بعد ذلك رئيس المحكمة العليا، كما يذكر "شادمي": "لقد أخذني جانبا وقال: اسمع، هذه محاكمة استعراضية"، وحثه على ألا يقلق. وأضاف "شادمي" أن "شمغار" كان يهمس في أذنه أن هذا كله لمصلحته.

ويعتقد "شادمي" أن محاكمته كانت تهدف إلى منع القضية من الوصول إلى محكمة العدل الدولية، التي أنشأتها الأمم المتحدة في "لاهاي" في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والأهم من ذلك أنها هدفت لمنع تصعيد الأمر ليشمل تسلسلا قياديا أكبر كان يمكن أن يورط رئيس الأركان أو حتى رئيس الحكومة ويهز صورة الدولة العبرية.

عملية الخلد

ويعتقد "آدم راز" بأن السبب وراء إجراء محاكمة "شادمي" لم يكن فقط حماية الضباط الأعلى، بل هناك أسباب أخرى. ويعتقد "راز" أنه كان هناك جهد في الوقت نفسه لإخفاء وجود برنامج سري يسمى "عملية الخلد"، وكان هدفه طرد العرب من المثلث، الذي ضم كفر قاسم حتى الأردن.

وتمكن "راز" من متابعة رائحة المخطط السري عن طريق مصادر أخرى، من بينها محامون شاركوا في محاكمة "ملينكي"، أحد قادة كتيبة حرس الحدود الذين تمت محاكمتهم، وشهادات أخرى، ومقابلات مع "أبطال القضية"، وما إلى ذلك، حيث اكتشف حكايات مثل إعلان إخلاء وصل إلى شيوخ القرية، وخيار لعبور الحدود خلال فترة محددة بثلاث ساعات.

بالإضافة إلى ذلك، تمكن "راز" من العثور على الشهادة المكتوبة للجنرال "أبراشا طمير"، مهندس البرنامج بموجب طلب من "بن غوريون" لخطة للتعامل مع السكان العرب في المثلث. 

وتذكر شهادة "طمير" أن الخطط، بشكل أو بآخر، حاولت تقليد ما فعله الأمريكيون باليابانيين في الحرب العالمية الثانية (سجنهم في معسكرات اعتقال بدعوى أنهم سيشكلون طابورا خامسا). وبعبارة بسيطة، إذا اندلعت الحرب، فإن كل من لم يهرب إلى الأردن سيتم إجلاؤهم إلى معسكرات الاعتقال في العمق، ولن يبقوا على الحدود مع فتح الطريق إلى الأردن أمامهم باستمرار، إذا اختاروا ذلك. 

ولفهم السياق التاريخي الذي يربط عملية "الخلد"، ومجزرة كفر قاسم، يجب على المرء أن يتذكر أنه في الفترة نفسها تقريبا، حتى حرب الأيام الستة، عندما غزت (إسرائيل) الضفة الغربية، كانت قرى عربية مثل "كفر قاسم" تقع قريبة جدا من الحدود مع الأردن.

وفي الأسابيع التي سبقت المجزرة، ارتفعت حدة التوتر، وتسلل العديد من المتسللين إلى (إسرائيل).  ووقعت المذبحة في اليوم الذي بدأت فيه حملة سيناء (العدوان الثلاثي في مصر). وفي تلك الحملة، انضمت (إسرائيل) وإنجلترا وفرنسا في القتال ضد مصر، وفي نهاية المطاف، احتل الجيش الإسرائيلي شبه جزيرة سيناء. 

ويعتقد "راز" أنه يجب على المرء أن يرى مجزرة كفر قاسم في هذا السياق؛ حيث لم ترتكب المجزرة مجموعة من الجنود خرجت عن نطاق السيطرة، كما قيل حتى اليوم. فمن وجهة نظرهم، كانوا يتبعون الأوامر، والتي من شأنها أن تؤدي في الأساس إلى طرد القرويين أو بعبارة أخرى، كانوا يعملون وفقا لتوجيهات "عملية الخلد"، كما فهموها.

وتقدم دراسة "راز" شهادات كثيرة تدعم هذا الرأي. وفي كتابه، يعيد بناء سلسلة الأحداث التي أدت إلى النتيجة المرعبة في ذلك اليوم المشؤوم، وبالتالي يثبت ادعاءه بوجود صلة بين المجزرة والعملية السرية.

ووفقا لشهادة "ملينكي"، قيل له إنه مع اقتراب الحرب، ستكون إحدى مهام كتيبته التعامل مع القرى العربية في المثلث. وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول، التقى "ملينكي" الحاكم العسكري، "زلمان مارت"، الذي أكد أن "القضية هي كيفية تحفيز العرب لمغادرة البلاد".

وفي هذا السياق، يعتقد "راز" أن خطط "عملية الخلد" "حققت غرضا أساسيا في تحفيز القوات على "النجاح" في مهمتها في كفر قاسم".

ووفقا لما قاله، "لقد فهموا بشكل صحيح أمر حظر التجوال القاسي كمرحلة أولية لازمة في طرد سكان القرى، وتصرفوا بأقصى درجة من الانضباط وفق أوامرهم... وكانوا على صواب في تفسيرهم، وفرضوا بالفعل حظر التجوال، الذي كان هدفه طرد العرب في حال دخلت (إسرائيل) والأردن في حالة حرب".

ويضيف "راز" أن خيار طرد عرب المثلث في وقت الحرب المستقبلي مع الأردن، كان سياسة رئيسية من منظور "بن غوريون" و"موشي ديان" وغيرهم. وقال "ديان" في وقت من الأوقات: "آمل أن تكون هناك فرصة أخرى في الأعوام المقبلة لتنفيذ نقل هؤلاء العرب من أرض (إسرائيل)".

وفي الوقت الحاضر، ينتظر "راز" قرار محكمة الاستئناف العسكرية حول ما إذا كان سيسمح له بفحص جميع الوثائق السرية المتعلقة بقضية مذبحة "كفر قاسم"، وبشكل أعم، تلك المتعلقة بـ "عملية الخلد". ومن جانبه، يدعي الجيش أن رفع السرية عن هذه الوثائق سيضر بأمن الدولة، وعلاقاتها مع الكيانات الأجنبية، وكذلك خصوصية ورفاهية أفراد مختلفين.

المصدر | هآرتس

  كلمات مفتاحية

مذبحة كفر قاسم العدوان الثلاثي سيناء عملية الخلد

65 عاما على مذبحة كفر قاسم.. وعقوبة القتلة بمحاكم إسرائيل قرش واحد