البطالة والنزاعات هي "حاضنات الإرهاب"، هذا ما استخلصه الرئيس العراقي برهم صالح خلال مؤتمر دولي في إيطاليا، ويمكن إضافة الفقر والإهمال الحكومي والفشل في إيجاد مبادرات غير تقليدية، لمواجهة هذا الخطر الذي بات كامناً، ليكون داهماً في أي وقت، ولعل نموذج الموصل في العراق يعيد قرع ناقوس الخطر.
فقد أدى تحذير زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر من "الإرهاب والفساد في الموصل" إلى هروع كبار القادة العسكريين والأمنيين إلى المدينة، لمعاينة الوضع عن كثب، وكأن الأمر كان ينتظر تنبيهاً علنياً.
فالمعلومات تترى منذ شهور عن عودة تنظيم "الدولة" إلى الظهور، غير أن الجانب الآخر من معاناة الناس يرتبط خصوصاً بممارسات فصائل "الحشد الشعبي" التي تشكّل مع الأجهزة الأخرى ازدواجية أمنية، يصعب الوثوق بها أو الاعتماد عليها في تطبيع الأحوال، وتشجيع النازحين على العودة.
لم ينسَ أحد بعد ما شهدته الموصل ومدن عراقية أخرى منذ أواخر 2012، وكيف ارتكب نوري المالكي وحكومته أفدح الأخطاء في التعامل مع مواطني المحافظات السنّية، وكيف أن تلك الأخطاء فاقمت الاحتقان الاجتماعي.
وأدّت في 2014 إلى ظهور تنظيم الدولة "داعش"، وقد ظنّه الناس في البداية بديلاً مخلّصاً، لكن سرعان ما راحوا يتعرّفون على طبيعته الوحشية، معظم الموصل مدمّر كلياً أو جزئياً، ليس فيها خدمات، ومثلها مثل كل المناطق التي مرّت بها الحرب على "داعش" تنتظر أموال إعادة الإعمار.
كانت حكومة حيدر العبادي قدّرت الكلفة بمئة مليار دولار، ولم تتلقَ في مؤتمر الكويت فبراير 2018، سوى وعود وتعهدات بقروض لا تتجاوز ثلث المطلوب، ولم تحصل بغداد على شيء منها بعد، إذ يجب أن يسبقها إقرار قوانين عدة لدعم مصداقية بغداد، ذاك أن الدول المانحة تعرف الكثير عن المستويات المريعة التي بلغها الفساد في العراق.
قبل بدء الحرب على "داعش" وخلالها، كان هناك كثير من الكلام عن "ما بعد داعش"، ما اعتُبر وعياً بالمهمات المطلوبة، وأهمها عدم السماح بتكرار ما حصل، ومنذ إعلان "النصر" أواخر 2017، لم يسجّل أي إنجاز يلفت إلى وجود خطط لما بعد النصر، وكيف يمكن استثماره في الاتجاه الصحيح.
فقد انشغلت الأوساط الحكومية بحساباتها الانتخابية ثم بخلافاتها وتحالفاتها، واهتمت طوال شهري يوليو وأغسطس بانتفاضة البصرة، التي كشفت أن المناطق المنكوبة لا تقتصر على تلك التي شهدت حرباً، بل تشمل أيضاً مناطق فتك بها الإهمال والفساد، وإذ تقول المنظمة الدولية للهجرة، إن مليوناً و87 ألف نازح لم يعودوا إلى مناطق سكنهم الأصلية، بينما تقول وزارة الهجرة العراقية، إن العدد الحقيقي أكبر مما هو معلن، يتبين أن الإهمال بلغ حدّ التهوّر.
ما يحدث حالياً، يختصره أسامة النجيفي، بأن الأساليب المتبعة في التعامل مع محافظة نينوى "لا تزال تكرّر نفسها"، مشيراً إلى تعدّد الأجهزة الأمنية، ودمار البنية التحتية، ومافيات فساد، وجريمة منتشرة، و"استيلاء غير شرعي على أراضٍ"، و"بطالة واسعة يمكن أن تصبح بيئة مناسبة لأي عمل إرهابي".
لم تتمكّن السلطات السياسية والأمنية من تغيير الواقع الذي يعيشه الموصليون، بل فاقمته الحرب ونتائجها، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن يعود "الدواعش" الذين لم يبتعدوا كثيراً.
وظلّوا يراقبون ويرون أن جماعات "الحشد" تستثمر في الدمار، لتستولي على الأملاك وتغيّر الطبيعة الديموغرافية، لتضمن سيطرة راسخة في المنطقة، لم يقل أحد إن تنظيم "الدولة" زال بل انكفأ، لكن يمكن القول إن الذين هزموه، هم الآن بصدد مساعدته على العودة.
- عبدالوهاب بدرخان، كاتب وصحفي لبناني.