بوش الأب.. فترة ولاية واحدة شكلت تاريخ أمريكا لعقود

السبت 1 ديسمبر 2018 07:12 ص

كان رئيسا للولايات المتحدة لمدة أربع سنوات فقط، إلا أن "جورج إتش. دبليو. بوش" شكل تاريخ الولايات المتحدة لعقود من الزمان تولى خلالها مهام جساما، شملت العمل في الصين وفي المخابرات المركزية الأمريكية، وشهدت إخراج القوات العراقية من الكويت، ووضع اتفاق ميزانية أفقده فرصة الفوز بفترة ولاية ثانية، ناهيك عن كونه أبا لرئيس آخر للولايات المتحدة.

أعلنت عائلة "بوش" وفاة الأب يوم الجمعة عن 94 عاما بعد مضي سبعة أشهر فقط على رحيل "باربرا"، شريكة حياته التي دام زواجهما 73 عاما، في 17 أبريل نيسان عام 2018.

وفترة رئاسة بوش الأب من عام 1989 حتى عام 1993 تتسم بحدثين رئيسيين: تعامله القوي مع غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للكويت عام 1990، وتعهده بعدم زيادة الضرائب خلال حملة ترشحه للرئاسة عام 1988 والذي خرقه فيما بعد.

وبينما كانت الحرب الباردة في سبيلها للانتهاء ومع تراجع نفوذ الشيوعية السوفيتية، جعلت تحركات "بوش" العسكرية والدبلوماسية الولايات المتحدة أكبر قوة عظمى في العالم.

وبعد أن قال "بوش" إن "عدوان صدام لن يستمر"، تغلبت قوات بقيادة الولايات المتحدة على الجيش العراقي في حرب الخليج وأخرجته من الكويت، لكن الأمر لم يصل لحد السيطرة على العاصمة العراقية بغداد.

وارتفعت شعبية "بوش" وسط الأمريكيين إلى نحو 90%.

وبعد ذلك بعشرين شهرا، في عام 1992، خسر "بوش" الجمهوري مسعاه للفوز بفترة ولاية ثانية، عندما تغلب عليه المرشح الديمقراطي "بيل كلينتون" في انتخابات الرئاسة الأمريكية، فطريقة "كلينتون" في الاقتراب من الجماهير وتركيزه على الاقتصاد مست وترا عند العديد من الأمريكيين، في حين بدا "بوش" بعيدا عن الناخبين، لتركيزه على السياسة الخارجية على حساب القضايا الداخلية.

ورغم تحالف موسع شمل دولا عربية، كان البعض في الشرق الأوسط ينظر للتدخل الأمريكي في حرب الخليج على أنه انتهاك للسيادة العربية، مما دفع بعض الجماعات المتشددة، وعلى الأخص تنظيم "القاعدة" الذي شكله آنذاك "أسامة بن لادن"، إلى تحويل اهتمامها إلى مجابهة النفوذ الأمريكي.

وبعد عشر سنوات، عصفت هجمات قاتلة بفترة رئاسة الابن "جورج دبليو. بوش" في 11 سبتمبر/أيلول عام 2001.

وأصبح "آل بوش" ثاني أب وابن يتوليان رئاسة الولايات المتحدة بعد "جون آدامز" (1779-1801) و"جون كوينسي آدامز" (1825-1829).

وتضم أسرة "بوش" السياسية أيضا والده الذي كان عضوا بمجلس الشيوخ، وابنه "جيب"، الحاكم السابق لولاية فلوريدا الذي رشح نفسه للرئاسة عام 2015 ولكنه خرج من السباق في فبراير شباط عام 2016 إذ لم ينجح مسعاه للفوز بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية.

وفي انتخابات الرئاسة عام 2016، لم يؤيد "بوش" المرشح الجمهوري "دونالد ترامب" الذي هاجم "جيب" و"جورج بوش" الابن خلال حملته الانتخابية.

ولم يعلن "بوش" الأب لمن أدلى بصوته في الانتخابات، لكن مصدرا أبلغ شبكة "سي.إن.إن" التلفزيونية الإخبارية أنه صوت لمنافسة "ترامب"، المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون".

 "لا ضرائب جديدة"

"جورج هربرت ووكر بوش" كان جمهوريا معتدلا معروفا بدبلوماسيته وقدرته على التواؤم مع الديمقراطيين، وكان رمزا لفترة توحد نسبي في واشنطن، لكنها مهدت الساحة رغم ذلك أمام انقسام حزبي تعاني منه واشنطن الآن.

فعندما قبل ترشيح الحزب الجمهوري عام 1988 كان "بوش"، الذي كان يشغل آنذاك منصب نائب الرئيس الأسبق "رونالد ريجان"، يحاول خطب ود المحافظين الذين كانوا أكثر تحمسا لـ"ريجان".

وفي معرض رده على أسئلة عما إذا كان محافظا قال بشكل قاطع أمام المؤتمر العام للحزب الجمهوري: "اقرأوا شفتي.. لا ضرائب جديدة".

إلا أنه بعد أن أصبح رئيسا وافق على زيادة الضرائب، للمساعدة في خفض العجز الحكومي.

وأغضب تراجعه هذا المحافظين، مما أدى إلى مواجهة غير معتادة في الانتخابات التمهيدية للحزب، بينه وبين جمهوري آخر، هو المحافظ "بات بوكانان".

وتغلب "بوش" بسهولة على "بوكانان" ليفوز بترشيح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة، لكن موقفه من الضرائب وديون البلاد وتراجع الاقتصاد أدى إلى خوض ملياردير من تكساس، هو "روس بيرو"، حملة انتخابية مستقلة.

وفاز "كلينتون" في السباق الرئاسي بحصوله على 43% من التصويت الشعبي ليطيح بـ"بوش" من البيت الأبيض بعد فترة ولاية واحدة.

وأعطت هزيمة "بوش" في انتخابات 1992 تحذيرا لجيل من الجمهوريين، ودرسا في مواجهات اليوم بشأن الميزانية الاتحادية والإنفاق.

وبعد ذلك بأعوام، كرمت مؤسسة "جون كنيدي" في عام 2014 "بوش" بتقليده وسام الشجاعة مشيدة "بقراره وضع البلاد فوق أي مصالح حزبية وسياسية".

ومع منحه الجائزة كتبت المؤسسة "رغم اعترافه بأن اتفاق ميزانية عام 1990 قد يضر بفرص إعادة انتخابه فقد فكر في الأنفع للبلاد، ويعود إليه منذ ذلك الوقت فضل وضع أسس النمو الاقتصادي في التسعينيات".

ومن الإنجازات الرئيسية في عهد "بوش"، والتي يمكن رؤيتها كل يوم في أنحاء أمريكا، تلك المنحدرات والمنحنيات في الشوارع وأمام المباني بشكل يسهل على أصحاب المقاعد المتحركة استخدامها.

وسمح بذلك (قانون الأمريكيين ذوي الاحتياجات الخاصة) الذي وقعه بوش عام 1990 وحظر التمييز ضد المعاقين في مجال العمل وضَمَن حصولهم بشكل متساو على مساكن عامة.

وأيد "بوش" القانون، رغم مخاوف بعض المحافظين في حزبه من التكلفة والنزاعات القضائية المحتملة.

 نشأة مميزة

ولد "بوش" في 12 يونيو/حزيران عام 1924 في ميلتون بولاية ماساتشوستس لعائلة أرستقراطية من نيو إنجلاند، وهو ابن الخبير المالي "بريسكوت بوش" الذي تم انتخابه لاحقا في مجلس الشيوخ عن ولاية كونيتيكت ووالدته هي "دوروثي بوش".

نشأ في ضاحية جرينويتش الراقية في نيويورك وتعلم في مدارس خاصة شديدة التميز وفي جامعة ييل.

كانت معرفة "بوش" بالحروب معرفة مباشرة، فقد ترك المدرسة عندما كان في سن الثامنة عشرة ليصبح أصغر طيار يعمل لدى سلاح البحرية في الحرب العالمية الثانية، وقام بثمان وخمسين طلعة جوية من حاملات في المحيط الهادي وأُسقطت طائرته، لكن غواصة أمريكية أنقذته.

ومع اقتراب الحرب من نهايتها في يناير/كانون الثاني 1945 تزوج بوش من المرأة التي أحبها، "باربرا بيرس" ثم أنجب منها ستة أبناء.

وبعد الحرب رفض "بوش" وظيفة في "وول ستريت"، وبمساعدة أصدقاء والده في مجال العمل انتقل إلى غرب تكساس ليبدأ شركة للتنقيب عن النفط.

جمع ثروة وبدأ نجمه يصعد مع فوزه في انتخابات مجلس النواب ممثلا عن تكساس في عام 1966 وفي عام 1968.

خسر مرتين في سباق مجلس الشيوخ ولكنه واصل تقدمه داخل الحزب الجمهوري.

واختاره الرئيس الأمريكي الراحل "رونالد ريجان" سفيرا لدى الأمم المتحدة في عام 1971 وبعد ذلك بعامين أصبح "بوش" رئيسا للجنة الوطنية للحزب الجمهوري.

وعينه رئيس جمهوري آخر هو "جيرالد فورد" مبعوثا لدى الصين عام 1974 ثم مديرا لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

ويعود لـ"بوش" فضل المساعدة في تحسين الحالة المعنوية، بعد أن خضعت المخابرات المركزية الأمريكية لتحقيقات في أنشطة غير قانونية وغير مصرح بها.

وفي عام 1998 أُطلق على مقر المخابرات في لانجلي بولاية فرجينيا اسم (مركز جورج بوش للاستخبارات). 

"سياسة اقتصادية غير واقعية"

رشح "بوش" نفسه للرئاسة عام 1980 وتنافس على الفوز بترشيح الحزب الجمهوري مع الممثل السابق وحاكم كاليفورنيا "رونالد ريجان"، الذي صور نفسه على أنه محافظ صارم على النقيض من الرئيس الديمقراطي "جيمي كارتر".

وتغلب "بوش" على "ريجان" في عدد من الانتخابات التمهيدية للحزب، وسخر من اقتناع "ريجان" بما أسماه "سياسة اقتصادية غير واقعية" تعتمد على أن أفضل طريقة لتحقيق النمو تكون عن طريق خفض الضرائب على الدخل ومكاسب رأس المال.

وفاز "ريجان" في نهاية الأمر على "بوش" بترشيح الحزب الجمهوري، ثم طلب من بوش خوض انتخابات الرئاسة معه كنائب الرئيس لأسباب، منها مساعدته في الحد من قلق الناخبين المستقلين إزاء آراء "ريجان" المحافظة.

وبعد فترتي ولاية "ريجان" تمكن "بوش" من ترشيح نفسه للرئاسة كوريث لعباءة "ريجان" المحافظة، لكنه سعى لتمييز نفسه عن سلفه والتواصل مع من يعتقدون أن سياسات "ريجان" كانت بالغة القسوة على الفقراء والمعوزين.

اشتهر "بوش" بدعوته إلى "أمة ألطف وأطيب" في كلمة ألقاها عام 1988 في مراسم قبول ترشيح الحزب.

ووصل إلى البيت الأبيض متغلبا على منافسه حاكم ماساتشوستس السابق "مايكل دوكاكيس" بفوزه في 40 ولاية من 50 ولاية أمريكية.

وكان "بوش" محل سخرية منتقدين سياسيين وصموه بالضعف عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، إلا أنه لم يتردد في استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة الخارجية خلال فترة رئاسته.

فقد أرسل قوات مظلات للإطاحة برئيس بنما "مانويل نوريجا" في ديسمبر/كانون الأول عام 1989، ووفر غطاء جويا لمساعدة رئيسة الفلبين "كورازون أكينو" لتنجو من محاولة انقلاب في نفس العام.

ثم جاء غزو العراق للكويت في الثاني من أغسطس آب عام 1990، وعزز رد "بوش" القوي ونجاح القوات المتحالفة في طرد القوات العراقية من الكويت من المشاعر الوطنية.

ورفعت الحرب ضد "صدام حسين" شعبية "بوش" إلى مستوى غير مسبوق لم يصل إليه سوى ابنه بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 في الولايات المتحدة.

وبعد عشر سنوات غزا ابنه العراق وأطاح بـ"صدام" من السلطة.

 الافتقار للرؤية

إضافة إلى زيادة الضرائب وأثر ترشح بيرو، ارتبطت خسارة "بوش" في انتخابات الرئاسة عام 1992 بالركود الاقتصادي الذي رفع معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى 7.5% وتركه عرضة لاتهامات بأن سياسات الجمهوريين فشلت.

وتحدث منتقدون عن افتقار "بوش" لرؤية واضحة لما يريد تحقيقه فيما يتعلق بالقضايا الداخلية.

وقال محللون سياسيون إن مساعي "بوش" لإعادة انتخابه قوضها قراره عدم استغلال شعبتيه بعد حرب الخليج لطرح مبادرات داخلية جريئة.

وقال أحد المساعدين: "كانت هناك فترة أسبوعين تقريبا كان بوسعه القيام خلالها بأي شيء ولكن الفرصة ضاعت".

ومبادرته الوحيدة بعد انتهاء الحرب كانت مبادرة دولية.

فقد أرسل وزير خارجيته "جيمس بيكر" للشرق الأوسط لبدء عملية أدت إلى اتفاق مدريد للسلام عام 1991، وفي نهاية الأمر توقيع (إسرائيل( ومنظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق عام 1993.

وأعادت مراسم التوقيع على الاتفاق "بوش" إلى البيت الأبيض أثناء فترة رئاسة "كلينتون"، ثم عاد لاحقا للانضمام لـ"كلينتون" والرئيسين السابقين "فورد" و"كارتر" للحث على تمرير اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا).

وكانت إدارة "بوش" الأب هي من تفاوضت على الاتفاق الذي تم إقراره في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1993 ويضم الولايات المتحدة والمكسيك وكندا في تكتل تجاري كبير.

الصداقة مع" كلينتون"

في عام 2000، أي بعد ثماني سنوات من فشل مسعاه للفوز بفترة رئاسة ثانية، تغلب ابنه "جورج دبليو بوش" بفارق بسيط على مرشح الحزب الديمقراطي "آل جور" في انتخابات رئاسية ثار نزاع حول نتائجها.

وكان "آل جور" يشغل منصب نائب الرئيس "كلينتون" عندما رشح نفسه لخوض انتخابات الرئاسة.

كان "بوش" الأب يشير إلى نفسه في سنوات عمره الأخيرة بـ "41" ولابنه بـ "43" وهو ترتيب كل منهما وسط رؤساء الولايات المتحدة.

وبعد هزيمته أمام "كلينتون" في عام 1992 عاد هو وزوجته "باربرا" لمنزلهما في هيوستون، ومنحته الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا لقب فارس في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1993 لقيادته خلال حرب الخليج.

 

 

وأصبح "بوش" الأب بعد ذلك صديقا حميما لـ"كلينتون"، وانضم له في جمع المال للناجين من أمواج المد البحري العاتية (تسونامي) في المحيط الهندي في 26 ديسمبر/كانون الأول عام 2004 والتي أودت بحياة أكثر من 300 ألف شخص.

وعاد "بوش" الأب للبيت الأبيض عام 2011 حيث قلده الرئيس الأمريكي آنذاك "باراك أوباما" وسام الحرية الرئاسي، وهو أعلى وسام مدني في البلاد.

كان "بوش" طويل القامة يمارس رياضة البيسبول في الجامعة وكان مولعا بالجري ولعب الجولف وركوب الزوارق السريعة والصيد وكان يحب أن يقضي وقتا في منزل الأسرة على البحر في ولاية مين.

حافظ "بوش" على حياة نشطة حتى السنوات الأخيرة من عمره، حيث كان يلقي خطبا واحتفل بأعياد ميلاده الخامس والسبعين والثمانين والخامس والثمانين والتسعين بالقفز بالمظلات.

وفي أبريل/نيسان عام 2014 ظهر بشكل مفاجئ على مدرج الطائرات في هيوستون لتحية "أوباما" وزوجته على متن طائرة الرئاسة، وقال للصحفيين وهو يرتدي جوربه المزركش الذي أصبح من سماته المميزة وهو يجلس على مقعده المتحرك: "عندما يحضر الرئيس لمسقط رأسك يجب أن تظهر لتحيته".

واحتفل "بوش" الأب بالذكرى الخامسة والسبعين لهجوم اليابان على بيرل هاربور في ديسمبر/كانون الأول عام 2016 بحضور مراسم في مكتبته بجامعة تكساس إيه آند إم حيث تسلم منافس سابق على الرئاسة، هو السناتور الجمهوري "بول دول"، جائزة عن الخدمة العامة.

وقلل "بوش" الأب من ظهوره على الساحة بعد فوز ابنه "جورج دبليو بوش" بالرئاسة عام 2000 حتى لا تنظر الجموع إلى ابنه على أنه مجرد تابع لوالده، ولكن عندما كان يظهر في مناسبات عامة كما حدث أثناء أداء ابنه اليمين في يناير/كانون الثاني عام 2001 لم يكن يخفي فخره بولده.

وفي 2014، حضر "جورج بوش" الابن مراسم التوقيع على كتابه (41 - صورة لأبي) الذي وصفه بأنه "قصة حب" عن أبيه.

وكتب عن والده: "كان جريئا شجاعا ويسعى دائما لمغامرات جديدة وتحديات جديدة".

ووصف أباه بأنه "رب أسرة متواضع يصر على أن يعيش الحياة بكل معنى الكلمة حتى النهاية".

  كلمات مفتاحية

الولايات المتحدة الأمريكية البيت الأبيض جورج بوش الأب وفاة حرب الخليج