سلسلة الموت.. قصة جرائم قتل سياسية هزت إيران

الأحد 2 ديسمبر 2018 08:12 ص

كانت واقعة تم إجبارهم على عدم التحدث عنها مطلقا، قد استجابوا لهذا التحذير لعدة سنوات.

في ذلك التوقيت، تحديدا أغسطس/آب 1996، اعتقد مجموعة من 21 من الشعراء والكتاب والصحفيين الإيرانيين أنهم كانوا في طريقهم إلى مؤتمر أدبي في أرمينيا المجاورة، لكن ما كان ينبغي أن يكون رحلة روتينية تحولت إلى واحدة من أكثر التجارب المروعة في حياتهم.

وقد استأجرت المجموعة حافلة لنقلهم إلى الجبال من خلال ممر حيران المغطى بالضباب، وهو طريق شديد الانحدار ومتعرج يربط بين مقاطعتين شماليتين في إيران، وبدا أن الرحلة التي استغرقت 18 ساعة قد بدأت تحدث تأثيرها المروع، حيث سقط الركاب واحدا تلو الآخر في النوم، ولكن في الساعات الأولى من الصباح، صحا الجميع من نومهم فجأة مع تسارع شديد للحافلة.

راقب الركاب المستيقظون الحافلة وهي تتجه إلى حافة جرف لحسن الحظ بالنسبة لهم، وقفت صخرة في مسار السيارة ومنعها من التسارع في السقوط.

وكان من بين الركاب "فرج سركوهي"، الصحفي البالغ من العمر 49 عاما، ورئيس تحرير المجلة الثقافية التقدمية، "أدينه".

يستدعي "ساركوهي" الأمر قائلا: "بعد توقف الحافلة، خرجنا واحدا تلو الآخر في حالة من الارتباك. اقترب سائق الحافلة منا واعتذر عن أنه سقط في النوم، وبمجرد تجاوز الصدمة الأولية، وافق الركاب والسائق على مواصلة السير على الطريق".

لكن الرحلة المحفوفة بالمخاطر لم تنته عند هذا الحد، وبعد بضع دقائق، حول السائق الحافلة مرة أخرى في اتجاه المنحدر، ثم قفز من مقعد القيادة مع اقتراب السيارة من السقوط من على ارتفاع أكثر من 1000 قدم.

ولكن الحافلة توقفت فجأة قبل الحافة مرة أخرى بفضل راكب يقظ قفز بسرعة إلى مقعد السائق وقام بسحب فرامل اليد ما أدى إلى توقف الحافلة وإنقاذ حياة ركابها الـ21 للمرة الثانية.

لم يتم العثور على السائق الذي لاذ بالفرار بعد أن وضع الحافلة على المنحدر، وحينها أدرك الجميع أن هناك محاولة متعمدة لإسقاط الحافلة.

وكان من الغريب حينها تواجد مجموعة من المسؤولين الأمنيين يرتدون ثياب مدنيين يجلسون في سيارة على الطريق الجبلي الذي عادة ما يكون مهجورا في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، وقام هؤلاء الوكلاء باقتياد الأدباء إلى مكتب محلي في بلدة قريبة حيث تم احتجازهم لمدة يوم واحد.

وفي ذلك المكتب تم إجبارهم على توقيع رسالة يتعهدون فيها بعدم الحديث عن الحادث إلى أي شخص، وحينها فهموا أنها كانت محاولة متعمدة لقتلهم جميعا.

تم الاحتفاظ بتفاصيل الحلقة الدرامية خلف أبواب مغلقة لفترة طويلة، ولم تظهر إلا بعد سلسلة من الأحداث التي تكشفت في عام 1998.

الزوجان الناشطان

في يوم أحد من شهر نوفمبر/تشرين الثاني في ذلك العام،  كانت "باراستو فروهر" تجلس في منزلها في ألمانيا في انتظار أن يتصل والداها بها كما اعتادا لتبادل الأخبار حول عائلتهم على بعد مئات الأميال هناك في إيران، ولكنها ظلت تنتظر لفترة طويلة دون أن تصلها المكالمة المنتظرة.

وقد ازداد قلق "فروهر" على وجه خاص خين تلقت اتصالا من صحفية في "بي بي سي" تستفسر عن والديها، وقالت الصحفية إنها تابعت في الأخبار أن والديها تعرضا لهجوم، لكنها لم تستطع إخبارها أنهما قد قتلا.

وقُتل "داريوش" و"بارفانه فوروهار" بوحشية في منزل العائلة في جنوب طهران في 22 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1998، وتم طعن "داريوش"، البالغ من العمر 70 عاما ، 11 مرة، فيما تلقت زوجته التي تصغره بـ12 عاما 24 طعنة.

وكان الزوجان منتقدين صريحين للسلطات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكانا يديران حزبا علمانيا معارضا صغيرا كانت السلطات لا تزال تتسامح معه ظاهريا، لكن عملية القتل الوحشية للزوجين المسنين دشنت متسلسلة من جرائم القتل التي ستعرفها إيران فيما بعد.

الكاتب والمترجم

بعد أسبوعين تقريبا من ذلك الحادث، كان "محمد مختاري" يودع نجله البالغ من العمر 12 عاما أثناء خروجه من المنزل في طهران للقيام ببعض الأعمال المنزلية، ولكن "مختاري" لم يعد إلى البيت أبدا منذ ذلك اليوم.

وكان "مختاري" البالغ من العمر حينها 56 عاما، كاتبا وشاعرا وناقدا للرقابة على الصحافة في إيران، وقد أمضت عائلته الأيام السبعة التالية في البحث عنه في المستشفيات ومراكز الشرطة، لكن ما لم يكونوا يعلمونه في ذلك التوقيت أن جثته كانت قد ظهرات بالفعل في مصنع للأسمنت في ضواحي المدينة بعد يوم واحد من اختفائه في 3 ديسمبر/كانون الأول، مع علامات على الخنق حتى الموت وكدمات فوق الرقبة.

وفي نفس اليوم الذي اكتشفت فيه عائلة "مختاري" مصيره، كان أحد أصدقائه وزملائه، ويدعى "محمد جعفر بوياندي" قد اختفى هو الآخر.

وكان "بوياندي"، 44 عاما، يعمل مترجما أدبيا، وقد تم اختطافه خارج مكتبه في وسط طهران في منتصف يوم 9 ديسمبر/كانون الأول، قبل أن يتم اكتشاف جثته بعد 3 أيام مع علامات على الخنق.

الرابط المميت

يتقاسم كل من "مختاري" و"بوياندي" أمرا واحدا مشتركا وهو أن كلا منهما كان عضوا في رابطة الكتاب الإيرانيين وهي نفس المجموعة التي نظمت رحلة حافلة الموت إلى أرمينيا قبل عامين، وكان جميع أعضاء الرابطة، بشكل أو بآخر، من الناقدين للسلطات الإيرانية.

وكانت الجمعية التي جمعت بين كتّاب وشعراء وصحفيين ومترجمين متقاعدين من ذوي التفكير المتماثل في رفض الرقابة الحكومية، قد تعرضت لتضييق أنشطتها بشكل صارم في ظل الحكومات المتعاقبة، وتم حظرها بعد فترة وجيزة من قيام الثورة الإسلامية في إيران لكن أعضاءها كان يبحثون دوما عن طرق لمواجهة الحظر والتقييد.

وجاءت نقطة التحول في عام 1994، عندما حاول 134 عضوا بث روح جديدة في الجمعية عبر توقيع رسالة مفتوحة تطالب بحرية التعبير في إيران. وكان من بين الذين شاركوا في صياغة الرسالة كل من "فرج"، و"مختاري"، و"بوياندي" والعديد من الكتاب الآخرين الذين استقلوا الحافلة المشبوهة إلى أرمينيا بعد عامين.

قبل أسابيع قليلة من قتلهم في عام 1998، تم استدعاء "مختاري" و"بوياندي" وأربعة كُتَّاب آخرين إلى المحكمة بسبب جهودهم لتنظيم مؤتمر للجمعية حيث تعرضوا للتهديد وعاشت أسرهم تحت ضغط كبير.

ولم تكن الاغتيالات السياسية في أي وقت شيئًا جديدًا بالنسبة لإيران، ولكن الطبيعة الوحشية لجرائم القتل تلك هي ما أثارت الانتباه.

وقد تم النظر إليها على نطاق واسع لاحقا بوصفها جزءا من صراع على السلطة بين المتشددين الإسلاميين الذين امتلكوا تأثيرا كبيرا على أجهزة المخابرات، وبين الإصلاحيين المتحالفين مع الرئيس "محمد خاتمي"، الذي دعا إلى المزيد من الحرية والديمقراطية.

وفي ديسمبر/كانون الأول عام 1998، أمر الرئيس الإيراني "محمد خاتمي" بإجراء تحقيق في جرائم القتل المتسلسلة، وبعد بضعة أسابيع فقط، في يناير/كانون الثاني 1999، ذكرت السلطات، في اعتراف نادر، أن عددا من العملاء المارقين في وزارة الاستخبارات نفذوا عمليات القتل، وقالوا إن العقل المدبر لها كان نائبا سابقا لوزير المخابرات يدعى "سعيد إمامي".

وتوفي "إمامي" في ظروف مشبوهة في السجن، حيث قال مسؤولون إنه انتحر عن طريق ابتلاع زجاجة من مزيل الشعر.

في المجمل، تمت محاكمة 18 شخصا على جرائم القتل، حُكم على 3 أشخاص بالإعدام (تم تخفيف الحكم لاحقا إلى السجن)، وعلى شخصين آخرين بالسجن، ومن بين الذين قُدِّموا للمحاكمة كان "خوسرو باراتي"، الذي اعترف فيما بعد بأنه سائق الحافلة المشبوهة.

لكن عائلات الضحايا رفضت النتائج التي توصلت إليها التحقيقات، معتقدة أنها مضللة، وقالوا إن جميع المتورطين تصرفوا بناء على أوامر من وزير الاستخبارات نفسه.

واستقال رئيس المخابرات، "دوري نجف آبادي"، بسبب القضية، لكنه نفى على الدوام تورطه في جرائم القتل.

وبعد عدة سنوات، تسربت مجموعة من أشرطة الفيديو أظهرت استخدام العنف ضد بعض المشتبه بهم لإجبارهم على توقيع اعترافات. 

في هذه الأثناء، بدأ العديد من الصحفيين الاستقصائيين في الحفر في القضية ووجدوا صلات لها بعمليات قتل أخرى غير محسوسة وغامضة للمثقفين والكتاب يعود تاريخها إلى أواخر الثمانينات من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل، بما في ذلك الخنق والطعن وحتى حقن البوتاسيوم.

أحد هؤلاء الصحفيين هو "أكبر غانجي"، والذي تم سجنه لمدة 5 سنوات بعد أن نشر سلسلة من القصص التي تشير بأصابع الاتهام إلى وزير سابق رفيع المستوى في الحكومة وكذلك بعض كبار رجال الدين، ولم يتم التحقيق في أي من هذه الادعاءات من قبل الدولة الإيرانية، ولا تزال معظم عمليات القتل بدون حل.

ويقول الصحفي "فرج سركوهي" إنه يعتبر نفسه محظوظاً لأنه نجا من رحلة الحافلة المشؤومة، ومع ذلك، فإنه ظل مستهدفا.

وبعد وقت ليس بطويل من حادث الحافلة، تم اختطاف "سركوهي" من قبل المخابرات الإيرانية ولم ينج من الموت إلا بعد تدخل المجتمع الدولي، وهو يعيش الآن في منفى اختياري بألمانيا.

  كلمات مفتاحية

إيران محمد خاتمي قتل المعارضين سلسلة القتل