استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

عبادة الأصنام عند متصهينة السودان

السبت 8 ديسمبر 2018 07:12 ص

أعرف نفراً يقتاتون ليلا ونهارا على فكرة مؤامراتٍ مزعومةٍ تفسر عندهم كل حدث، فإذا عثرت بغلة في العراق، أو تدفقت السيول في الخليج، أو ارتفع سعر النفط أو انخفض، فلا بد أن يداً خفية وراء ذلك، لغرضٍ خفيٍّ أيضاً، وبطريقة خفية. (وهم وحدهم بالطبع يعرفون كل هذه الخفايا)!

وإذا ارتكب الحاكم العربي جريمةً نكراء في وضح النهار، ووقعت به عاقبة مكره، فلا بد أن الجهات إياها استدرجته. وإذا بدا أنه نجا من عاقبة إثمه، فلا بد أن "الجهات إياها" هي التي حالت دون عقابه، وقد تكون ضالعةً معه في الإثم، وقد يردد أحدهم المقولتين معاً، وفي المجلس نفسه، من دون أن يطرف له جفن.

ولا يعني هذا أن أعداء الأمة لا يتآمرون، فهم يفعلون ذلك ليل نهار. بل وفي العلن: في مناقشاتهم البرلمانية (ونحن يا حسرة ليس لدينا برلمانات "نتآمر" فيها، إلا على أنفسنا وشعوبنا)، وفي صحفهم وأجهزة إعلامهم (وأين إعلامنا؟)، وفي مراكز البحوث والدوريات والمؤتمرات.

ألم يعقدوا مؤتمر برلين لتقسيم العالم إلى مستعمرات، ومؤتمر بازل لإنشاء الدولة الصهيونية؟ ألم تنشر مقترحات "الاحتواء المزدوج" للعراق وإيران، ثم محاربة الإسلاميين في "فورين أفيرز"؟

(وبهذه المناسبة، كان الصديق الراحل جمال خاشقجي، رحمه الله، والعبد الفقير إلى مولاه، ممن دعي إلى مؤتمر في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في التسعينات لمناقشة المقترحات الأخيرة!).

ألم يناقش غزو العراق في العلن، وشهورا طويلة؟ ومن منا لم يسمع بـ "صفقة القرن" و"مشروع نصر إسرائيل"، حيث بشّر بها المتآمرون أنفسهم على كل منبر؟

ولا بد أن الأعداء يكونون مقصّرين لو لم يتآمروا بهمّة، مثل تقصير قادة أمتنا في السياسة والفكر عن التصدي لتآمرهم، فوجود التآمر لا يبرئ ضحاياه من المسؤولية، إلا كما يبرئ الاعتذار بكيد الشيطان الرجيم الظالمين يوم الحساب!

وقد قلت مرة لقائلٍ، بعدما أكثر من ترداد ما يردّد: "كأنك تضع من تسميهم المتآمرين في مصاف الآلهة، فالواحد منهم بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير..

فهو يعلم ما يسّر الزعماء وما يعلنون، ويوحي إليهم ليل نهار، ويأمرهم فيطاع، ويقدر فتنفذ الأمور كما يشاء، ولا يخطئ ولا يفشل، ولا يحدث في الكون إلا ما (يسمح به)"!

من شأن هذا التأليه أن يفتّ في عضد الأمة، ويجعلها تستسلم لهؤلاء "الآلهة" الذين لا يغلبون.

ومصداق ذلك ما نراه في السودان اليوم من تخبّط النظام والدائرين في فلكه بشأن مسألة التطبيع مع إسرائيل، ذلك أن دعاية النظام ظلت عقودا تروج أن كل ما يقع فيها من بلاء، وما يصيبها من فشل، وينزل بها من نوازل، هو من تدبير إسرائيل وأميركا وأعوانهما.

فإذا أساءت التعامل مع أهل جنوب السودان، ولم تُحسن إدارة الحرب أو إحلال السلم، اتهمت الصهاينة والصليبيين والامبريالية.

وإذا رفضت نصيحة المخلصين من أبناء إقليم دارفور المنكوب، وأطلقت بينهم جحافل الخراب، وثارت عليها الدنيا جزاءً وفاقاً، اتهمت إسرائيل والصهاينة أيضاً.

وإذا دمرت اقتصاد البلاد بسوء الإدارة والجهل والفساد، تحدثت عن "الحصار" والتربص.

ولا يمثل هذا الخطاب فقط تنصلاً من المسؤولية، بل هو دعوة إلى الركوع والسجود أمام المجرمين الصهاينة ومن أيدهم، فهؤلاء بيدهم مقاليد الاقتصاد، ومفاتيح السياسة الدولية، ومعايير حقوق الإنسان، ومنابر الإعلام الدولي، وحتى قلوب العالمين.

من هذا المنطلق، فإن التصرف الصحيح هو عبادة هذه الآلهة المصنوعة، كما كان عرب الجاهلية يعبدون أصناماً يصنعونها بأيديهم من التمر.

وهذا بالضبط ما وقع، حيث إننا طفقنا منذ سنوات نسمع همهمةً أصبحت اليوم صراخاً وعويلاً، حول ضرورة الخضوع لإملاءات إسرائيل وخطب ودها، عل الركوع والسجود بين يدي نتنياهو يرفع البلاء ويزيل الغمة.

وفي أحيانٍ كثيرة، يسخر لمثل هذا الغث من القول أشخاص وواجهات تبدو هامشية، مثل بعض الأكاديميين الهائمين في أبراجهم العاج، أو بعض الأحزاب الورقية أو الشخصيات التي احترقت من كثرة تقلبها، وقلة صدقها.

وهذه فضيلةٌ من ناحية، لأنها تؤكد أن مروّجي هذا الغثاء يخجلون من تهافته، ولا يريدون تبنّيه علناً. لكن يبدو أن هذا الخجل بدأ يتراجع، بعدما أصبح زعماء الأعراب يتزاحمون بالمناكب على التقرّب من هذه (الآلهة).

وكان من عجبٍ أن خصصت مساحة لا مبرّر لها في ما سمي "مؤتمر الحوار الوطني"، لطرح فكرة التطبيع مع إسرائيل والدفاع عنها. وقد اتخذ هذا ذريعةً حتى عند بعض الوزراء، لتبرير مناقشة قضية العلاقة مع إسرائيل، والتمهيد لتقبل هذا الإثم المبين.

وأعرف حقاً أن هناك في أعلى هرم السلطة السودانية من يؤمن إيمان العجائز بأن الأمر كله بيد إسرائيل، فلو كسبوا ودّها لأصبحوا من الفائزين.

لحسن حظ أهل العلم، ثبت بطلان هذه الخرافات، في السودان تحديداً، فقد فعل الرئيس جعفر النميري أكثر مما يحلم به هؤلاء: كان يخدم أميركا بإخلاص، وينفذ لها مؤامراتها في تشاد وإثيوبيا، ويدعم التطبيع في مصر.

وقد استقبل شارون وقدم خدمة ترحيل اليهود الفلاشا، وكان عند الرئيس الأميركي، روناد ريغان، من المقربين. لكن لعله أول رئيس في العالم يتم إسقاطه في ثورة شعبية، وهو في حالة "معراج" في البيت الأبيض، يلقى الوفادة والتكريم، فلم تغن عنه إسرائيل ولا أميركا من شيء.

وقع الشيء نفسه على دكتاتور إثيوبيا السابق، منغستو هايلي ميريام، الذي كان من القلائل الذي أيدته القوتان العظميان، خصوصا بعدما دعم تدخل أميركا في الكويت، وعرض إرسال جنود لدعم "عاصفة الصحراء". فلم ينفعه ذلك، حينما جاء القضاء المحتوم.

فلو كان هؤلاء المتأمرون آلهةً، كما يزعم هؤلاء، لنصروا أولياءهم والمتقرّبين إليهم. بل لنصروا أنفسهم، فقد هزمت أميركا في الصومال، أضعف بلدان أفريقيا، ودمرت أفغانستان الاتحاد السوفييتي العظيم، وتوشك أن تلحق به أميركا اليوم.

وهزمت غزة المحاصرة إسرائيل أكثر من مرة، بل إن نتنياهو وترامب عاجزان حتى عن إنقاذ نفسيهما من "المؤامرات" التي تحيكها ضدهما سلطات بلادهما القضائية. حقاً، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها!

فليخجل مروجو الخرافات، ممن يريدون أن يضيفوا إلى جرائمهم التي هي سبب محنتهم الحالية، جريمة أخرى بالمشاركة في جرائم غيرهم.

فليس بمتزعمي الدول العربية في الخليج أو وادي النيل في حاجةٍ إلى التواطؤ في جرائم إسرائيل ضد أهل فلسطين وجوارها حتى "يُسمح" لهم بالاستمرار في ارتكاب جرائمهم ضد شعوبهم.

بل الواجب عليهم، بالعكس، التوبة عن التآمر على شعوبهم، لأن هذا أسّ البلاء. ألا ترى أنهم، هم ومريدوهم من الذباب الإلكتروني والحقيقي، لا يقولون إلا كذباً؟

وهنا أيضاً يصبح الكذب فضيلة، لأنه اعترافٌ بأنهم على الباطل، ولهذا يقتلون ويعذبون كل من يقول طرفاً من الحقيقة عنهم.

* د. عبد الوهاب الأفندي أكاديمي سوداني أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

المصدر | العربي الجديد

  كلمات مفتاحية

السودان جعفر النميري صفقة القرن جمال خاشقجي الصهيونية تطبيع إسرائيل أمريكا