ستراتفور: منتجو النفط يستعدون لعصر جديد من انخفاض الأسعار

الثلاثاء 8 يناير 2019 05:01 ص

مع قدوم عام 2019، بدأ منتجو النفط يشعرون بأن السوق يعود من جديد لما كان عليه خلال الأعوام القليلة الماضية.

وتعزز هذا الشك الشهر الماضي، عندما انخفض سعر خام برنت القياسي العالمي لفترة وجيزة إلى ما دون 50 دولارا للمرة الأولى منذ يونيو/حزيران 2017.

وبالإضافة إلى ذلك، للمرة الثانية خلال 5 أعوام، أجبر تراجع أسعار النفط منتجي النفط العالميين على تثبيت خفض الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا.

وللمرة الثانية في الأعوام الخمسة، سيتعين على المنتجين التعامل مع تداعيات انخفاض الأسعار، حتى لو لم يكن الألم شديدا هذه المرة.

سوق النفط تحت الضغط

وربما كانت روسيا والمملكة العربية السعودية وأعضاء آخرون في منظمة "أوبك" ضحايا لنجاحهم في عام 2018.

فبعد خفض إنتاج النفط في بدايات عام 2017، وتحسن الأسعار خلال عامي 2017 و2018، قرر تحالف "أوبك" والدول غير الأعضاء في المنظمة، أو ما يسمى بـ "أوبك بلس"، في يونيو/حزيران 2017، التراخي في بعض القيود على الإنتاج.

لكن ارتفاع أسعار النفط دفع أيضا منتجي النفط الضعفاء في أمريكا الشمالية إلى تعزيز الاستثمار لتسريع نمو الإنتاج. ونتيجة لذلك، بلغ إنتاج الولايات المتحدة 11.5 مليون برميل في اليوم في أكتوبر/تشرين الأول 2018، أي بزيادة تقارب 2 مليون برميل يوميا مقارنة بالعام السابق.

وأدى النمو المتزايد في إنتاج الولايات المتحدة، وارتفاع الإنتاج من السعودية، والإعفاء بشأن العقوبات على شراء النفط الإيراني، وضعف الاقتصاد العالمي بسبب الحرب التجارية الأمريكية، إلى بدء تراجع حاد جديد في أسواق النفط.

وفي حين من المرجح أن ترتفع الأسعار جزئيا بسبب قرار الرياض بخفض الإنتاج مرة أخرى، فلا مفر من حقيقة أن العرض لا يزال زائدا في السوق، حتى مع تخفيضات الإنتاج.

والأهم من ذلك، من المرجح أن يوفر الناتج الأمريكي كل النمو، إن لم يكن أكثر، المطلوب في عام 2019. ونتيجة لذلك، قد تبقى الأسعار عند أدنى مستوياتها الحالية لأغلب فترات العام، حيث تتراوح معظم التقديرات بين 40 دولارا و75 دولارا أمريكيا للبرميل.

ويشبه الانخفاض الأخير في الأسعار الانخفاض المسجل في النصف الثاني من عام 2014.

ولكن هذه المرة لن يضطر العديد من منتجي النفط إلى إجراء نفس التعديلات الاقتصادية المضنية كما فعلوا عام 2015. فلقد نفذ معظمهم بالفعل مبادرات طويلة الأجل للتخفيف من حدة المشاكل الناجمة عن انخفاض الأسعار. إذن ما هو بالضبط ما قد يخبئه بعض أهم منتجي العالم؟

السعودية تواصل الاستدانة

كان ولي العهد "محمد بن سلمان" قد رد على هبوط أسعار النفط بالوعد بتخفيض الدعم وإرساء إجراءات تقشف كبيرة في عام 2015، عندما بلغ عجز الميزانية في البلاد ذروته عند 97.9 مليار دولار.

كما أطلقت الرياض خطة "رؤية 2030" في أبريل/نيسان 2016 لزيادة إيرادات المملكة من التدفقات غير النفطية، وتعزيز القطاع الخاص، وتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على صادرات النفط. وعلى الرغم من نجاح الرياض في تحقيق بعض أهداف "رؤية 2030"، حيث ارتفعت الإيرادات غير النفطية من 115 مليار ريال في عام 2014 إلى 287 مليار ريال في 2018، فقد كافحت لجذب الاستثمار الأجنبي والبدء في تنشيط القطاع الخاص. ويكمن كلا الهدفين في قلب "رؤية 2030".

وللتغلب على الركود، اضطرت الرياض إلى التراجع عن استراتيجيتها الاقتصادية القائمة منذ أمد بعيد، والتي تعتمد على القيام بالاستثمارات اللازمة بمفردها أو اللجوء إلى صندوق ثروتها السيادية، "صندوق الاستثمارات العامة"، لدفع تكاليف المشاريع المحلية.

ووضع انخفاض أسعار النفط المملكة في مأزق، فهي لا تستطيع إجراء التعديلات اللازمة لتحفيز القطاع الخاص بسرعة أو جذب الاستثمار، منذ عانى ولي العهد من ضغط عالمي جراء مقتل الصحفي المعارض "جمال خاشقجي".

وتهدف ميزانية المملكة لعام 2019 إلى القيام بذلك، وتخطط الرياض ليس فقط لتقديم أعلى ميزانية لها على الإطلاق، ولكن أيضا لتعزيز الإنفاق الرأسمالي بنسبة 20%. ويعني هذا أنها تحتاج إلى سعر للنفط يبلغ نحو 90 دولارا للبرميل الواحد حتى يتسنى لها تحقيق هدفها. ولكن لأن المملكة ترغب في الحفاظ على خطط إنفاقها على الرغم من انخفاض أسعار النفط، فمن المرجح أن تستمر الرياض في الاستدانة بوتيرة كبيرة.

مشاكل روسيا الكثيرة

ومثل السعودية، عانت روسيا بعض الألم الكبير في عامي 2014 و2015 مع انخفاض الأسعار. علاوة على ذلك، اختارت موسكو مواصلة تعويم "الروبل" في أسواق العملات الدولية، مما أدى إلى إضعافه بشكل كبير مع انخفاض أسعار النفط. وبالنسبة لروسيا، كان لهذا القرار تداعيات متناقضة.

وفي حين أنها جعلت الواردات أكثر تكلفة وأجبرت الكرملين على الاعتماد بشكل أكبر على الاقتراض لسد الثغرات في الميزانية، إلا أنها عززت الصادرات غير النفطية، حيث جعل الروبل الضعيف السلع الزراعية والسلع الصناعية الروسية أكثر قدرة على المنافسة.

كما تبنت موسكو أسلوبا حكيما للاستفادة من ارتفاع أسعار النفط خلال العامين الماضيين، عبر تجنب تنفيذ ميزانية توسعية. وبدلا من ذلك، استخدمت أي عوائد نفطية تتجاوز 40 دولارا للبرميل، وأودعتها في صندوق أو استخدمتها لخفض عجزها. كما واصلت بذل جهود إصلاحية أكثر شمولا في الداخل، فزادت ضريبة القيمة المضافة من 18% إلى 20% لميزانية عام 2019، واستمرت في تدابير التقشف، مما أدى إلى فائض ميزانية صغير في العام الماضي.

ومن المؤكد أن انخفاض سعر النفط سيؤدي إلى عجز في الميزانية بالنسبة لروسيا، لكن الأسعار المنخفضة ليست سوى واحدة من بين العديد من المخاوف بشأن اقتصادها.

وتواصل واشنطن توسيع عقوباتها ضد الكرملين في عدد من الحقول، حتى أنها تهدد بإجراءات ضد خطوط أنابيب الطاقة الروسية، مثل "نورد ستريم 2"، مما سيعرض جوانب استراتيجية موسكو الاقتصادية طويلة المدى للخطر. وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية، شددت موسكو على تقليل اعتمادها الاقتصادي على الغرب عبر توسيع العلاقات الاقتصادية مع آسيا، ولكن هذه الخطوة قد وفرت لروسيا في نهاية المطاف القليل من المساعدة، بسبب التراجع في الأسواق الآسيوية وسط الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

الكابوس الأسوأ في إيران

وربما لن تشعر أي دولة بالضرر من انخفاض الأسعار بقدر ما ستشعر به إيران. وكانت صادرات البلاد من النفط قد انخفضت بالفعل بنحو مليون برميل يوميا بسبب قرار الولايات المتحدة بإعادة فرض العقوبات بعد الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، لكن انخفاض الأسعار لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع بالنسبة للجمهورية الإسلامية. ومنحت إدارة "ترامب" تنازلات، لمدة 180 يوما، لـ 8 بلدان تسمح لها بمواصلة استيراد النفط الإيراني، ويرجع ذلك جزئيا إلى ارتفاع أسعار النفط في أكتوبر/تشرين الأول 2018.

ولكن إذا استمر العرض الكبير في السوق سيكون لدى واشنطن مجال أكبر للضغط على عملاء طهران لتقليل هذه الواردات بشكل أكبر أو التخلص منها العام الحالي. وبالنسبة لإيران، يظل احتمال فقدانها لمعظم مشترياتها أكثر مدعاة للقلق من انخفاض أسعار النفط نفسه، بالنظر إلى أن الآثار الاقتصادية ستكون مدمرة، وقد تسبب تداعيات سياسية خطيرة في الداخل.

العراق يكافح لإخراج ثروته النفطية

وواجهت العراق، رابع أكبر منتج للنفط في العالم الآن، تحديين رئيسيين خلال الانخفاض الأخير في الأسعار عام 2014. وفي حين أدى انهيار الأسعار إلى انزلاق بغداد إلى حالة من الاضطراب المالي، كان تنظيم "الدولة الإسلامية" أيضا يستهدف السيطرة على مناطق الإنتاج في شمال وغرب العراق.

وبينما لم تعد الجماعة المسلحة قادرة على إقامة مراكز حضرية مثل الموصل، إلا أنها لا تزال تشكل تهديدا إرهابيا.

والأكثر من ذلك، لا يستطيع العراق تحمل ثمن 88 مليار دولار لإعادة إعمار المناطق التي دمرها التنظيم. وحتى الآن، لم تتلق العراق سوى 30 مليار دولار لجهود إعادة الإعمار، بعد مؤتمر دولي للمانحين العام الماضي في الكويت، ناهيك عن أن معظم هذه الأموال أتت في شكل اعتمادات وقروض يتعين على بغداد سدادها في نهاية المطاف.

وسمحت أسعار النفط المرتفعة في عام 2018 للعراق في نهاية المطاف بتحقيق فائض في الميزانية، بفضل تدابير التقشف غير الشعبية التي نفذها رئيس الوزراء السابق "حيدر العبادي". وسوف يسمح استمرار هذا الأمر لبغداد باستخدام الإنفاق الرأسمالي للمساعدة في إعادة بناء بعض المناطق المتضررة، لكن أسعار النفط المنخفضة تضع هذه الخطط في خطر.

وأخفق رئيس الوزراء الجديد "عادل عبدالمهدي" في تشكيل الحكومة، حيث منعه الصراع السياسي بين الفصائل الشيعية المتنافسة من ملئ المناصب الحرجة، وهيوزير الدفاع ووزير الداخلية.

وفي الوقت نفسه، تفرض التركيبة الطائفية والعرقية في العراق أيضا قيودا على قدرتها المحدودة على إعادة بناء البلاد وتقديم الخدمات لجميع المواطنين.

وتعد معظم المناطق التي دمرها تنظيم "الدولة الإسلامية" في الغالب كردية وسنية، لكن "عبدالمهدي" سيتردد في تخصيص الكثير من المال لمشروعات إعادة الإعمار في هذه المناطق، في ظل مطالبة سكان العاصمة النفطية للبلاد، مدينة البصرة الجنوبية الشيعية، بالمزيد من الوظائف والخدمات العامة وتحسين فرص الحصول على المياه. وفي النهاية، من المرجح أن تشهد العراق احتجاجات طوال عام 2019، حيث يناضل قادة البلاد للوفاء بالمطالب المتنافسة وسط انخفاض أسعار النفط.

أزمة فنزويلا

وفي فنزويلا، أدى انهيار أسعار النفط إلى دفع البلاد إلى دوامة اقتصادية عميقة ستغير بشكل جوهري أنشطتها الاقتصادية لعقود من الزمان. وبعد أن انخفضت الأسعار عام 2014، اختارت كاراكاس تمويل العجز الهائل من خلال توسيع قاعدتها النقدية، مما أدى إلى زيادة التضخم. وقامت الحكومة بخفض الواردات، وتعثرت، أو تخلفت، عن سداد جميع مدفوعات الديون الخارجية تقريبا، حتى تلك المستحقة للدائنين الرئيسيين مثل الصين وروسيا.

والآن، تتحرك كاراكاس ببطء بعيدا عن عقود من الاعتماد على إنتاج النفط كسلعة وحيدة تقريبا، وتفعل ذلك إجبارا وليس اختيارا. ومع انخفاض عائدات النفط، تبحث حكومة الرئيس "نيكولاس مادورو" عن مصادر إضافية للتمويل، للحفاظ على تحالفها السياسي.

وانخفض إنتاج النفط بنحو مليون برميل يوميا منذ بداية عام 2018، ولن توفر مصادر الدخل الأخرى، مثل التعدين سوى دخل أقل بكثير من صادرات النفط الخام.

ومن شأن هذا أن يؤدي إلى منافسة أكبر بين النخب الفنزويلية للحصول على إيرادات من التعدين غير المشروع والأنشطة غير القانونية الأخرى، مثل الإتجار بالكوكايين. وعلى المدى الطويل، من المرجح أن يزعزع هذا استقرار حكومة "مادورو"، وقد نشهد إدارة جديدة تقودها المعارضة.

الولايات المتحدة فائزة وخاسرة

وبالنسبة لمعظم العالم المتقدم، يعتبر النفط الرخيص شيئا جيدا. فبعد كل شيء، يعد الاتحاد الأوروبي واليابان والصين وكوريا الجنوبية مستوردين كبار للنفط.

وعلى الرغم من ارتفاع إنتاج النفط في الداخل، تظل الولايات المتحدة أيضا مستوردا كبيرا في الوقت الحالي. والأهم من ذلك أن معظم الاقتصاد الأمريكي يستهلك كميات كبيرة من النفط، مما يعني أن الأسعار المنخفضة تعد فائدة كبيرة. وفي الوقت نفسه، تشير الأسعار الضعيفة أيضا إلى توقعات بطيئة للنمو العالمي، مما يعوق النشاط التجاري الأمريكي في جميع أنحاء العالم.

وأوقف انخفاض الأسعار في عامي 2015 و2016 نمو إنتاج النفط الصخري في أمريكا الشمالية. وقد يؤدي الهبوط الحالي في أسعار النفط إلى دفع الشركات التي كانت تضع خططا استثمارية كبرى عندما تجاوزت الأسعار 70 دولارا للبرميل لتقلص تلك المقترحات.

وألغى العديد من منتجي "الصخر الزيتي" عمليات الحفر في عام 2019. لكن بعضا من أكثر أعمال إنتاج "النفط الصخري" في الولايات المتحدة في حوض "بيرميان" تتكلف 45 إلى 50 دولارا للبرميل. ويعني هذا أنه في حين قد تعاني رقعة النفط من بعض الألم المالي إذا بقيت الأسعار منخفضة، فقد لا يكون ذلك بالقدر الذي يؤدي إلى إغلاق أو تقليل الإنتاج بشكل مؤثر.

لا ضمانات

قبل 3 أشهر، لم يكن وصول سعر برميل النفط إلى 90 دولار بعيدا، حيث ارتفع خام برنت إلى 85 دولار للبرميل. وقد ترتفع الأسعار بسرعة إذا كانت هناك تغييرات في ظروف السوق، مثل تسارع الاقتصاد العالمي، ولكنها قد تظل منخفضة إذا ساءت الأوضاع، أو تعمقت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

وقررت البلدان الأعضاء في "أوبك بلس"، الأكثر قلقا بشأن أسعار النفط، قرروا فعل كل ما يتطلبه الأمر لتحقيق التوازن في السوق، بما في ذلك تخفيضات أخرى تتجاوز التخفيض الذي دخل جيز التنفيذ في 1 يناير/كانون الثاني. 

ولكن حتى لو أدى ذلك إلى زيادة الأسعار، فمن المرجح أن تجد منظمة "أوبك" نفسها في موقف مماثل لما حدث عامي 2017 و2018، عندما ارتفعت الأسعار محفزة نمو الإنتاج في أمريكا الشمالية، مما سيلزم المنتجين بإجراء تخفيضات دائمة أو أكثر عمقا لتعويض النمو القوي في أماكن أخرى. وقد يجد منتجو النفط أنفسهم في مأزق دائم، حيث يصبح سعر 50 دولار إلى 60 دولار للبرميل هو المعدل الطبيعي الجديد، ويكون أي شيء خارج هذا النطاق ارتفاعا مؤقتا على الأرجح. ومهما كان الوضع الطبيعي الجديد، فإن معظم البلدان لا تملك الآن خيارا كبيرا سوى صياغة استراتيجياتها الاقتصادية والمالية مع أخذ هذا النطاق، بين 50 و60 دولارا، في الاعتبار.

  كلمات مفتاحية

منظمة أوبك أسعار النفط خام برنت النفط الصخري السعودية العراق روسيا

هل ينجح بن سلمان في "الغسيل الأخضر" لسمعة السعودية النفطية؟