فورين أفيرز: دول الخليج تلعب لعبة خطرة بالقرن الأفريقي

الخميس 17 يناير 2019 10:01 ص

تسعى دول الخليج الغنية، حاليا، لتأكيد نفسها في القرن الأفريقي كما لم تفعل من قبل. إذ تعيد موجة الاستثمارات الاقتصادية والعسكرية الجديدة تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية على جانبي البحر الأحمر؛ حيث أصبحت المنطقتين المتمايزتين سابقا منطقة واحدة بسرعة. ويعمل ظهور ساحة سياسية واقتصادية مشتركة في المنطقة، التي تعد واحدة من أهم الطرق التجارية في العالم، على توفير فرص للتطور والتكامل، لكنه يشكل أيضا مخاطر كبيرة. وبالنسبة للدول الأفريقية الهشة الواقعة على السواحل الغربية للبحر الأحمر، أثبت الارتباط الجديد مع القوى الخارجية أنه جالب للمخاطر.

وبينما تسعى الإمارات والسعودية وقطر وتركيا إلى توسيع نفوذها في القرن الأفريقي، فإن ذلك يُصدّر تنافسات الشرق الأوسط على النفوذ إلى المنطقة. وليست هذه الدول القوى الخارجية الوحيدة التي تهتم الآن بهذا المكان، الذي كان منعزلا في السابق. فالصين أنشأت مؤخرا أول منشأة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، على بعد 6 أميال فقط من القاعدة الأمريكية الوحيدة في أفريقيا؛ ما يجعل البحر الأحمر مسرحا جديدا للمنافسة بين القوى العظمى. ويوجد في مركز المنطقة مضيق باب المندب، وهو ممر ضيق للشحن تمر من خلاله مئات المليارات من الدولارات من النفط والصادرات الأخرى بين أوروبا وآسيا والخليج. وعلى الجانب الآخر مباشرة من المضيق، توجد شواطئ اليمن، حيث تستمر واحدة من أكثر الحروب تدميرا في العالم، وتستعر المعارك بالوكالة هناك.

وفي الوقت نفسه، تجري تغييرات تاريخية في جميع أنحاء القرن الأفريقي؛ حيث تشهد إثيوبيا نموا اقتصاديا من رقمين، وتخضع لأكثر عمليات الانتقال السياسي اجتياحا منذ أوائل التسعينيات. وتم إخراج إريتريا، التي ظلت منبوذة لفترة طويلة بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، من نظام عقوبات الأمم المتحدة الذي مضى عليه عقود. وقد يدخل الصومال والحكومة الفيدرالية التي نشأت عن تعاون إقليمي إلى منعطف جيد بعد عقود من انعدام الأمن. ويعتمد ما إذا كانت المشاركة الخارجية ستساعد أو تعوق التغيير طويل المدى في القرن الأفريقي على مدى قدرة الدول الأفريقية على إدارة علاقات غير متماثلة مع الشركاء الخليجيين. ويجب أن تجد هذه الدول الضعيفة، التي توترت بالفعل بسبب التقلبات الداخلية، طريقة للاستفادة من الاستثمار دون التنازل عن سيادتها أو الانجذاب إلى منافسات سياسية لا تقدم إلا القليل من المكافآت.

تزاحم جديد على أفريقيا

منذ 2015، تحركت دول الخليج الغنية بالسيولة النقدية بجنون نحو إنشاء العقارات على ساحل البحر الأحمر. وانتشرت الموانىء البحرية الجديدة، والمواقع العسكرية المتقدمة؛ حيث تقوم هذه الدول ببناء جسور استراتيجية في جيبوتي وإريتريا والصومال والسودان وحتى اليمن. وواصلت دول الخليج إنشاء المواقع الاستيطانية هذه بقوة، كجزء من جهودها الأكبر لإعادة تحديد النظام الإقليمي، وتأكيد نفسها على أنها لاعب رئيسي على المسرح العالمي.

وتتوقع دول الخليج، وعلى الأخص الإمارات، أن توفر الموانئ التجارية الجديدة في القرن الأفريقي إمكانية الوصول إلى الطبقة الاستهلاكية في أفريقيا. وهم يأملون أن تؤدي هذه الاستحواذات، إلى جانب الموانئ في اليمن، إلى تحديد مستقبل التجارة البحرية في البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي، خاصة مع نمو التجارة الصينية في المنطقة بسبب مبادرة "حزام واحد.. طريق واحد". ويظهر اهتمام دول الخليج بالمنطقة في الشق العسكري أيضا؛ حيث أقامت منشآت يمكن من خلالها دعم الحرب في اليمن على المدى القريب، وحماية مصالح الأمن الإقليمي من تهديدات مثل إيران والتطرف العنيف على المدى الطويل. وأخيرا، تعمل شراكات الإقليم مع الدول التي تتواجد في أفريقيا بمثابة بوليصة تحوط ضد المتنافسين في أوقات التوتر بين دول الخليج العربية.

وحتى الآن، استفادت بعض الدول الأفريقية من العلاقات الخليجية والتركية، في حين أثارت تلك العلاقات الاستقطاب في دول أخرى. على سبيل المثال، أدى ضخ الأموال الإماراتية إلى إثيوبيا إلى تخفيف حدة أزمة الديون الخطيرة في البلاد؛ ما وسع فترة شهر العسل لرئيس الوزراء الجديد، "آبي أحمد علي". لقد تفوق الزعيم، البالغ من العمر 42 عاما، وهو أصغر زعماء أفريقيا، على الحرس القديم للبلاد، ويقوم بسرعة بتفكيك الدولة الأمنية بإنهاء حالة الطوارئ، والإفراج عن آلاف السجناء السياسيين، وتخفيف القيود المفروضة على وسائل الإعلام وحرية التعبير، مع إصلاحات أخرى. ويخطط "آبي أحمد" أيضا لخصخصة الصناعات الرئيسية، وعين أعدادا قياسية من النساء في المناصب العليا، وكسب القلوب والعقول في الداخل والخارج.

لكن الحماس الهائل سيتراجع؛ حيث يواجه جدول أعمال التغيير غير العادي لـ"آبي أحمد" معوقات، بما في ذلك الاضطرابات التي تتفشى الآن في العديد من المناطق العرقية في إثيوبيا. ويعتمد الاستقرار في الدولة، التي يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة، على قدرة "آبي أحمد" على النهوض ببرنامج الإصلاح الطموح هذا، في الوقت الذي يستجيب فيه للمطالب الشعبية، ويواجه الشعور الواسع بعدم اليقين. وبالتالي سيكون من الحكمة أن تخفف دول الخليج من شهوتها، وأن تتحلى بالصبر، وأن تمتنع عن تصدير الانقسامات الخليجية إلى بيئة غير مستقرة أصلا. من جانبه، رفض "آبي أحمد" بحكمة الانحياز إلى الأطراف المتنازعة في أزمة الخليج منذ عام 2017. وبينما قبل الدعم الإماراتي، بما في ذلك مبلغ ملياري دولار إضافي من الاستثمارات المتعهد بها، تحرك بعناية فائقة في العلن بعيدا عن ذكر الأزمة، مدركا أن رؤيته كعميل لأبوظبي أو الرياض ستقوض موقفه في الداخل.

وفي إريتريا المجاورة، استفاد الرئيس "أسياس أفورقي" بشكل أوضح من مشاركة الخليج، على الأقل في المدى القصير. وساعدت الاستثمارات الجديدة من السعودية في إخراج نظامه، المعزول منذ فترة طويلة، من المنطقة القاتمة. وعندما ذهب التحالف السعودي الإماراتي إلى حرب اليمن عام 2015، كان في حاجة إلى موقع متقدم على البحر الأحمر يمكن من خلاله إطلاق حملات جوية وبحرية، واختار مدينة "عصب" الساحلية في إريتريا، وحولها إلى قاعدة عسكرية كبيرة. وبعد انحسار جذري مع جيبوتي حول تشغيل مينائها الرئيسي، تحرص أبوظبي أيضا على إعادة تطوير ميناء "عصب" التجاري، وجعله شريان الحياة الأساسي للاقتصاد ثقيل الوزن في إثيوبيا والمنطقة.

كما ساعدت العلاقة السعودية الإماراتية الجديدة مع إريتريا في رفع نظام عقوبات الأمم المتحدة ضد إريتريا، وزيادة التقارب الأولي بين أسمرة وأديس أبابا. وبعد ذلك، دعت دول الخليج "أفورقي" و"آبي أحمد" للاحتفال بالتقارب التاريخي، عبر عقد احتفالات فخمة في جدة وأبوظبي. لكن التطبيع بين البلدين الأفريقيين بدأ للتو، وعلى الرغم من وجود سبب للتفاؤل، إلا أنه يجب على قادة الخليج أن يولوا اهتماما كبيرا للحسابات السياسية الداخلية التي تحفز التقارب، ومخاطر التحرك بسرعة كبيرة. وما زال يتعين التفاوض بشأن مجموعة من القضايا الشائكة، بينما لن يتأقلم الخصوم السياسيون القدماء ووكلاء القوى المسلحة بسهولة مع الواقع الجديد. وينبغي على قادة الخليج أيضا أن يحذروا من الاستثمار بشكل كبير في الأفراد وليس في المؤسسات؛ فلقد كان "أفورقي" منذ فترة طويلة أكثر الشخصيات التي لا يمكن التنبؤ بها في المنطقة، وبدون عدو خارجي لقتاله في إثيوبيا، فإن قبضته السلطوية منذ عقود على إريتريا قد تقترب من النهاية.

وبينما أنتجت مشاركة الخليج في إثيوبيا وإريتريا نتائج متناقضة، تظهر تجربة الصومال بوضوح كيف تجلب هذه المشاركة الانقسامات. إذ اقتحمت السعودية وتركيا وقطر والإمارات الساحة السياسية في مقديشو في الأعوام الأخيرة، على أمل كسب الحلفاء والاستثمارات والتأثير على أطول خط ساحلي في أفريقيا. وأدت التدخلات، والمكافآت غير المشروعة، والتشويش الخليجي، إلى تضخيم الانقسامات في بلد متوتر أصلا.

ويسبق وجود تركيا في الصومال وجود القوى الإقليمية الأخرى، ورحب به العديد من الصوماليين. فأنقرة بدأت في إرسال المساعدات الإنسانية إلى الصومال خلال مجاعة عام 2011، واستثمرت بشكل كبير في البلاد منذ ذلك الحين. وتخشى دول الخليج ومصر من تعميق تركيا لمشاركتها في الصومال والسودان؛ حيث تراها محاولة لإبراز النفوذ التركي عبر أراضي الإمبراطورية العثمانية السابقة.

كما استثمرت الإمارات في التحالف مع مقديشو. لكن في عام 2018، استولى الرئيس الصومالي "محمد عبدالله محمد" (فرماجو) على طائرة محملة بأموال إماراتية على مدرج مطار في مقديشو، واتهم الإمارات بالتدخل في شؤون البلاد، ورفض الانحياز إلى جهة في الخلاف الخليجي. ومع شعورها بالقلق من تناغم "فرماجو" مع قطر وتركيا، تحولت أبوظبي عن الرئيس، وكثفت دعمها لخصومه في الولايات الفيدرالية في الصومال، وضاعفت الصفقات مع المسؤولين المحليين في مناطق الحكم الذاتي في أرض الصومال وبونتلاند، من أجل بناء قاعدة عسكرية أخرى واثنين من الموانئ الجديدة. واحتجت مقديشو بشراسة، في حين أعلنت المقاطعات المستفيدة دعمها لحصار قطر؛ ما أدى إلى تفاقم التوترات بين مركز البلاد وأطرافها.

معركة خطرة

وزادت المنافسة الجديدة بين القوى العظمى من تعقيد مباراة الشطرنج في البحر الأحمر. وتجعل قاعدة الصين العسكرية في جيبوتي عدد الجيوش الأجنبية في المدينة الصغيرة يصل إلى 5. وتتجمع كل من الصين وفرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة الآن في نقطة ارتكاز في البحر الأحمر. كما أشارت الهند والسعودية إلى الاهتمام بإنشاء قواعد في جيبوتي، التي كانت موطنا لميناء المياه العميقة الوحيد في المنطقة، في حين بدأت روسيا محادثات مع إريتريا حول وجودها الاستراتيجي في البحر الأحمر.

ودفعت مصالح الصين المتوسعة في جيبوتي، جنبا إلى جنب مع منشأتها البحرية الجديدة، القلق في الكابيتول هيل وفي البيت الأبيض على حد سواء؛ حيث تركز إدارة "ترامب" بشكل متزايد على التنافس بين القوى العظمى، وتعيد الآن النظر في موقفها العسكري في أفريقيا. وتعد حقيقة أن واشنطن تولي اهتماما أكبر لهذه المنطقة أمر جيد. لكن في حين أن الاعتبارات الاستراتيجية حاسمة، لا ينبغي أن تكون سياسة الولايات المتحدة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر الأوسع مدفوعة بالكامل بالتنافس مع بكين.

ومع الإدارة السليمة للموقف، يمكن لدول الخليج والدول الأفريقية الاستفادة من التعاون الجديد. ويمكن للدول الأفريقية، على وجه الخصوص، استغلال الاستثمار والمساعدة لتطوير البنية التحتية، وخلق فرص العمل، والوصول إلى الأسواق العالمية، أثناء محاولتها تحديث اقتصاداتها. حتى أن بعض الدبلوماسيين الإقليميين دعوا إلى إنشاء منتدى البحر الأحمر، وهو تجمع يجمع الدول المطلة على البحر ويعمل على تأمين الممرات المائية في المنطقة، وتنظيم الهجرة، وتحقيق الأمن الغذائي، ومحاربة التطرف، وإدارة الصراع والتهجير.

ومن غير المحتمل أن يتحقق هذا السيناريو الأفضل بالنسبة للبحر الأحمر حتى تنضج عدة عمليات أخرى؛ حيث تحتاج الدول في القرن الأفريقي إلى تعزيز الإصلاحات المحلية والتكامل الإقليمي، بحيث يمكنها التعبير عن المصالح المشتركة والتفاوض مع الشركاء الخليجيين على قدم المساواة بشكل أكبر. ويحتاج خصوم الشرق الأوسط في النهاية إلى حل الأزمة العربية الخليجية، أو على الأقل تخفيف حدة التصعيد. وتحتاج الولايات المتحدة والصين إلى تجنب الصدام حول التوترات الحالية وتحقيق نوع من التوازن في المنطقة. لكن أيا من هذه الاحتمالات لا يزال بعيد المنال. وبدون إحراز أي تقدم على كل جبهة، فسوف تظل منطقة البحر الأحمر، التي تزداد عسكرة وازدحاما، ساحة محتملة لمعركة خطيرة.

 

المصدر | زاتش فيرتن - فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية

البحر الأحمر القرن الأفريقي ميناء عصب أسياس أفورقي الإمارات تركيا إثيوبيا الصومال جيبوتي إرتيريا