دلالات التطبيع العربي مع نظام الأسد

الثلاثاء 22 يناير 2019 05:01 ص

بذل بعض القادة العرب مؤخرا جهودا لإظهار حسن النية تجاه النظام السوري، عبر إعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع دمشق. ويعد هذا أمرا متناقضا، لأن العديد منهم كانوا قد اتخذوا موقفا صارما من قبل ضد نظام "الأسد" وجرائمه ضد الشعب السوري منذ بدء الثورة السورية عام 2011 حتى أن بعضهم دعم المعارضة السورية سياسيا وعسكريا.

واليوم، بعد أن نجح الرئيس السوري "بشار الأسد" في استعادة السلطة على معظم المناطق السورية التي كانت في السابق تحت سيطرة المعارضة المسلحة السورية، وخاصة في حلب والغوطة الشرقية والقلمون، وغيرها من المناطق، فإنه يشعر أنه استعاد شرعيته عسكريا، ويجب عليه بالتالي العمل على استعادتها سياسيا. ولن يتمكن "الأسد" من تحقيق هدفه إلا من خلال التعاون العربي؛ لأنه من المستحيل، على الأقل في الوقت الحالي، تحقيق ذلك فقط بدعم غربي، سواء كان أوروبيا أم أمريكيا.

دور الجامعة العربية

عبر تاريخها، علقت جامعة الدول العربية عضوية عدد من الدول العربية. وكانت أكثر الحالات شهرة في هذا السياق تعليق عضوية مصر بعد إبرام معاهدة السلام مع (إسرائيل) عام 1979. وبالتالي، فإن تعليق عضوية سوريا، في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، لم يكن شيئا جديدا، وخاصة بعد القيام بنفس الشيء مع ليبيا في بداية الربيع العربي في 22 فبراير/شباط 2011. ويستند تعليق عضوية كل من سوريا وليبيا إلى العنف الشديد الذي ارتكبه نظاما الدولتين ضد شعوبهما بعد المظاهرات السلمية عام 2011، والتي طالبت بتطبيق إصلاحات سياسية جذرية على النظام السياسي، بما في ذلك الحق في تغيير وانتخاب الرئيس.

وفي عام 2011، كان مجلس التعاون الخليجي متماسكا ومستقرا سياسيا ولديه الموارد المالية اللازمة للتأثير على اتجاهات جامعة الدول العربية وقراراتها. وبناء على ذلك، نجح المجلس في تعليق عضوية النظامين السوري والليبي. وبعد أن فرضت السعودية والإمارات والبحرين حصارا على قطر، في يونيو/حزيران 2017، تفكك المجلس، وانهار نظامه الأمني. وبدأت دول الخليج بتشكيل تحالفات قائمة على مصالحها الخاصة دون اعتبار لمفهوم الأمن الجماعي الضروري للتحالف. وبالتالي، ليس من المستغرب أن الموقف المشترك الذي توصلت إليه دول المجلس، فيما يتعلق بنظام "الأسد"، قد انهار.

وبعد انقلاب 30 يونيو/حزيران 2013 في مصر، لعبت السعودية والإمارات والبحرين دورا رئيسيا في دعم الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" سياسيا وماليا. ومع ذلك، اختلفت قطر مع هذا الموقف. ودعمت الرئيس السابق "محمد مرسي" بعد انتخابه عام 2012، وقدمت المساعدة لحكومته. واعتبرت السعودية والإمارات أن محاربة جماعة "الإخوان المسلمون" تعد إحدى أهم ركائز سياستهما الخارجية، لذا أدرجاها في قوائمهما للمنظمات الإرهابية. وظلت الإمارات حذرة بشأن تصوير الحرب في سوريا على أنها مواجهة بين إرهابيين متطرفين ونظام سياسي شرعي، وهو ما تدعيه روسيا. وقد لعب التدخل العسكري الروسي، في سبتمبر/أيلول 2015، دورا حاسما في انتصار "الأسد" على المعارضة، ومع ذلك، كان لهذا النصر ثمن باهظ، حيث أودى بحياة مئات الآلاف، ودفع ملايين السوريين إلى النزوح داخليا واللجوء خارجيا، ودمر البنية التحتية للبلاد، بما في ذلك المستشفيات والمباني المدرسية والممتلكات الخاصة.

تزامنا مع ذلك بدا وكأن محورا عربيا جديدا قد تم تشكيله عام 2015 بناءً على موقف الدول العربية من ثورات الربيع العربي، حيث اعتبرت معظم الأنظمة العربية الثورات مجرد مؤامرات تهدف إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة وتهديدها، بدلا من كونها فرصة لتعزيز شرعية الدول العربية وفرصة لضخ دم جديد في مؤسساتها السياسية المتحجرة. وكان من الطبيعي أن العديد من الأنظمة العربية، ومن بينها الجزائر والعراق ولبنان، حافظت على علاقاتها مع "الأسد"، حتى خلال أعوام الحرب، وكذلك في أسوأ لحظات مذابحه حين استخدم الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري. حتى أن العراق دعمت نظام "الأسد" لأسباب طائفية، تحت ضغط من إيران، وزودته بالأسلحة والمليشيات التي ساعدت النظام على استعادة السيطرة في المناطق التي كان فيها نقص في مقاتلي النظام الموالين لسوريا.

وكانت دول أخرى تنتظر الفرصة لإعلان التغيير الكامل في مواقفها السياسية على أساس التحفظات القديمة ضد ثورات الربيع العربي. وهذا ما يفسر الزيارة المفاجئة للرئيس السوداني "عمر البشير" إلى سوريا، ولقائه بـ "الأسد"، فضلا عن إعلان موريتانيا عن زيارة وشيكة لدمشق من جانب رئيسها "محمد ولد عبدالعزيز" (تم تأجيل الزيارة لاحقا). كما يظهر ذلك في القرار الذي اتخذته الإمارات والبحرين بفتح سفارتيهما في دمشق، وزيارة "علي مملوك"، رئيس المخابرات السورية المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى القاهرة لعقد اجتماعات مع مسؤولي الأمن المصريين.

وتكشف كل هذه التطورات أن المحور الذي كان معارضا للربيع العربي قد اتخذ خطوة لجلب "بشار الأسد" مرة أخرى إلى الحظيرة العربية الرسمية، بعد التغلب على التردد بسبب الرأي العام العربي، الذي غضب بشدة من المجازر التي ارتكبها "الأسد" ضد الشعب السوري. وقد أثارت التغطية المباشرة لوحشية النظام السوري غضبا واسع النطاق جعل من الصعب إعفاء "الأسد" أو إصلاح صورته في عيون العرب. وفي الواقع، أدان الرأي العام العربي "الأسد"، على الرغم من غياب أي محكمة إقليمية عربية، وعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمته وإدانته.

كيف، إذن، نفهم محاولات هذه الدول العربية لإعادة تأهيل العلاقات مع "الأسد"؟

انهيار المساءلة

تعد جامعة الدول العربية واحدة من أقدم المنظمات الإقليمية. وقد تم إنشاؤها عام 1945، قبل تأسيس الأمم المتحدة نفسها. ومع ذلك، تعد حالة تطورها السياسي، وتطورها كنظام أمني وإقليمي، ضعيفة مقارنة بالمنظمات الإقليمية المماثلة في جميع أنحاء العالم. ويعد نظام المساءلة والعدالة في الجامعة، كمؤشر على تطور مبدأ سيادة القانون في المنطقة، نظاما متخلفا ومتصلّبا.

وكان النظام الأوروبي لحقوق الإنسان الأسرع نموا وتطورا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تأسست منظمة الدول الأمريكية بعد عام 1948 مباشرة، وتمكنت من إنشاء محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان. وكان آخر المنظمات هو الاتحاد الأفريقي، الذي شكل عام 2008 محكمة خاصة في إطار النظام الأفريقي لحقوق الإنسان تحت اسم المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب. وقد تمكنت هذه المحكمة، على سبيل المثال، من محاكمة الرئيس السابق لـ "تشاد"، "حسين حبري"، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وممارسة التعذيب.

واستمر النظام القانوني العربي في تأكيد الدور المهيمن الذي تمارسه الحكومات العربية فوق القانون، حيث لا استقلال للسلطة القضائية، وحيث تخضع المؤسسات القانونية تماما للسلطة التنفيذية، التي توظف مؤسسات تطبيق القانون لأغراض سياسية. وحتى مصر، التي شهدت فترات من التطوير المستقل لحكم القانون، شهدت تدهورا في نظامها القانوني إلى مستوى ينذر بالخطر بعد تولي "السيسي" السلطة عام 2013، وأصبحت السلطة القضائية أداة لقمع ومعارضة الخصوم السياسيين.

ولهذا كان من المستحيل صياغة موقف قانوني يستند إلى محاسبة نظام "الأسد"، بسبب غياب البنية القانونية الضرورية. ومن هنا بدأت الدول العربية تتعامل مع "الأسد" كمنتصر عسكري، وفقا لمبادئ السياسة الواقعية، رغم أن هذا النهج سيؤدي بوضوح إلى انهيار كامل لقيم سيادة القانون والمساءلة ودورها في الحياة السياسية العربية. ونتيجة لذلك، بدأت العديد من الدول العربية تنظر في إعادة علاقاتها مع نظام "الأسد" وفقا لمبدأ الاعتبارات السياسية الواقعية والرد على الضغوط التي تمارسها روسيا، والتي ترى واحدة من مهامها السياسية اليوم إعادة تأهيل صورة وعلاقات نظام "الأسد". وقد عجل قرار الانسحاب الأمريكي الكامل من سوريا تلك الخطوة، حيث لم تنسحب الولايات المتحدة فقط من التعامل مع الصراع السوري، ولكن أيضا من الأراضي السورية، كما أعلن الرئيس "دونالد ترامب" في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وبالتالي يمكن القول إن إعادة تأهيل العلاقات مع نظام "الأسد" تعد النتيجة الطبيعية لانهيار نظام العدالة في العالم العربي. ولا يزال يُنظر إلى العدالة على أنها منظور أخلاقي اختياري، وليس شرطا أساسيا لكرامة الشعوب العربية وحقها في إقامة العدل والمساواة وسيادة القانون. وعندما تدعو بعض الأصوات إلى فصل الأخلاق عن السياسة، فإنها تجرد السياسة من وظيفتها الأساسية، ألا وهي خدمة الجمهور ومصالحه. لذا، يجب أن ننظر إلى عودة "الأسد" إلى الحظيرة العربية كمؤشر على أن النظام العربي غير قادر على استعادة معنى القيم في الحياة العامة، وقبل كل شيء، مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

الدور الروسي

ومع انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، تملأ روسيا الفراغ الناتج. وليس هذا فقط بسبب الأهمية القصوى للمنطقة، ولكن أيضا لأن العلاقات بين الدول داخل النظام الإقليمي العربي فشلت في التطور. ويعتمد بناء هذا النظام على العلاقات مع الجهات الدولية الفاعلة، بدلا من تطوير العلاقات مع الدول العربية المجاورة أو الدول الأعضاء في النظام العربي. ولذا فقد استغلت روسيا الأزمة السورية لتوطيد دورها في العالم العربي، واعتبرت إعادة تأهيل نظام "الأسد" أحد أهدافها السياسية، خاصة وأن موسكو أقرب إلى المحور المعادي لثورات الربيع العربي.

واقد عتبرت موسكو هذه الثورات بمثابة نافذة للتقارب في العلاقات العربية الغربية، حيث من المحتمل أن تتعزز هذه العلاقات بانتشار الديمقراطية والتعددية في العالم العربي. وهذا، بدوره، يتناقض مع أهداف روسيا القديمة في تقوية ودعم الأنظمة الاستبدادية في العالم. وجاء ذلك متزامنا مع تخلي الولايات المتحدة عن دورها في دعم قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان أثناء ولاية الرئيس "ترامب".

وتتنافس الحكومات التي تسعى إلى توثيق العلاقات مع روسيا، مثل تلك الموجودة في السودان وموريتانيا، مع "الأسد" للحصول على الإحسان الروسي. وتطمح السودان للحصول على الحماية الروسية في مجلس الأمن الدولي ضد أي إدانة محتملة، لاسيما مع وضع "البشير" كمطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وقد تسعى هذه الدول أيضا إلى الحصول على المزيد من المساعدات الروسية، بعد أن فشلت في تطوير اقتصاد منتج، حيث تصبح يوما بعد يوم معتمدة كليا على المنح والمساعدات الدولية.

وفي النهاية، كان من المتوقع عودة "الأسد" إلى الحظيرة العربية، بسبب الهشاشة المتأصلة في النظام الإقليمي العربي، ودور روسيا المتزايد. لذا، يجب على أولئك الذين دعموا ثورات الربيع العربي وأهدافها الديمقراطية أن يركزوا على بناء جسور إقليمية تعيد التوازن إلى قيم الكرامة والحرية وحقوق الإنسان.

  كلمات مفتاحية

نظام الأسد الحرب السورية جامعة الدول العربية العلاقات مع نظام الأسد الإمارات السعودية

تونس: مكان سوريا الطبيعي داخل الجامعة العربية