غربة الياسمين.. سبيل المهاجرين العرب بين الذوبان والانعزال

الأحد 27 يناير 2019 09:01 ص

أبوها.. تخلى عن اسمه واسم عائلته، وعاقر شرب الخمر وخادن فتيات من عمرها بعدما هجر زوجته الفرنسية وأخويها الصغيرين اللذين لا تربطهما بها أخوة حقيقية؛ أما صديقها الذي يتشبث بدينه فقد تقوقع منعزلا عن محيطه، فلم يجد المجتمع غضاضة في أن يتهمه بالإرهاب بعد حادث انفجار.

ما بين مخاوف ذوبان الهوية، أو العزلة والتقوقع، شقت الكاتبة التونسية "خولة حمدي" روايتها الثانية، "غربة الياسمين"، طريقها لتتناول نماذج للمهاجرين العرب كبارا وصغارا في فرنسا، تروي من خلالها كيف تغيرت حيواتهم كثيرا عندما عبروا المتوسط من جنوبه إلى شماله.

ما بين "ياسمين عبدالقادر" و"رنيم شاكر" تمضي الروائية بين نموذجين مختلفين، تحكي قصة الاندماج الصعب.

الاندماج الصعب

الأولى تونسية تمسكت بحجابها، رغم أنها عندما غادرت أمها لتحل في بيت أبيها في ليون.. وجدت أبا يحمل اسما آخر، ويزور زوجته وإخوتها لأبيها عابرا.. لكنها اختارت أن تتشبث بهويتها وحجابها، وأن تواجه رفض المجتمع لآخر مدى.

أما "رنيم"، المحامية المصرية البارعة، فهي التي انغمست في المجتمع الغربي حتى أذنيها، ثم لم يقبلها المجتمع، رغم أنها أكثر العربيات تحررا في الملبس والعادات.. فقط لأنها لا تزال تأبى إقامة العلاقات خارج إطار الزواج؛ حتى ولو كان الزواج من زميلها الفرنسي غير المسلم، فالفتاة التي تربت في عائلة مفككة لم تكن تعرف أصلا أن دينها يحرم زواجها به.

هكذا تتقابل الفتاتان مصادفة، "ياسمين" يائسة من رفض المجتمع لحجابها، و"رنيم" محطمة من رفض زميلها الزواج بها بعدما تبرعت له بإحدى كليتيها ليعيش بها، لكنه رأى أنها ليست متحررة كفاية لأنها رفضت إقامة علاقة معه قبل الزواج.

العزلة الباردة

"ياسمين" تقابل - عرضا - المهندس المسلم "عمر"، العبقري الذي يعمل على نظرية جديدة اسمها "الاندماج البارد"، ورغم أن نظريتها تحمل اسم "الاندماج" فإن "عمر" اختار - للمفارقة - العزلة عن المجتمع، وقاطع حفلات أصدقائه ودعواتهم وعاش بينهم غريبا.

وبعد حادث انفجار مدبر في المختبر.. تتوجه جميع الاتهامات بسهولة نحو "عمر" المتقوقع الغامض، ليمضي في طريق محاكمات طويلة، وقائمة معروفة من اتهامات الإرهاب وغيرها.

"رنيم" تصبح محامية "عمر"، ويبدأ العنيدان في تغيير أفكار بعضهما، لتصبح هي أكثر محافظة على دينها ومبادئها، ويصبح هو أكثر انفتاحا وتقبلا للآخر.

وما بين الشخوص الأساسية في الرواية، تمر نماذج أخرى كثيرة للمهاجرين العرب.. مثلا "إبراهيم الشاوي" ابن الجزائر المدرس ذو النسب العريق الذي تردت أحواله بعدما هاجر بشكل غير شرعي حتى يصل إلى حد السرقة.

أيضا "هيثم" ابن خالة "ياسمين" (زهور) وأحد أبناء الجيل الثاني من المهاجرين يقف حائرا بين الاندماج المفقود الصعب، والذوبان.. الهوية أم المجتمع.

والد ياسمين نفسه "كمال عبدالقادر" أو "سامي كلود" (بعدما أصبح اسمه فرنسيا)، الذي اختار الذوبان الكامل، يكتشف أن زوجته الفرنسية التي طلق من أجلها أم "ياسمين" (التونسية) لم تعد بجمالها عند الشباب، وينغمس في علاقة جديدة مع طالبة عنده في الجامعة روسية الجنسية.. ويجد نفسه في حيرة صعبة عندما يلاحظ أنها من عمر ابنته "ياسمين".

الغرب أيضا يتغير

وبين أحداث الرواية، لا يتغير المهاجرون وحدهم، وإنما أيضا تتغير آراء الفرنسيين، فالمحامي الفرنسي الأشهر "ميشال روسو"، صديق "رنيم"، الذي رفض الزواج يجد نفسه غير قادر على الحياة بدونها، ويسافر طلبا ليدها أخيرا موافقا على كل شروطها.. لكنها ترفض، لأن أحلامها لم تعد كما كانت يوم أن سقطت على شفا الموت إثر رفضه الزواج منها، يعرض عليها أن يعلن إسلامه ليتزوجا.. أن يفعل أي شيء.. لكنها تتركه خلفها.

فـ"بعض الأحلام نتمناها وننتظرها بترقب ونفاذ صبر، وحين تصبح منا قاب قوسين أو أدنى ندفعها بلا ندم، لأننا ارتفعنا بأحلامنا درجةً ورفعنا هممنا درجات، فما عادت أحلام الماضي تكفينا وترضينا".

"إيلين" زوجة "سامي كلود" تدرك فجأة أن "ياسمين" التي لم تتخل عن هويتها ومبادئها، خير من أبيها الذي ترك ماضيه كله، وسعدت هي بذلك حينها ظنا منها أنه فعل ذلك من أجلها، لكنها تدرك أن من مسح مبادئه مرة، قد يمحوه مجددا.

أيضا "باتريك" شقيق "إيلين" الذي قرر الانتقام لأخته من "سامي كلود" في شخص ابنته "ياسمين عبدالقادر" يقف مدهوشا عندما أنقذت الفتاة المغضوب عليها شقيقته عندما حاولت الانتحار.

النهاية المفتوحة

تختار "خولة" أن تترك روايتها بنهاية مفتوحة، فأصحاب الذوبان لم يجدوا مبتغاهم أخيرا رغم أنهم تنازلوا عن كل شيء، وقفوا حائرين متسائلين عما إذا كانت هذه هي الحياة التي أرادوها فعلا، كذلك أبناء العزلة سقطوا في الاختبار.

يبقى الحل الذي يتلمسه القارئ بين سطور الرواية إذن في الخيار الأصعب، "الاندماج"، لكنه لن يكون اندماجا سهلا وسريعا، بل سيمر عبر أعوام وربما عقود من تعرف كل جانب على الآخر والتخلي عن الهواجس المريضة، سيكون "اندماجا باردا" كذلك الذي كان يعمل عليه الدكتور "عمر".

ستترك "خولة" قراءها بينما "عمر" أدين بـ20 عاما سجنا، لكن فرصه في النقض كبير بعدما ظهرت دلائل جديدة على براءته، وفي ظل إصرار "رنيم" على مواصلة المعركة القضائية، و"هيثم" تقدم لخطبة "ياسمين"، بينما تظل النهايات مفتوحة متروكة لخيال القارئ.

وبينما تتذكر "ياسمين" وصية أمها بأن "زهرة الياسمين تذبل بسرعة حين تغادر تربتها وتنسق في شكل مشموم جميل".. تبدو وكأنها في طريقها لأن تمد جذورا في تربة جديدة وتبني عائلة تضرب في التربة الفرنسية محافظة على هويتها كي لا تذبل.

الجميع يتغير.. حتى الرواية

تتخلى "خولة" في روايتها "غربة الياسمين" الصادرة عن دار كيان في نحو 400 صفحة، عن كثير من النقاشات الفلسفية التي ذخرت بها روايتها الأولى "في قلبي أنثى عبرية"، وإن كانت لا تزال متأثرة ببعضها، لكنها صاغت كثيرا منها في حوارات تناسب القالب الروائي.

كما تتميز الكاتبة في روايتها الثانية بأنها تجاوزت بعضا مما اعتبره ناقدون "سذاجة روائية" في روايتها الأولى، وأظهرت عيوب الشخصيات وقصورها، حتى عند أبطالها الذين يظهرون كما لو كانوا كاملين.

فمثلا "ياسمين" الصلبة المتمسكة بحجابها.. تبكي في حيرة عند مواقف صغيرة في الحياة لتعطل اشتركها بالحافلات وتعرضها للعنصرية.. وتنقذها "رنيم" المتحررة الأكثر معرفة بالقوانين والمجتمع.

هكذا ترسم الكاتبة الشخصيات ليس بقوتها وصلابتها فقط، بل بضعفها أيضا وقصورها.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

غربة الياسمين خولة حمدي ياسمين عبدالقادر رنيم شاكر سامي كلود كمال عبدالقادر في قلبي أنثى عبرية