صفارات الإنذار في تل أبيب

الخميس 17 يوليو 2014 07:07 ص

يوفال أبيبي - المونيتور - 13 يوليو/تموز 2014

أخبرني صديق لي كان في نيويورك أثناء أحداث 11 سبتمبر أنّ المرء يشعر كيف فقدت المدينة روحها في الأيام والأسابيع التي تلت الهجمات. وإنّ ما يحصل اليوم في تل أبيب لا يكاد يكون مأساويًا مقارنة بذلك الهجوم، لكنّ الشوارع تبعث على شعور مظلم وكئيب، ما يفسد شيئاً فشيئاً الروح الخاصة بتل أبيب ويطغى عليها في النهاية. تتخبّط هذه المدينة في نوبة قلق. كلا، هي لم تتوقف عن العمل، لكنّ أعصابها على وشك الانهيار.

عندما أُطلِقت أوّل الصواريخ على تل أبيب في 8 تموز/يوليو، كان لا يزال يبدو وكأنّ المدينة تمكّنت من المحافظة على ثقتها بنفسها التهكمية التي حمتها من الواقع القاسي في الشرق الأوسط. لم تكن الهجمات الصاروخية غريبة على تل أبيب، فلقد تعرّضت هذه الأخيرة لقصف أثناء عملية عمود الدفاع في العام 2012، وفي ذلك الوقت، سخرت من الهجمات مع ثقة بالنفس لا يملكها إلا قليل من الناس. لم يكن ذلك أمرًا سيئًا كذلك، فالقدرة التي يملكها سكان تل أبيب على مواصلة الاستمتاع بحياتهم، حتى في وقت الأزمات، هي من أكثر المظاهر الساحرة للحياة هناك، في ما يدعوه كثيرون "المدينة الحقيقية الوحيدة في إسرائيل."

امتلأ الرصيف بالكراسي خارج إحدى الحانات الشعبية القديمة، مقابل شاشة تلفاز ضخمة. كان العشرات قد تجمّعوا لمشاهدة الهجوم الألماني على البرازيل في مباراة كرة القدم، وفي المرة الأولى التي تجاوزت فيها الطابة حارس المرمى البرازيلي – الهدف الأول من بين سبعة أهداف – أمكن سماع دوي انفجارين في سماء المدينة، وبالكاد كان ذلك كافيًا لوقف هتافات الذين جلسوا هناك. عندئذ، نظر بعض الأشخاص من حولهم، متسائلين عما جرى للتو، لكن لم يخطر لأي منهم قطّ أن يغادر مقعده أو يضع كوبه من يده للتوجّه إلى مكان آمن مثل ملجأ عام. وقالت إحدى النساء الجالسات "ما يحدث هنا أشبه بالحلم"، وأتى هذا التعليق كردة الفعل الأكثر دراماتيكية على الاعتداءات، وكأنّ كل شيء تلاشى أمام هذا المثال النادر من البراعة في كرة القدم.

يمكن أن يزعم رئيس بلدية تل أبيب رون حولدائي أنّ سكان مدينته يأخذون ما يجري بدرجة من رباطة الجأش، ويمكن أن تواصل الصحف ما تزعمه بأنّ الناس الذين ما زالوا يعيشون حياة جميلة في تل أبيب يشكلون "سورًا واقيًا" للمدينة. لكن في وقت ما بين الثلاثاء الماضي ونهاية هذا الأسبوع، انهارت القدرة الظاهرية على الاستمتاع التي كانت تظهرها تل أبيب، فالصدمة تتسلل إلى الجزء المطمئن من وعي الناس. تل أبيب ليست مدينة سديروت الجنوبية، وهي بالتأكيد ليست غزة. بالكاد يشكّل الناس الذين يعيشون هنا الضحايا الرئيسيين للحملة الحالية، لكن المثابرة الشديدة عينها، بالإضافة إلى الرضا الذاتي، والسخرية من الذات بروح النكتة، والتمسك القوي بالحياة قد اهتزت جميعها أكثر من أي وقت منذ قدمت إلى هذه المدينة منذ 10 سنوات.

وفي ليلة 12 تموز/يوليو، أعلنت حركة حماس أنها ستطلق وابلاً من الصواريخ على تل أبيب في التاسعة مساء بالتحديد. وسرعان ما غصّ موقع الفيسبوك بجميع أنواع النكات والتعليقات المضحكة. لكن عندما حانت التاسعة مساء، حبست المدينة كلها أنفاسها. إنّ الإعلان قد نجح، إذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية النفسية، ففي تلك اللحظة كانت تل أبيب على وشك التعرض لانهيار عصبي. ووفق ما قاله الناس الذين توجّهوا إلى الملجأ، فإنّ الصواريخ التي حلّقت بالفعل في سماء المدينة، ليتم إسقاطها في ما بعد، لم يكن لها أبدًا الأثر المتوقّع.

وإنّ سكان تل أبيب الذين شهدوا عمليتي عمود الدفاع والجرف الصامد لا يزالون أبناء أهاليهم، الأشخاص الذين صعدوا إلى السطوح في تل أبيب أثناء حرب الخليج الأولى في العام 1991 لمشاهدة صواريخ سكود العراقية تسقط على مدينتهم. يشعر شباب اليوم (وأنا من بينهم) أنهم مضطرون لإظهار المرونة عينها، فهم سيحرصون على الذهاب إلى البحر نهار الجمعة والاستمتاع بكأس بعد ظهر السبت، وسيظهرون استخفافًا جريئًا بالأوامر والتعليمات الصادرة عن قيادة الجبهة الداخلية، ففي النهاية لديهم سمعة لا بد من الحفاظ عليها.

في العام 2012، وفي خضم عملية عمود الدفاع، أصدر بعض من أصحاب روح الدعابة المبتكرين في تل أبيب فيديو كليب طريف حول الأمور السخيفة التي "يقولها التل أبيبيون أثناء الهجمات." وإذ تعاني المدينة أضرارًا مادية بسيطة، وبعد أن سمح نظام القبة الحديدية للدفاع الجوي بأن يتابع السكان حياتهم الطبيعية تحت الصواريخ، تحاول تل أبيب أن تكسب التحدي الغريب الذي تواجهه: تسيير حياة المدينة الكبيرة الممتعة تحت وطأة حرب فعلية.

لكنّ روح المدينة لا تقاس عبر الضرر المادي الذي أصابها فحسب، وأي دليل على ضرر لحق بهذه المدينة يبقى ضئيلاً جدًا في الواقع. لكنّ الشوارع ليست بالازدحام المعهود، ولم يعد الأشخاص يتابعون القيادة عند انطلاق صفارة الإنذار؛ بل أصبحوا يوقفون سياراتهم ويتمددون إلى جانب الطريق. أما شاشات التلفاز الكبيرة، التي لم يبق متجر تقريبًا إلا وعلقها على جدرانه بمناسبة كأس العالم، فباتت تُستَعمل لمشاهدة النشرات الإخبارية بشكل جماعي. هذا أشبه بحلم. أصبحت مجموعات التل أبيبيين تجلس في الأكشاك تتناول بذور دوار الشمس أثناء مشاهدة القصف على القنوات عالية الدقة.

وهناك أيضًا ما هو أعمق من ذلك بكثير، وقد لمست ذلك في صباح أحد الأيام عندما دفعتني صفارة إنذار للتوجه إلى الملجأ (أعذروا العبارة المبتذلة المحرجة، لكن مع فنجان إسبريسو في يدي). كنت أطلق النكات حول الموضوع كتل أبيبي حقيقي، لأجد جيرانًا في الملجأ لم يمتعهم الأمر بتاتًا، فقد كانوا مذعورين، وأمكنني رؤية ذلك في أعينهم، وأمكن رؤية ذلك أيضًا عندما لازموا الملجأ لوقت طويل بعد الانفجار الأخير. لا يزال بالإمكان رؤية ذلك الآن أيضًا خارج الملاجئ، فجوّ المدينة بأسره قد تغيّر. أخبرتنا صديقة مقرّبة التقينا بها في المنتزه أنّ فور وصولها إلى هناك سألها ابنها: "ماذا نفعل إذا انطلقت صفارة الإنذار؟ أين أقرب مكان يمكن الاحتماء فيه؟" إنّ المبنى الخاص بنا قريب من منتزه عام شعبي جدًا، وكلما انطلقت صفارة الإنذار، بات الأهالي يهرعون إلى ملجئنا، يحملون طفلاً في كل يد، وهم يعانون حالة هستيرية، تاركين جميعهم الحقائب وعربات الأطفال خلفهم.

 يشكّل الأطفال جزءًا مهمًا من الموضوع، ففي حين ترتبط الحالة الهستيرية الحالية من دون شك ارتباطًا وثيقًا بالوتيرة النسبية للهجمات الصاروخية على تل أبيب مقارنة مع الأحداث الفردية أثناء عملية عمود الدفاع، يبقى للقصة شق أعمق. يتزايد عدد الأطفال في تل أبيب بصورة ثابتة. ففي ما مضى، كان من الشائع لثنائي شاب ينتظر طفلاً أن يبدأ بالبحث عن منزل في الريف. لكن اليوم، يتزايد عدد العائلات الشابة التي تقرّر البقاء في المدينة. في العام 2012، بلغ عدد الأطفال في تل أبيب 14,000 طفل تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات، مقارنة مع 11,500 طفل في العام 2011، وقد ازداد عددهم في السنتين التاليتين. من السهل جدًا أن تبتسم باستخفاف أو حتى أن تتحمس عند سماع دوي انفجار فوقك عندما تكون أعزبًا في الخامسة والعشرين من العمر. لكن إذا كنت في منطقة مكشوفة مع طفلين صغيرين عند انطلاق صفارة الإنذار، لا بد من أن يتحول الغرور اللامبالي إلى قلق. واليوم في تل أبيب، يشعر أكثر فأكثر من الأشخاص في الثلاثينات ونيف بهذا القلق، وآخر ما قد يكترثون له هو إثبات مدى قوتهم؛ وهم الذين يعيدون تشكيل وجه المدينة.

ومن هذه الناحية، تختلف تل أبيب عن المدن الأخرى الواقعة على الحدود الإسرائيلية الجديدة: مدن رحوفوت ونيس زيونا، وجديرا، ويبنة والمنطقة المجاورة. لم يفترض أحد يومًا أنّ الأشخاص الذين يعيشون في هذه المدن منغمسون في الملذات كما في تل أبيب، وعندما سقطت الصواريخ عليها في عملية عمود الدفاع، لم يقل أحد "أنتم تستحقون ذلك" كما قال عدد ليس بقليل عن تل أبيب. وهم لم يضطروا لأن يعيشوا في هذه الحالة الانتقالية الغريبة، مدركين أنّ مدينتهم هي عاصمة إسرائيل الثقافية والترفيهية (حتى الآن، لم تتوقف المطاعم والحانات والملاهي فيها لحظة عن العمل) مع أنها تتعرض لهجوم.

لكنّ اختلاف المزاج بين تل أبيب ومحيطها يتقلّص شيئًا فشيئًا، فحتى الطريقة التي يتكلّم بها الناس في تل أبيب قد تغيّرت. فبالإضافة إلى شعورهم المتزايد بأنهم ضحايا، يمكن أن تسمع عددًا متزايدًا من الأشخاص في هذه المدينة المتحررة يعرب عن فهمه لسبب هجوم جيش الدفاع الإسرائيلي على غزة بهذه الطريقة. في المقابل، يعلو أيضًا عدد أقل من الأصوات المعارضة لهذا الهجوم. وللمرة الأولى منذ الهجمات الإرهابية المروعة أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، يبدو وكأنّ سكان تل أبيب قد توحّدوا مجددًا مع الإسرائيليين.

 

  كلمات مفتاحية

انفجار عنيف يهز تل أبيب ودوي لصافرات الإنذار (فيديو)‏