استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

ناصر الظفيري: الغائب الذي لن يعود!

السبت 6 أبريل 2019 10:04 ص

ناصر الظفيري: الغائب الذي لن يعود!

لعله يأتي اليوم الذي سيتذكر الغرب والشرق تجربة المنفى والاقتلاع والبينية عند الراحل ناصر الظفيري.

"الكويت أحببتها ولم أتزوجها وكندا أحبتني وتزوجتها.. أحب الكويت أكثر من كندا وتحبني كندا أكثر من الكويتّ! هذا تعريفي للجحيم".

كان ناصر حنظلة البدون.. هامشي أسس خطابه السردي على إشكالية الاقتلاع.. يعاني صدمة مفجعة قادته إلى منفى حقيقي، إلى كندا، بحثا عن جواز سفر ومستقبل أكثر أمانا لصغاره!

*     *     *

عند فقد أي أديب وكاتب مهم يشعر الفرد كأن نجمة من السماء سقطت، أو قطعة أدبية تشكل خريطة الثقافة والأدب في الكويت فقدت. الأدباء الحقيقيون ثروة للمجتمعات الإنسانية، تفقدها كافة شرائح المجتمع وليس فئة واحدة من المجتمع.

لم يكن الأديب الراحل ناصر الظفيري هو فقيد الكويت وحسب، بل هو فقيد الأدب العربي كله، عندما سمعنا بخبر وفاته الذي انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، لم يتأثر بفقده، أبناء شريحته البدون، ولم يكن فقيد الأدباء في الكويت، بل نعاه جميع المثقفين والكتاب العرب. ما أريد قوله باختصار شديد، إن ناصر الظفيري فقيد الأمة العربية بشكل عام، ولم تكن الهوية والثبوتيات إلا إجراءات لتسهيل مسارات الحياة.

لكن، خيرا فعلت أقدار الحياة مع ناصر الظفيري ما فعلت، لأنها صهرت لنا تجربته الإنسانية، وأخرجت أديبا محترقا بأسئلة الهوية والوجود والانتماء، لينسج لنا في قصص وروايات ومقالات متنوعة تسائل الوجود وتتأمل إشكاليات الحياة معاناة المنفيين البدون، الذين كانوا بسبب خطأ اعتباطي يقعون في دائرة المنفى والاقتلاع، والحرمان من الحقوق الإنسانية الأساسية.

نعم، لقد كان ناصر الظفيري حنظلة البدون، والهامشي الذي أسس خطابه السردي بناء على هذه الإشكالية، كان يعاني من الصدمة، الصدمة المفجعة التي قادته إلى المنفى الحقيقي، إلى كندا، ليبحث عن جواز سفر، ومستقبل أكثر أمانا لصغاره.

نعم لقد كان هناك، يعاني من البينية والاقتلاع والحرمان، ولكن، هل كان بالفعل يعيش هذه الهجنة الحادة التي عانى منها كل أبطال المنفى، الذين خرجوا منها كتجربة خصبة شحذت مخيلتهم بالكثير من الرؤى والمفاهيم المتجددة التي جاءت من الصدمة الحضارية في غرب متجدد وهجين، يقبل كل الاختلافات الإنسانية ويتبناها، بشكل رسمي؟

لا اعتقد أن ناصر الظفيري كان بينيا، نعم كان غريبا ولكنه كان منتميا إلى الكويت والوطن العربي بشكل لا مراء فيه، ناصر الذي كان يطل علينا كل يوم أحد في مقالته الأسبوعية، يتحدث فيها عن أديب ما، كويتي أو عربي.

ناصر الذي يتحسس الأصوات الجديدة باستبشار كبير، ويتعقب الظواهر الإبداعية العربية باهتمام كبير، ينصح ويوجه ويتابع بشغف مستجدات الثقافة في الوطن العربي: من جوائز وفعاليات رائعة ونادرة، ومنتديات..

هل نعتبره بينيا؟ وهو الذي كان يقول بحرقة شديدة: «الكويت أحببتها ولم أتزوجها وكندا أحبتني وتزوجتها، أحب الكويت أكثر من كندا وتحبني كندا أكثر من الكويتّ! هذا تعريفي للجحيم».

نعم لقد كان يعيش في بلد، ولكن روحه وفكره وانشغالاته في بلد، كان كويتيا حتى النخاع، كتب عن المنتمي الذي حولته الوثائق الرسمية إلى اللامنتمي، المنتمي الذي لا يختلف لا في لغته ولا عروبته ولا ميوله وكتابته عن أي مثقف آخر منتم، لذلك أنا أراه ذلك المنتمي الذي ابتلي بالاقتلاع، ومن هنا تتفجر أزمته ككاتب كان انعكاسا حقيقيا للصدمة.

لقد عبر في كل أعماله عن «عصاب الصدمة»، التي تكررت في عدد من أعماله، مثل: ثلاثيـــته الشهــــيرة ثلاثية الجهراء: رواية «الصهد»، و «كاليسكا»، و«المسطر»، عبر فيهـــا عن فكرة الاقتلاع والرحيل بشكل ملح مثلما يبين أنور قصيباتي في دراسة عن الأديب السوري عبدالسلام العجيلي:

«إن المريض النفسي المصاب «بعصاب الصدمة» يدفعه مرضه من أعماق اللاشعور لكي يستعيد تجربة الحادثة التي سببت له الصدمة وأورثته هذا المرض.. فيأخذ بعيشها مرة تلو أخرى، ويكررها في أحلام النوم حيث يهب مذعورا صائحا في البرهة التي يقترب فيها من جزئية الحدث الذي سبب الصدمة. والتحليل النفسي يرجع السبب في ذلك إلى أن المريض في تكراره لتجربة الصدمة.. يريد عندما يصل إلى النقطة المباشرة للصدمة أن يتجنبها وينجو منها». (أنور قصيباتي، العجيلي فارس مهزوم من مدينة القنطرة)

لقد كان أغلب أبطال روايات الظفيري مصابين بعدوى الرحيل، يعود ناصر برواياته إلى المكان نفسه ليرحل منه ولا يعود، وكأنه يتكلم عن ذاته وصدمته الشخصية الناتجة عن رحيله واقتلاعه من مكان ربوع صباه ويومياته مع أبناء الحي ومشاكساته المرحة مع الرفاق، ليكرر القصة نفسها بالأسلوب نفسه وبالروح ذاتها، عله يشفى من جرحه، ويتخلص من صدمته، بمحاولة مستحيلة بحثا عن استشفاء من دون شفاء، استرجاع من دون رجوع، وحنين يمزق أقفاص الصدر والذاكرة.

ومن اللافت جدا، مما يلاحظ على سرد روايات ناصر الظفيري أن النصف الخاص بحياة أبطاله وذكرياتهم في الكويت، الحميمية في السرد والكتابة عنها بلغة قريبة كل القرب من هذه التفاصيل، تختلط بالروح والمشاعر لدرجة كبيرة، لأنها باختصار تمثل الموضوعات الأثيرة لديه والمحببة جدا جدا إلى قلبه، يستدعي بسهولة كل تلك التفاصيل ويكتب عنها بقلب المحب القريب من كل شيء.

ليس بالضرورة أن تنتهي حكاية الأدباء مثل نهاية البشر العاديين، بل الأديب الحقيقي يكتب لعمله الخلود والبقاء، وستمتد حكاياته إلى أجيال وأجيال تتمها وتستمر من خلالها.

بينما نجد الجزء الآخر من حكايته الذي يتعلق بالمنفى والاغتراب والاقتلاع، نلاحظ أن الملل وعدم الارتباط في المكان والاندهاش من تجربة الآخر يملآن فضاء النص، في «الصهد»، وفي «كاليسكا»، يكمل مشهد ما بعد السفر الذي توقف عنده في طائرة الهجرة في «سماء مقلوبة»، نعم لقد كانت سماؤه وسماء البدون مقلوبة!

وكانت المعادلة أن تعيش في وطن تجمعك به كل تفاصيل العشق والهوى والارتباط من دون جواز سفر، ومن دون دخل يكفل لك الحياة الكريمة، أو أن تهاجر بجسدك إلى وطن يمنحك جواز سفر ودخلا لحياة كريمة، ويبقيك كائن الظل، لروح استقرت هناك، وذاكرة وفية لكل ما هو هناك:

مرابع الصبا والهوى والضحك والمغامرات العاطفية مع امرأة تجمعهما الروابط نفسها والعقائد، بدلا من امرأة من ثقافة أخرى ترفضه وترفض تلك البيئة التي أتى منها.

إن الأديب الراحل، هو المهاجر الذي لن يعود جسديا، وكلنا قد شاهدنا بمرارة كبيرة، نعشه الذي يمر به أبناء الجاليات العربية ليعبر بسلام العبور الأخير من بعد ما مرّ من بلد الولادة لبلد الموت والثلوج تكسي المكان وعلى قطعة خشب كان بالإمكان أن تسقط، هذه الثلوج كانت تعادل بالفعل كل ما كان يشعر به من صقيع الوحشة والغربة، واتفق بشدة مع ما قاله الكاتب الكويتي عبدالله البصيص عن رحيل ناصر: «قال في وفاته كلاما أبلغ مما جاء في رواياته عن البدون».

نعم لن يعود ناصر الظفيري إلى تراب الوطن، ولكنه سيعود وبقوة للذاكرة الجمعية الكويتية والخليجية والعربية، لاسيما أنه لم يكن تركة البدون والكويتيين فقط، بل افتقده وعلق وكتب عن رحيله المثقفون والأدباء في الوطن العربي من أمير تاج السر وليلى العثمان وعبده وازن.

لا يعرف قيمة الفقد إلا من يجربه، سنفتقد الراحل ناصر الظفيري ذلك الإنسان المحب للوطن العربي، ونفقد استياءه الثمين من كل تلك الترهات التي يمر بها الأدب العربي، ونبرته الغاضبة في تغريداته الجريئة والصريحة، ومقالته التي تطل علينا أسبوعيا، يقرأ ويكتب ويعلق على مستجدات الساحة الثقافية. كل ما تركه الراحل هو إرث إنساني مشترك سيبقى خالدا.

يقول الشاعر فهد دوحان في رثائه:

اليوم: أعلى ما تكون الريح

ومالت.. رايتُك

ونلمح السطر الأخير يطيحُ

من روايتِك!

كأن هذ(ه): غايتُك

تختم بها- كما يجب– حكايتَك!

ليس بالضرورة أن تنتهي حكاية الأدباء مثل نهاية البشر العاديين، بل الأديب الحقيقي يكتب لعمله الخلود والبقاء، وستمتد حكاياته إلى أجيال وأجيال تتمها وتستمر من خلالها. ربما، يهتم أحد من الدارسين الغربيين الذين سيقفون عند قبره ويبحثون بشكل أعمق منا عن أسباب اقتلاعه وغربته ومنفاه.

ربما سيتلقف قصته ناقد ومفكر مثل أدوارد سعيد، ليجد فيه جوزيف كونراد جديد، ربما ينصفه جيل آخر من الباحثين، لاسيما وأنوار السعد (أستاذة النقد الأدبي في جامعة الكويت) آلت على نفسها ترجمة ثلاثيته إلى اللغة الإنكليزية، لعله يأتي اليوم الذي سيتذكر الغرب والشرق تجربة المنفى والاقتلاع والبينية عند الراحل ناصر الظفيري.

٭ د. سعاد العنزي أكاديمية كويتية

المصدر | القدس العربي

  كلمات مفتاحية

النيابة الكويتية تطالع تسجيلات حول وفاة الظفيري بمركز أمني