بين الديمقراطية والفوضى.. كيف يمكن أن تنجح ثورة السودان؟

الأربعاء 24 أبريل 2019 01:04 م

في 11 أبريل /نيسان، توجت الاحتجاجات الشعبية غير العنيفة في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن السودانية الكبرى بعملية استيلاء عسكرية وكان المتظاهرون قد دعوا إلى وضع حد للتقشف الاقتصادي وحكم الرئيس "عمر البشير" الذي استمر لمدة 30 عاما. واضطر الجنود إلى الاختيار بين إطلاق النار على الحشود الواسعة، وكثير منهم أبناء وبنات الطبقة الوسطى في البلاد وبين عصيان الأوامر، وقد اختار الجنود الخيار الأخير حيث أعلن نائب الرئيس ووزير الدفاع "عوض بن عوف" أنه تم إقالة "البشير" من السلطة.

ومع ذلك، لم يكن ذلك كافيا لإرضاء تحالف المعارضة الذي رأى "بن عوف" مواليا لـ"البشير" وامتدادا واضحا له، ولم يشر إلى تلبية مطالب المتظاهرين. وبدلا من ذلك، بدا أن عصابة من رجال أمن "البشير" سيطروا على السلطة ببساطة.

وفي الوقت نفسه، واجه صناع الانقلاب مشكلة كبرى، بعد أن تحولوا، كما اتضح، إلى إدارة النظام القديم بدون "البشير". وكان الرئيس المخلوع هو الوحيد الذي عرف كيف يدير آلة المحسوبية السياسية لتحقيق التوازن بين مختلف الفاعلين. وجعل قادة الجيش الأمور أسوأ من خلال حل حزب المؤتمر الوطني الحاكم ووضع العديد من الزعماء الإسلاميين المخضرمين تحت الإقامة الجبرية. وقد خلق ذلك فراغا في السياسيين ذوي الخبرة في الحكومة وعطل شبكة من زعماء الأحزاب وقادة القبائل وضباط الجيش وقادة الميليشيات ورجال الأعمال الذين كانوا يديرون البلاد. وأدرك الجنرالات أنهم بحاجة إلى إبقاء القادة شبه العسكريين داخل دائرة السلطة، لكنهم لم يتمكنوا من التوصل إلى صفقة معهم وفي نفس الوقت التفاوض على ترتيب مع المعارضة.

في مواجهة هذه الظروف المستحيلة، استقال "بن عوف" في اليوم التالي. وحل محله ضابط كبير آخر هو الفريق "عبدالفتاح البرهان"، الذي أدى اليمين الدستورية كقائد لمجلس عسكري انتقالي. ويبدو أن المؤهل الأساسي للبرهان لهذا المنصب هو أنه لم يكن معروفا خارج الأوساط العسكرية حتى الآن، وبالتالي لا يتمتع بسمعة شعبية بالفساد أو الوحشية. وبصفته الوجه الكثر قبولا للمجلس العسكري، فقد تحدث مع المتظاهرين وعرض مقابلة تحالف المعارضة.

تشارك الحكومة الانتقالية الآن في مجموعتين من المفاوضات الموازية. الأولى  مع أجهزة أمن الدولة والجماعات شبه العسكرية حول الاتفاقية الأمنية. وعلى عكس مصر، لا يمكن للجيش السوداني السيطرة على البلاد بمفرده. في العاصمة، يعد المخابرات الوطنية والأمن قوة عسكرية هائلة مستقلة عن الجيش، وكان مديرها هو الجنرال "صلاح عبدالله قوش" الذي استقال بعد إزاحة "البشير".

وهناك أيضا نصف دزينة من الجماعات شبه العسكرية في السودان، وأقواها قوة الدعم السريع التي يقودها الجنرال "محمد حمدان"، والمعروفة باسم "حميدتي". وعندما انهار الاتفاق الداخلي بعد إزاحة "البشير" في 11 أبريل/نيسان، استجاب "قوش" و"حميدتي" بطرق مختلفة حيث استقال "قوش" وتولى "حميدتي" منصب نائب البرهان في المجلس العسكري الجديد.

كانت المفاوضات الثانية تدور حول التوصل إلى صفقة مع المعارضة. ولن يكون إبرام صفقة مهمة سهلة حيث يضم التحالف من أجل الحرية والتغيير، الواجهة السياسية للتظاهرات السودانية، نحو عشرين مجموعة، تتراوح من جمعية المهنيين السودايين إلى تحالف واسع من الأحزاب السياسية. وقد قامت مجموعة أساسية من السياسيين المخضرمين بصياغة "إعلان الحرية والتغيير" الخاص بالتحالف، في يناير/كانون الثاني، ويترأسون حاليا فريق التفاوض. وقد قدم المجلس العسكري بعض التنازلات الكبرى، بما في ذلك سجن "البشير" في سجن كوبر المركزي -وهي خطوة ذات رمزية ضخمة حيث قام البشير نفسه باحتجاز عدد من القادة قبل 30 عاما به- ووعد بتفكيك المخابرات والأمن الوطني. الخدمات. ولكن هناك طريق صعب إلى الأمام حيث علقت المعارضة المحادثات مع الجنرالات، قائلة إن المتشددين داخل المجلس يعيقون التقدم.

حققت المعارضة المدنية خلال أربعة أشهر ما فشلت عقود من التمرد المسلح في القيام به. ومع ذلك، فإن قادة الجبهة الثورية السودانية، الذين يمثلون المتمردين في دارفور ومناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق، نأوا بأنفسهم عن التحالف. وتعد هذه الخطوة أحد امتدادات القرار الكارثي الذي اتخذه "جون قرنق"، قائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، برفض دعوة للانضمام إلى الحكومة المدنية المنشأة حديثا بعد أن أطاحت الانتفاضة الشعبية بالديكتاتور جعفر النميري، في عام 1985. وقد أدخل خطأ قرنق السودان في 20 سنة من الحرب الأهلية الدامية.

رد فعل المنطقة

كانت الانتفاضة الشعبية في السودان والاستيلاء العسكري مدفوعا بعوامل محلية، لكن من غير المرجح أن يحل السودانيون الوضع بأنفسهم. في الماضي، في مواجهة هذه الأنواع من المشاكل المعقدة، مثل الحرب الأهلية الطويلة في الجنوب، اعتمد السودانيون على وسطاء خارجيين لإيجاد حل. لكن هذا الشهر، تزامنت الاضطرابات في الخرطوم مع الفوضى في المنطقة وغياب التحرك الدولي.

كانت مصر أول من اعترف بالانقلاب، مؤكدة "الدعم الكامل" لـ"إرادة الشعب" خلال ساعات من إعلان "بن عوف". وبالنسبة للرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي"، كانت عملية الاستيلاء السوداني نسخة طبق الأصل عن انقلابه، في عام 2013، وكان واثقا من أن حكومة بقيادة "بن عوف" -الذي تدرب في الأكاديمية العسكرية المصرية في نفس الوقت مع "السيسي"- سوف يكون موقفها مؤيدا لمصر بشأن القضايا الرئيسية، مثل مراقبة وتحجيم جماعة "الإخوان المسلمون". ويساور "السيسي" القلق أيضا من قيام السودانيين بدعم الفصائل الإسلامية في ليبيا وإبرام صفقة تسمح لتركيا ببناء قاعدة بحرية في ميناء سواكن على البحر الأحمر.

وفي الوقت نفسه، انتظرت السعودية حتى 13 أبريل/نيسان للتعبير عن دعمها للمجلس العسكري الانتقالي ووعدت بتقديم المساعدات الطبية والغذاء والوقود. وسبق أن قاد "البرهان" القوات السودانية في اليمن دعما للقوات السعودية ويعد نائبه "حميدتي" قائدا 7000 جندي منتشرين هناك يحصلون على الرواتب السعودية. كما وعدت الإمارات بتقديم المساعدات بعد الانقلاب. وكان "قوش" هو المحاور السوداني المفضل في الإمارات، لكن حتى بعد مغادرته، لم يكن من الممكن رؤية أنه يتخلف عن السعوديين سواء في الدبلوماسية أو المساعدات. وبالنسبة لكلا البلدين -كما هو الحال بالنسبة لمصر- من الضروري ألا يقع السودان في أيدي "الإخوان المسلمون"، وأن يبقى عضوا مخلصا في التحالف الأمني ​​ضد إيران.

وكانت "ترويكا" البلدان التي رعت مفاوضات السلام بين الشمال والجنوب في السودان منذ 15 عاما -النرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- غائبة بشكل واضح أثناء الاحتجاجات والانقلاب. وفي ظل إدارة "أوباما" الثانية ثم إدارة "ترامب"، انتقلت الولايات المتحدة من الدعوة الصاخبة لحقوق الإنسان في السودان إلى التعاون بشكل حكيم مع "البشير" في قضايا مثل مكافحة الإرهاب ودعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وخدم "قوش" كشريك مهم للمخابرات الأمريكية؛ وقبل الانقلاب، كانت واشنطن مستعدة للتحدث معه حول طموحاته في تولي السلطة.

وفي العام الماضي، استخدم "البشير" و"قوش" خبراتهما في خدمة التوصل إلى اتفاق سلام لجنوب السودان، مما أكسبهما الفضل في وزارة الخارجية الأمريكية. ويخشى الدبلوماسيون الأمريكيون من أن المساومة الدقيقة التي تجمع بين رئيس جنوب السودان "سلفاكير"، وخصمه اللدود "رياك مشار" يمكن أن تخرج عن مسارها من دون توجيه من الخرطوم. ويبدو أنه، حتى مع تصاعد الاحتجاجات، فإن السياسة الغربية تفترض بقاء البشير أو ظهور نظام خلف يحافظ على سياساته، وقد اكتفت الترويكا الغربية بإصدار دعوة لطيفة "للانتقال المنظم إلى الحكم المدني".

واتخذ الاتحاد الأفريقي موقفا قويا، ولكنه موقفا إشكالي. وفقا لقواعد الاتحاد الأفريقي، تحظر الانقلابات العسكرية باعتبارها "تغييرا غير دستوري للحكومة" ، ويجب تعليق عضوية البلد المعني حتى يتم استعادة الحكم الدستوري أو إقامة الديمقراطية. والمشكلة هي أن "السيسي" يترأس الاتحاد الأفريقي حاليا وقد رحب بالانقلاب.

ومع ذلك، ربما وجد الاتحاد الأفريقي حلا وسطا قابلا للتطبيق. في 15 أبريل/نيسان، أدان مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي الانقلاب لكنه أعطى الجيش السوداني 15 يوما لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية، أو مواجهة تعليق العضوية.ولكن "السيسي" نجح في ممارسة ضغوط على المجلس لمد المهلة المحددة للجيش إلى 3 أشهر بدلا من 15 يوما.

ويبدو السودان اليوم مترنحا بين آمال التحول الديمقراطي واحتمالية الانجرار أعمال عنف لا تنتهي. وأظهر الشعب السوداني صبرا وشجاعة مدهشين، وأثبت أن المظاهرات الجماهيرية يمكن أن تسقط حتى أكثر الأنظمة الاستبدادية الراسخة. ولا يمكن للتدخل الأجنبي أن يقدم الديمقراطية والسلام للسودان، ويمكن للسودانيين وحدهم أن يفعلوا ذلك، لكن العمل المنسق لتشجيع الديمقراطية ومنع تدفق المزيد من الأسلحة إلى أيدي الفصائل المتنافسة يمكن أن يقلل على الأقل من خطر أن يؤدي التحول إلى الفوضى.

المصدر | أليكس دي وال - فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية