ما بعد البشير.. كيف يمكن للسودان الشفاء من عقود الديكتاتورية؟

الاثنين 6 مايو 2019 01:05 م

منذ أن اشتعلت الحركة، التي أصبحت تعرف باسم "انتفاضة السودان"، في ديسمبر/كانون الأول 2018، لم يتم سماع سوى القليل عن "عمر البشير"، الرجل الذي حكم البلاد بقبضة حديدية منذ قرابة 30 عاما.

وفي 11 أبريل/نيسان، بعد 4 أشهر من الاحتجاجات، تم إزاحته في انقلاب غير دموي.

وفي البداية، لم يقل النظام شيئا عن موقعه، رغم أن التقارير أشارت إلى أنه محتجز في القصر الرئاسي في الخرطوم.

وانتشرت شائعات بأن "البشير" تفاوض بشأن خروج آمن مع وزير الدفاع السابق "أحمد عوض بن عوف"، قائد الانقلاب، لضمان عدم إرساله إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ولكن أيا كانت الضمانات التي استخلصها "البشير" فقد أثبتت أنها لم تدم طويلا. وتحت ضغط من المتظاهرين، طرد الجيش "بن عوف" بعد يوم واحد فقط في السلطة، وحل محله الفريق "عبدالفتاح عبد الرحمن برهان".

وبحسب ما ورد، نقل النظام الجديد "البشير" إلى سجن "كوبر"، وهو مرفق مشدد الحراسة في الخرطوم كان قد شهد اعتقال وتعذيب الآلاف من السجناء السياسيين خلال فترة حكم "البشير" الطويلة.

لكن ليس من الواضح ما إذا كانت فترة مكوثه هناك ستطابق طول المدة التي مكثها خصومه السياسيون؛ فمستقبل "البشير"، مثل مستقبل البلاد، لا يزال غامضا.

وتعتبر حالة عدم اليقين المحيطة بـ"البشير" منذ الإطاحة به، بطريقة ما، متوقعة.

ويعد "البشير" آخر الديكتاتوريين الذين سقطوا خلال موجة الاحتجاج الطويلة الثالثة في أفريقيا، والتي بدأت عام 2008 تقريبا، ثم تجددت بقوة عام 2011، واكتسبت قوة متجددة خلال العامين الماضيين فقط.

وعلى عكس "عبدالعزيز بوتفليقة"، الرئيس السابق للجزائر الذي تم الإطاحة به قبل أسابيع فقط من "البشير"، والذي كان يتمتع بشعبية نسبية، لم يكتسب "البشير" الولاء داخل السودان. كما أن المجتمع الدولي لم ينظر إليه على أنه قائد، على الرغم من تمسكه بالسلطة لفترة طويلة.

وكان "البشير" غامضا. فقد كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة لكنه لم يجرِ مقابلات مع الصحافة الإنجليزية. وكان الغموض دوما استراتيجية مقصودة لـ"البشير" ساعدته في تأمين حكمه في بلد طالما حددته الانقسامات.

وسمح عدم اتساقه الأيديولوجي، واستعداده لإقامة شراكات انتهازية البقاء في السلطة عبر استغلال أزمة القيادة والقومية الأوسع في السودان.

ويثير إرثه، في بلد يشعر فيه الكثير من القادة بالارتباك بسبب ارتباطاتهم به، أسئلة حول كيفية التعامل مع هذا الإرث القمعي في خضم حالة عدم اليقين والفرح لرحيله. بمعنى آخر، فإن ما يحدث لـ"البشير" له عواقب على مستقبل السودان نفسه.

الديكتاتور الغامض

وتتلاقى السيرة الذاتية الرسمية والتأكيدات السياسية حول "البشير" في بعض الحقائق الأساسية.

فقد ولد لعائلة بدوية متواضعة في شمال البلاد، قبل دخوله الجيش، وترقيه في النهاية إلى رتبة "مقدم". لكن علاوة على ذلك، لا يُعرف سوى القليل عن حياته الشخصية.

ولم يعش حياة الترف المذهلة للديكتاتوريين الآخرين في أفريقيا على الرغم من أنه ترأس نظاما معروفا بفساده، وجمع ثروة شخصية يُشاع أنها كانت بالمليارات. وعلى الرغم من سمعته التي اكتسبها كوحش ​​لا يرحم، إلا أنه رب أسرة مخلص. فلم يكن لديه أبناء، لكنه ساعد في تربية أطفال زوجته الثانية. وعلى الرغم من أنه حكم السودان لمدة 3 عقود، إلا أنه ليس هناك الكثير من السودانيين يحزنون لرحيله، ولا حتى أولئك الذين استفادوا من سخائه، مثل الجيش والنخبة الاقتصادية الضيقة في البلاد.

وليس "البشير" أول حاكم عسكري سوداني يتم إسقاطه من خلال انتفاضة شعبية حيث عانى حاكم السودان السابق، "جعفر النميري"، من نفس المصير عام 1985. وخلال 14 عاما في السلطة، تذبذب "النميري" بين الاشتراكية والوحدة العربية، قبل أن يستقر على الإسلاموية كأفضل أيديولوجية لضمان قبضته على السلطة.

واحتضن جماعة الإخوان المسلمين، وفرض الشريعة الإسلامية، وهي القرارات التي أدت إلى اضطرابات واسعة النطاق وأشعلت الحرب في الجنوب، والتي شقت البلاد في نهاية المطاف إلى دولتين عام 2011.

ومثل "النميري"، وصل "البشير" إلى الساحة السياسية مباشرة عبر انقلاب من الجيش. وبعد فترة فاصلة مدتها 4 أعوام من الحكم المدني، استولى "البشير" على السلطة عام 1989، وربط نظامه بالزعيم السياسي الإسلامي الشعبي "حسن الترابي".

وعلى مدى العقد التالي، وصف المراقبون الداخليون والخارجيون "الترابي"، الحاصل على درجة الدكتوراه في جامعة السوربون، وصفوفه بأنه "محرك الدمى" الذي يتلاعب بـ "البشير" ويوجهه.

وفي ظل نفوذه، عمل النظام على محو التنوع الديني والعرقي في السودان، عبر برنامج التعريب والأسلمة من الأعلى إلى الأسفل. لكن صداقة "الترابي" مع الزعماء الإسلاميين، بمن فيهم "أسامة بن لادن"، أثارت الشقاق داخليا، وتسببت في عزل البلاد دوليا. وعلى أمل تحسين وضع بلاده، تفاوض "البشير" سرا مع المسؤولين في الولايات المتحدة وانقلب على "الترابي" عام 2000 واعتقله.

وبعد ذلك تحولت الأضواء إلى "علي عثمان طه"، وزير الخارجية السابق، ثم النائب الأول للرئيس. وصعد "طه"، القائد المدني للحركة الإسلامية، إلى جانب "البشير" بعد انفصاله عن "الترابي". واعتبر المراقبون ذوو المعرفة "طه" هو "القوة الحقيقية في الخرطوم". وكان مسؤولا عن الإشراف على حملة مكافحة التمرد الوحشية في دارفور، التي أدت إلى مقتل أكثر من 200 ألف مدني.

وتفاوض "طه" شخصيا على اتفاق السلام الشامل الذي أنهى الحرب الأهلية في السودان مع الزعيم الجنوبي، "جون قرنق"، عام 2005. وفي حفل السلام في الخرطوم، وقع "طه"، وليس "البشير"، الاتفاق نيابة عن الشمال.

ومع ذلك، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرا باعتقال "البشير" وحده في عامي 2009 و2010، بتهمة "الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب".

ورغم دوره المحوري في حملة دارفور، لم يتم توجيه أي تهمة إلى "طه". وانتشرت شائعات بين الممثلين الإقليميين بأن "طه" كان يتحرك ليحل محل "البشير" كرئيس، وفقا لتقارير نشرتها "ويكيليكس".

لكن "البشير" نجح مرة أخرى في إزاحة منافسه عن طريق تخفيض رتبته في تعديل وزاري عام 2013. وكان انفصال جنوب السودان، ومعه التهديد السياسي والعسكري الذي شكله التمرد الجنوبي، قد عزز موقف "البشير". ولم يواجه "البشير" أي تحدٍ كبير آخر لسلطته حتى حركة الاحتجاج التي أطاحت به في أبريل/نيسان.

عودة إلى الماضي

وفي خضم المواجهة المتوترة اليوم، بين رجال الجيش غير الراغبين في التنازل عن السلطة والمحتجين الذين ما زالوا يدفعون تجاه انتقال فوري بقيادة مدنية، قد تبدو مسألة ما يجب فعله بالضبط مع "البشير" تشتيتا للانتباه.

لكن تجاهل هذه القضية قد يؤدي إلى عواقب طويلة الأجل. وفشل السودان مرتين من قبل في ترجمة ثورة شعبية إلى ديمقراطية دائمة. وكانت المشكلة الأساسية دائما هي عدم قدرة البلد على صياغة هوية وطنية شاملة، في ظل نخب سياسية استغلت الانقسامات العرقية والدينية لضمان حكمها. وحتى حركة الاحتجاج اليوم، التي تتمتع بقاعدة عريضة ومتنوعة، فإنها تكافح من أجل تعزيز رؤية وطنية تتجاوز استبدال الجيش لصالح حكومةيقودها مدنيون.

وسوف تخدم طريقة تعامل النظام الجديد مع "البشير" هدف توليد شعور وطني بالهدف الأسمى، أو ستقوضه. وقد دعا العديد من المراقبين الدوليين النظام الجديد إلى تسليم الحاكم السابق إلى المحكمة الجنائية الدولية لمواجهة المحاكمة. لكن مثل هذه الملاحقات القضائية غير فعالة بشكل لا لبس فيه.

علاوة على ذلك، تقتصر لائحة الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية على الأعمال في دارفور منذ أكثر من عقد، ولا تتناول أيا من تصرفات النظام الخاطئة في أماكن مثل جبال النوبة، حيث تم قصف القرويين من الجو، أو جنوب "كردفان"، موقع مكافحة التمرد الوحشي لعدة أعوام، أو حتى مدينة الخرطوم الشاسعة نفسها، حيث تم قتل المئات خلال موجة سابقة من الاحتجاجات في عامي 2012 و2013.

وسوف تضفي نيابة المحكمة الجنائية الدولية طابعا شخصيا على الأزمات المتداخلة في البلاد، عبر وضع مشاكل السودان في سلة واحدة. علاوة على ذلك، قال مراقبون ذوو معرفة، مثل "ألكس دي وال" إن المحكمة الجنائية الدولية قد تفشل في إدانة "البشير" بأي جرائم، بسبب رداءة لائحة الاتهام، وبدلا من ذلك، يمكن للسودان أن يحاكم "البشير" في محكمة محلية، من أجل الحد من المخاوف بشأن التحيز ضد أفريقيا في المحكمة الجنائية الدولية.

ومن غير المرجح أن يرضي كلا الخيارين المحتجين الذين يطالبون بمحاسبة النظام بأكمله والمستفيدين منه.

وعندما تمت الإطاحة بـ "النميري"، تم نفيه إلى مصر. كما يمكن طرد "البشير" إلى دولة أجنبية إلى جانب كبار المسؤولين. ومن المحتمل أن يكون هو والمرتبطون بالنظام يأملون في تحقيق مثل هذه النتيجة في الأيام الأولى من الانتقال.

وكانت أوغندا أول دولة تفكر في فتح أبوابها، لكنها دولة موقعة على مواثيق المحكمة الجنائية الدولية. ومن المرجح أن يجد "البشير" فرصة للجوء في المملكة العربية السعودية أو أي دولة خليجية أخرى لن تكون ملزمة بتسليمه إلى المحكمة.

وربما يكون الحكام العسكريون الحاليون، الذين يصرون على الاحتفاظ بالسلطة، سعداء بإبعاده من البلاد. لكن من غير المرجح أن يقبل المحتجون أي مقاربة لا يتحمل فيها "البشير" وغيره مسؤولية تصرفاتهم.

وإذا بقي "البشير" في السودان دون محاكمة، فقد يتم منحه هو وشخصيات أخرى مرتبطة بالنظام درجة من الحصانة كجزء من عملية المصالحة على الطريقة الجنوب أفريقية. ويعد هذا النهج هو الأكثر صعوبة، لكنه على الأرجح لن يسفر عن نتائج حقيقية.

وقد تؤدي عملية الحقيقة والمصالحة إلى فتح محادثة تم إخمادها منذ فترة طويلة حول الضرر الذي ألحقه نظام "البشير" بأشخاص بعينهم وبالمجتمع السوداني ككل على مدار العقود الثلاثة الماضية.

ومن خلال هذه العملية، قد يكون السودانيون أخيرا قادرين على التعبير عن هوية وطنية تتجاوز الهويات العرقية التي كانت منذ فترة طويلة مصدرا للعديد من مشاكل البلاد.

ورغم أن السودانيين غالبا ما يفتخرون بالتنوع في بلادهم، إلا أن معظمهم يدركون أيضا أن المجتمعات المختلفة التي تشترك في هذه الدولة الشاسعة لا تعرف شيئا عن بعضها البعض. وقد تعمق الحوارات الوطنية، التي تسمح للضحايا بتبادل قصصهم، التفاهم بين سكان السودان المختلفين. كما أنها ستعزز التعاطف وتساعد السودانيين في صياغة الهوية الوطنية الشاملة والديمقراطية التي استعصت عليهم لفترة طويلة.

لكن لفكرة "الحقيقة والمصالحة" سجل مختلط في البلدان التي حاولت ذلك. وسوف تحبط أي مناقشة حول العفو أو تخفيف العقوبة على المرتبطين بالنظام العديد من الضحايا وكذلك المحتجين الذين يسعون إلى المزيد من أشكال العدالة الانتقامية.

لكن على الدول التي تسعى إلى التقدم بعد الصدمة أن تواجه تاريخها المؤلم. وكان فشل السودان في السابق في تأمل ماضيه، أو بناء مشروع وطني شامل بعد الانتفاضتين الأخيرتين السابقتين، هو ما سمح للجيش بالاستيلاء على السلطة في المقام الأول. وتعد فكرة "المصالحة" أفضل طريقة لمنع التاريخ من تكرار نفسه مرة أخرى.

المصدر | فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية