استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

محمد مرسي في ميزان العلم والأخلاق

الخميس 27 يونيو 2019 02:06 م

ليس رثاء ولا نعيا، لكنها الحقيقة المجردة أكتبها عن الدكتور "محمد مرسي" الأكاديمي والإنسان. ‏

أكتب الحقيقة ولا أخاف لومة لائم، إنصافا لإنسان شوه الجهل صورته، وسجن الظالمون أسرته، ‏وتخلى عنه إعلام الغرب الذي عاش ودرس وعلّم فيه، وتخاذل عن دعمه كثيرون من الوسط ‏الأكاديمي الذي كان أول من أنصفه في فترة رئاسته.

هناك علماء رأوا أن التعفف عن مناصرة الحق -‏في لحظة فاصلة- دلالة على شغفهم بالعلوم والأبحاث؛ وأي علم هذا الذي لا يحارب الجهل ولا ‏ينصف مظلوما ولا ينصر الحقيقة ولا يرقى بأمة؟!

وإن لم تضف الحقيقة التي أكتبها أي شيء لقيمة الرجل الذي كان مسجونا وراء القضبان بعد الثالث ‏من يوليو/تموز 2013، بينما كنت أنا أشغل مكتب فريقه الاستشاري في قصر الرئاسة؛ فإن هذه ‏الحقيقة درس هام يعكس المكانة التي يشغلها العلم والتعليم في المشهد الإنساني والفكري العربي. ‏

سلكنا نفس الطرق ولكن لم يجمعنا أبدا أي حوار، سكن كلانا مدينة لوس أنجلس، درس د."مرسي" ‏بجامعة ساوثرن كاليفورنيا العريقة والتي أعمل فيها حاليا، وشارك في مشروعات وكالة الفضاء ‏الأمريكية (ناسا) التي أنتسبُ إليها منذ عام 2003، وأخيرا عمل كلانا نفس المدة تقريبا بقصر ‏الاتحادية الرئاسي بمصر، فكان رئيسا للجمهورية، ثم كنت أنا مستشارا علميا في القصر ذاته، لكن ‏بعد عزل د."مرسي". ‏

وبالنظر إلى مسارنا المشترك؛ تجعلني هذه المراحل قادرا على إعطاء نظرة واقعية لهذه الشخصية ‏الفريدة التي تتفق معها أو تختلف، هي شخصية مستنيرة قادرة على إحداث طفرة في مصير مصر، ‏وسأشرح ذلك من خلال تعليمه ومفهومه للتسامح.‏

العلم والتعليم بحياة "مرسي"

لم يكن د."محمد مرسي" فقط أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، لكنه -وهو الأهم- كان الرئيس ‏الأفضل تعليما وعلما من كل من سبقوه، وكان لذلك حضور دائم في حياته المهنية؛ فتراه دقيقا في ‏وصفه للأرقام، واثقا في الخطوات، واضحا في كلامه، حاضر البديهة في حواراته، متواضعا في ‏سلوكه، معترفا بأخطائه، ومستشيرا أصحاب الخبرات في إصلاحها أكثر من كل من سبقوه.

في آخر كلماته داخل القفص الزجاجي العازل في المحكمة؛ كان يواجه القاضي بالحجة العلمية ‏قائلا: "علميا إن كنت لا أراك فأنت لا تراني". ومنذ وصوله قصر الاتحادية؛ كانت أولى قرارته هي رفع ‏أجور أعضاء هيئة التدريس، ورفع ميزانية الجامعات، وشكل لجنة للنهوض بالبحث العلمي، وبدأ ‏منظومة للاستعانة بالعلماء والأكاديميين بالخارج.‏

كان د."محمد مرسي" يقول دائما عن نفسه إنه ليس إنسانا كاملا، لكنه -خلافا عمن سبقوه ومن ‏تبعوه في هذا المنصب- كان يمتلك القدرة على التطور والتحسن، بفضل تعليمه القوي وحياته في وسط ‏أكاديمي متميز ومتعدد الأعراق، طيلة سنوات وجوده في الولايات المتحدة. فدرس الدكتور "مرسي" ‏بجامعة ساوثرن كاليفورنيا العريقة في كلية هندستها ذائعة الصيت، وتخصص في علم الفلزات الذي ‏كانت له تطبيقات هامة في مجال الفضاء.

وكيف لا يُشهد للدكتور "مرسي" بالتفوق وقد كان "نيل أرمسترونغ" -أول رائد فضاء- أحد طلاب نفس ‏الكلية وهو يخطو أولى خطواته على القمر، وتخرج منها كذلك "شارلز بودن" أول رئيس من أصول ‏أفريقية لوكالة ناسا، وتخرج من الجامعة بشكل عام قادة ومفكرون منهم "مصطفى العقاد" مخرج فيلم "‏الرسالة"، وأيضا رئيس وزراء اليابان وغيرهم، وتُعرف هذه الجامعة بانتقائها للعقول المبدعة ‏والشخصيات القيادية غير التقليدية، وتتشدد في قيم التسامح الديني والعرقي.

ولذلك كان من الطبيعي جدا أن يجد خريجوها فرص عمل متميزة في الوسط الأكاديمي، كما صار ‏مع د."مرسي" بتعيينه أستاذا مساعدا بجامعة ولاية كاليفورنيا في مدينة نورثريدج شمال غربي لوس ‏أنجلس، بعد حصوله على درجة الدكتوراه بها عام 1982.

لكن د."مرسي" قرر -بعد فترة أمضاها في هذه ‏النجاحات- العودة إلى وطنه عام 1986، ليصبح عضوا بهيئة التدريس في جامعة الزقازيق؛ ‏ناقلا ما تعلمه بالولايات المتحدة إلى مصر.

قد لا يفهم كثيرون هذا السلوك في حياة د."مرسي" لأنه يمثل فئة نادرة في مجتمعنا المصري، وهي ما يسمى الفئة الأولى من "القادمين"، وهي فئة الباحثين الذين ‏يعودون إلى أوطانهم بعد إتمام الدراسات في الخارج، وتمثل فقط 5% ممن يسافرون اليوم للتعلم ‏في الغرب.

وعادةً تتميز هذه الفئة -وخاصة من يتخرجون منها في جامعة مرموقة- برغبة قوية في ‏التغيير وقدرة عالية على المواجهة، ويمثل د."محمد مرسي" نموذجا واضحا لهذه الفئة؛ فقد كان يرى أن النجاح الكامل لا يتم إلا على أرض الوطن.

قد يتساءل البعض: ما الذي يجعل د."محمد مرسي" عالما؟ وقد يرون ذلك مبالغة في الأمر ولكن ‏الحقيقة غير ذلك؛ فللمعرفة شقان: الأول هو اكتشاف أسرار هذا الكون الذي نعيش فيه، والثاني هو ‏محاربة الجهل. وقد يكون للدكتور "محمد مرسي" نصيب توقف عن النمو مبكرا في الشق الأول، إلا ‏أن له نصيبا هاما في الشق الثاني، إذ عاش طيلة حياته مطالبا بأن تكون المعرفة والحقائق أساس ‏صنع القرار.

لذلك أحسبه من رجال العلم في مصر، ووصفه من هو أكبر مني شأنا وأعلى مني ‏مقاما الراحل الدكتور "أحمد زويل" بالعالم، ولم يكن وصفه بالخاطئ أو بالمجامل؛ فالدكتور "زويل" ‏يزن كلماته في العلم بدقة يحاسب عليها الرأي العام العالمي وليس فقط المصري، وهو كان يعي ذلك ‏جيدا.

التسامح الديني لدى "مرسي"

أشيع مرارا وتكرارا أن الانتماء الفكري للدكتور "مرسي" يجعله غير منفتح على الديانات والثقافات ‏المختلفة، واعتمد من أشاع ذلك على بساطة مظهره بلحيته وفطرة سلوكه.
وأذكر هنا أن د."مرسي" التقى -في أول زيارة له ‏للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2012- بالجالية المصرية في ‏قاعة مفتوحة تسمح بدخول الجميع، وكان ذلك بأحد فنادق تايم سكويرز في قلب نيويورك، ‏وتوجهت إلى هذا اللقاء الذي حضره ما يقارب 200 مصري، وقد أجاب د."مرسي" بكل دقة ‏وصدق على أسئلة الجالية المصرية.

كان من بين المصريين سيدة قبطية فاضلة شكت له بقوة ما يتعرض له الأقباط من تمييز وعنف في ‏الشارع المصري، فحاول بعض الحضور اعتراض كلامها وهنا أمرهم د."مرسي" بالسكوت حتى ‏تستطيع السيدة البوح بشكواها بكل حرية، ثم أجابها. لم تعجبها إجابة د."مرسي" التي لم ترَ فيها إلا ‏مجرد كلام عام في التسامح لا وجود له على أرض الواقع، فظلت تصرخ ضده؛ وهنا توجه الأمن ‏الخاص بالرئاسة وأمرها بالجلوس برفق.

وبعد انتهاء الجلسة توجه إليها الدكتور "مرسي" أثناء ‏خروجه وقبل رأسها وفتح لها الطريق للخروج قبله، ولم يشتد وجهه إلا عندما نهَر أحد مرافقيه كان ‏يريد الرد بشكل غير لائق على هذه السيدة. كنت أقف على بعد أمتار منه، والتقت نظراتنا بابتسامة خفيفة منه ودهشة مني، وخرج من القاعة ‏وكلانا لا يدرك ما تخفيه الأقدار للآخر.

نعم كان د."محمد مرسي" متسامحا ومحبا للأديان الأخرى ‏بصدق، وكيف لا وقد عاش ودرس في أكثر مدن أمريكا اختلاطا بالأديان والأعراق؛ فجامعة ‏سوثرن كاليفورنيا بها أكبر عدد من الطلبة الأجانب بالمقارنة بكل جامعات الولايات المتحدة وأعضاء ‏هيئة التدريس من كل أنحاء العالم.

بينما يتحدث قادة عن التسامح والمحبة بين الشعوب؛ عاشر الدكتور "مرسي" هذا التسامح سنوات ‏طويلة كطالب وأستاذ مدرس بجامعات ولاية كاليفورنيا، وهي الولاية الأكثر انفتاحا في كل الولايات ‏المتحدة.

ولو كان ثبتت عليه أي آثار للتعصب أو العداء للأديان لما كان أتم دراسته أو عين عضوا في ‏هيئة تدريس بجامعات كاليفورنيا، التي تتوخى حرصا شديدا في قضايا العنصرية والكراهية الدينية، ‏خاصة بعد أحداث العنف التي عرفتها الولاية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

كان احترام الدكتور "مرسي" لاختلاف الأديان صادقا وحقيقيا ونابعا من تجربته الناضجة والناجحة ‏في الولايات المتحدة، وليس مجرد مغازلة للغرب كما نرى اليوم في من يدّعون التسامح وهم لا ‏يقبلون الاختلاف في الرأي بالأساس حتى يقبلوا بالاختلاف في الدين، وليس لهم أي تاريخ يذكر في ‏التعايش مع أي ثقافات مختلفة.‏

كان في قرارة نفسي أن ثورة يناير تستطيع أن تنقلنا من دولة الجهل والظلم التي نعيشها إلى دولة ‏العلم والعدل التي نحلم بها، ولكنه فاتني أن ذلك لن يكون إلا مرورا بدولة الأخلاق التي سعى د."‏محمد مرسي" لتأسيسها بخبرته، أساسا كأكاديمي تتلمذ وعمل في وسط فكري وأخلاقي متميز قبل أي ‏شيء آخر.

وبعيدا عن المشهد العبثي والمشوه للسياسة والإعلام في مصر؛ كان الدكتور "محمد ‏مرسي" رئيسا داعما للعلم ومات محاربا للجهل.

أنصف أو أخفق أرى أن حسابه عند خالقه أيسر منا ‏جميعا، رحمه الله.

المصدر | الجزيرة نت

  كلمات مفتاحية

بذكرى وفاة مرسى.. المرزوقي: الانقلابيون سيدفعون ثمنا باهظا

في ذكرى وفاته.. مرسي حي على مواقع التواصل بآلاف الكتابات