فورين بوليسي: القصة الكاملة لانهيار العلاقات التركية الأمريكية

الثلاثاء 23 يوليو 2019 12:27 ص

قام جنود المظلات الأمريكيون في 4 يوليو/تموز 2003، بمداهمة أحد المجمعات في مدينة السليمانية (شمال العراق)، وجاءت هذه المداهمة بعد مرور شهرين على إعلان الولايات المتحدة "إنجاز المهمة" وانتهاء العمليات العسكرية الكبرى في العراق، حيث قام الجنود باحتجاز الأسلحة الصغيرة والقنابل اليدوية والمتفجرات، وكذلك اقتياد 11 من أفراد القوات الخاصة التركية من المكان.

وبحسب ما ورد، قامت القوات الأمريكية بتقييد الأتراك وغطت رؤوسهم بأنواع أغطية مخصصة عادة للمعتقلين الإرهابيين في أفغانستان أو غوانتنامو.

وقبل إطلاق سراح الكوماندوز الأتراك، استغرق الأمر أياماً من الدبلوماسية وراء الكواليس، بما في ذلك مكالمات هاتفية مطولة بين نائب الرئيس آنذاك "ديك تشيني" ورئيس الوزراء التركي آنذاك "رجب طيب أردوغان"، لنزع فتيل الأزمة.

ولا يزال يتم تذكر هذه الحادثة بمرارة في تركيا، رغم أنها قد تعتبر شيئا هامشيا في تاريخ الولايات المتحدة في حرب العراق.

أما بالنسبة لتركيا، فقد كان ذلك بمثابة رمز لرغبة الولايات المتحدة في التصرف كما يسرها مع تركيا، الشريك الأصغر الذي يراقب واشنطن وهي تدوس على مصالحه في المنطقة، من خلال الاحتلال الأمريكي للعراق البلد الذي كان ينهار على حدودها.

وخلال 16 عاما تلت ذلك تزايدت التوترات وسوء الفهم بين اثنين من الحلفاء في الناتو وظهرت حالة عدم الثقة والشك المتبادل، تماما كما ظهرت تلك الأغطية التي وضعت على رؤوس الجنود الأتراك، وقد بدأ ذلك تقريبًا منذ اللحظة التي اختفى فيها العدو المشترك الذي جمع أصلاً أنقرة وواشنطن، وهو الاتحاد السوفييتي.

ويتفق العديد من الخبراء على أن خطأ الانهيار في العلاقات يقع على كلا الجانبين، وقال "سونر كاجبتاي"، الخبير التركي في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "في كلا البلدين، فإن القرارات المتعلقة بالعلاقات الثنائية تكون ممتزجة بالغضب قبل اتخاذها".

وأفضل مثال هو المعركة المريرة التي استمرت قرابة العقد حول أنظمة الدفاع التركية، والتي بدأت عندما رفضت الولايات المتحدة تبادل تقنية الصواريخ الحساسة مع أنقرة فيما يتعلق ببطارية الدفاع الجوي باتريوت الأمريكية الصنع حيث تحولت تركيا في النهاية إلى موسكو طلبًا للمساعدة، وبدأت موجة جديدة من عدم الثقة انتهت مع تسليم نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس-400" إلى تركيا هذا الشهر.

وقد دفع تسلم تركيا للنظام الروسي -على الرغم من التهديدات والتحذيرات المتكررة والصاخبة من واشنطن- الولايات المتحدة الآن إلى التشكيك في علاقاتها الأساسية مع تركيا بطريقة لم تفعلها منذ ما يقرب من 7 عقود من الشراكة.

وكجزء من الناتو، تعتبر تركيا حليفا رسميًا للولايات المتحدة، حتى إن لم تكن شريكا لها، وهناك مخاطر للانفصال عن دولة تعد الحصن الجنوبي الشرقي للتحالف الغربي.

ولكن "أماندا سلوات" الباحثة في معهد "بروكنغز" ترى أن "تركيا ليست حليفا ولا عدوا. إنها خصم للولايات المتحدة"، وتضيف: "لقد كان هناك انهيار كامل في الثقة بين الولايات المتحدة وتركيا. ويعد النزاع حول شراء تركيا للمعدات العسكرية الروسية هو الأحدث في قائمة طويلة من الخلافات الثنائية. باختصار، تتساءل أنقرة إذا كانت واشنطن تهتم باحتياجاتها الأمنية، وتتساءل واشنطن إذا كانت أنقرة حليفة يمكن الاعتماد عليها".

وأثارت تحركات أنقرة جهودا في الكونغرس لفرض عقوبات على اقتصاد تركيا المتعثر بالفعل ومنعها من الحصول على طائرات "إف-35".

وعندما يشتري أحد حلفاء الناتو أسلحة روسية متطورة، ويرفض الفرصة لتعزيز قواته بتكنولوجيا دفاعية أمريكية متطورة، ويخاطر بكارثة اقتصادية في هذه العملية، فإن ذلك يعد خرقًا للأبعاد التاريخية للعلاقة.

ومنذ الأيام الأولى للحرب الباردة، كانت تركيا راسخة إلى حد ما في النظام الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والآن، تتخلص من العلاقات القديمة، ويخشى المحللون اليوم من أن تركيا تتطلع إلى موسكو أكثر من تطلعها إلى واشنطن.

وبعد يوم من طرد الولايات المتحدة تركيا رسميًا من برنامج "إف-35" عرضت موسكو بيع مقاتلة متقدمة من طراز "سوخوي-35"، وقال "ستيفن كوك"، باحث شؤوون الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية: "هناك الكثير من الأساطير حول العلاقة منذ عام 1952 لكن اليوم يبدو أن الأتراك يقتربون أكثر من موسكو".

تباين في الأهداف

على سبيل المثال، لا تعمل تركيا على تحقيق نفس أهداف الولايات المتحدة في سوريا، وهي لا تزال تتمتع بعلاقات فاترة مع (إسرائيل)، كما أن هناك ازدياد في التوترات - على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- بشأن استكشاف الطاقة حول قبرص، كما أن تركيا تمنح روسيا حق شحن المزيد من الغاز الطبيعي إلى أوروبا ضد رغبات واشنطن.

وبعد عقود من اعتبار تركيا حليفًا بشكل بديهي، فإن صانعي السياسة في واشنطن أصبحوا منساقين على نحو مفاجئ للعكس، ولذا فإن المحللين يختلفون حول كيفية تحديد العلاقة، ويقول "كوك": "تركيا ليست حليفا ولا عدوا، إنها خصم للولايات المتحدة".

وليس من الواضح إلى أي مدى ستذهب واشنطن للانتقام من شراء تركيا لمنظومة "إس-400" الروسية الصنع، وأوضحت وزارة الدفاع الأمريكية أن الطائرة "إف-35" لا يمكن أن تعمل إلى جانب الأسلحة الروسية المتطورة التي يمكن أن تعطي موسكو معلومات حول الطائرة، وأن تركيا قد تم إيقافها بالفعل عن برنامج الطائرات النفاثة.

وينص التشريع الأمريكي على فرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تشتري أسلحة روسية معينة، لكن لا يزال بإمكان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أن يعرض على تركيا مساحة كبيرة للمناورة، إما عن طريق تأخير فرض العقوبات أو تخفيفها، ولكن هذا بدوره من شأنه أن يدفع الكونغرس، الذي فقد صبره على تركيا، إلى مضاعفة العقوبات.

ومنذ فجر الحرب الباردة، كانت تركيا مرساة في نظام الأمن الأمريكي، وقد كان مبدأ "ترومان" يسعى لحماية اليونان وتركيا من التهديدات السوفييتية حيث انضمت تركيا إلى الناتو بعد فترة وجيزة للحصول على الحماية من تهديد الاتحاد السوفييتي التوسعي.

وعلى مدى عقود بعد ذلك، على الرغم من الكثير من التوترات والخلافات والأولويات الإقليمية المختلفة، اعتبر الكثيرون في واشنطن تركيا شريكًا استراتيجيًا حيويًا وضروريًا، وحجر الزاوية لجناح الناتو الجنوبي، وصديق للغرب في العالم الإسلامي.

ولكن على الرغم من ميل واشنطن إلى القيام بكل ما يلزم للحفاظ على تركيا إلى جانبها، فإن شراء أنقرة لمنظومة "إس-400" كان "أمرا لا يمكن تجاوزه" كما قال "هوارد إيسنستات"، المتخصص في شؤون تركيا بجامعة سانت لورانس.

والآن، بعد سنوات من التغاضي عن تآكل الديمقراطية في تركيا والدبلوماسية الإقليمية المثيرة للجدل على أمل الحفاظ على العلاقة الأمنية على قدم وساق، أصبح المشرعون والكثيرون الآخرون في واشنطن في حالة مزاجية مناهضة لتركيا.

ويخشى الخبراء من أن غضبهم لن يؤدي إلا إلى فتح خلاف دائم مع تركيا يمكن أن يضعف موقف الولايات المتحدة وحلف الناتو في جزء مهم من العالم.

وقال "إيسنستات": "أخشى أن تتحول السياسة الأمريكية من محاولة إبقاء تركيا قريبة إلى محاولة سحقها لإظهار تكاليف تجاوز الولايات المتحدة، والتي ستكون سياسة مدمرة ذاتياً".

توترات تاريخية

لفهم كيف وصل الحلفاء في الناتو إلى نقطة العداء الصريح يتطلب ذلك رحلة طويلة إلى الوراء خلال الحرب الباردة وعبر خطوات السياسة الأمريكية تجاه العراق في التسعينات والألفينات وصولا إلى صعود زعيم تركي إسلامي وطني مصمم على جعل البلاد قوة إقليمية مستقلة؛ والأهم من ذلك هو "حوار الطرشان" بين الطرفين أثناء الحرب الأهلية السورية المستمرة، حيث أدى دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأكراد إلى تأجيج حالة عميقة من انعدام الأمن لدى أنقرة.

في نهاية المطاف، كان التحالف الاستراتيجي الأمريكي التركي مضغوطًا بشدة من أجل الانتقال من مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى مرحلة عالم متعدد الأقطاب.

قال "كوك": "إذا نظرنا إلى الوراء، يمكنك القول إنها كانت قصة نهاية يمكن التنبؤ بها"، فبعد فترة وجيزة من اختفاء الاتحاد السوفييتي ظهرت تركيا أكثر قومية بعد نهاية القرن، ولم تكن تريد أن تكون مجرد ملحق للغرب، وتقع تركيا في مفترق طرق، وتمتد أراضيها عبر أوروبا وآسيا، على الحدود مع إيران وجمهورية جورجيا السوفييتية السابقة، وتحدها سوريا على الحدود الجنوبية.

وتفسر هذه الجغرافيا رغبة أنقرة في تبني نظام التعددية القطبية، يقول "نيكولاس دانفورث"، الخبير في الشأن التركي التركي "بعد الحرب الباردة، كانت أي حكومة تركية ستحاول وضع سياسة خارجية أكثر استقلالاً ودورًا إقليميًا أكثر بروزًا، الفرق هو أنه يمكن أن يكون ذلك بطريقة تتوافق مع المصالح الغربية أو تتعارض مع المصالح الغربية"، وكما اتضح لاحقا، فإن أي اتجاه ستسلكه تركيا كان سيضعها في نهاية المطاف في صدام مع المصالح الغربية.

تسهل دراسة العلاقة في وقت مبكر من الحرب الباردة علينا فهم كيف أصبحت أجيال من صانعي السياسة الأمريكية ينظرون إلى تركيا كحليف لا غنى عنه.

وعندما انضمت تركيا إلى الناتو في عام 1952، فإنها جلبت إلى الحلف أكبر جيش بري وجغرافيا لا تقدر بثمن، وفي عام 1954، تمكنت الولايات المتحدة من الوصول إلى قاعدة إنجرليك الجوية ذات الموقع الرائع، والتي لا تزال منصة إطلاق رئيسية للعمليات الأمريكية في الشرق الأوسط، كما تضم ​​أسلحة نووية أمريكية.

وبعد مرور عام، انضمت تركيا إلى حلف بغداد، وهو تجمع معاد للشيوعية في الشرق الأوسط، ولكن حتى في سنوات الحرب الباردة، كانت هناك خروقات حادة بين البلدين، وفي الستينات، أجرى الرئيسان "جون كينيدي" و"ليندون جونسون" محادثات دبلوماسية مع تركيا.

وفي سبعينات القرن الماضي، بعد أن غزت تركيا النصف الشمالي من قبرص وأنشأت جمهورية تركية منفصلة، ردت واشنطن بسنوات من الحظر على الأسلحة.

وقال "روس ويلسون"، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في تركيا من عام 2005 إلى عام 2008: "بطريقة ما، تسبب حظر الأسلحة المفروض على تركيا ينذر في تقلص ثقة تركيا في الولايات المتحدة كمورد للأسلحة"، وأضاف: "قد تقلصت بشدة قدرة تركيا على شراء معدات منا خلال تلك الفترة وأثيرت تساؤلات حول مدى موثوقية أمريكا".

لاحقا كان أول تحد كبير لعلاقة البلدين بعد الحرب الباردة هو حرب الخليج الثانية مطلع التسعينات التي فتحت أحد الشقوق الحاسمة في العلاقة والتي أصبحت فيما بعد فجوة كبيرة.

وفي حين أن صانعي السياسة الأتراك والجيش أيدوا على نطاق واسع الهجوم الأمريكي على عراق "صدام حسين"، لكنهم كانوا قلقين من ظهور دولة كردية شبه مستقلة في شمال العراق بعد الحرب.

بالنسبة لتركيا، تعتبر القومية الكردية تهديدًا وجوديًا، فقد أمضت البلاد عقودًا تقاتل مجموعة متمردة ذات طابع ماركسي متطرف، تُعرف باسم حزب العمال الكردستاني ولديها مخاوف عميقة من أن يشكل أي كيان كردي تهديدا أمنياً مشددًا.

وأدت الحماية التي منحتها إدارة "بوش" لأكراد شمال العراق من قوات "صدام" بعد الحرب إلى إثارة الشكوك التركية بأن واشنطن كانت تعزز - عن قصد أو بدون قصد - المسلحين الأكراد، وقال "دانفورث": "كانت لدى تركيا مخاوف من دعم الولايات المتحدة للأكراد المستقلين بعد حرب الخليج الأولى".

وبعد عقود، كانت واشنطن تعزز دعمها للقوات الكردية، حتى بدون أن تصل الأمور إلى حد الدعوة إلى الاستقلال الكردي الكامل.

وعشية الغزو الأمريكي للعراق قرب منتصف الليل في أوائل عام 2003 هرع ضابط من هيئة الأركان الأمريكية المشتركة إلى مكتب "جيم تاونسيند"، وهو مسؤول في البنتاغون كان يتابع خطط الغزو، يتذكر "تاونسيند" الحوار قائلا: "لقد قال لي نحن نحتاج منك أن تُظهر لنا أين يمكن أن تنزل القوات التركية في شمال العراق".

وفي مقابل السماح للقوات الأمريكية بضرب العراق عبر تركيا، أرادت أنقرة، التي تخشى من نمو النفوذ الكردي في العراق وسط حرب الخليج، إرسال جيشها الخاص إلى شمال العراق ليكون لها رأي أكبر في مستقبل البلاد بعد الغزو.

وعلى ما يبدو، فإنها الولايات المتحدة رفضت طلب تركيا، لذا فإنها فشلت في ضم تركيا إلى الغزو الأمريكي، لتشهد حرب العراق أول انفصال كبير بين الحليفين منذ الخلاف القاسي على قبرص قبل عقود.

وفي ربيع عام 2003، رفض البرلمان التركي إعطاء الإذن لفرقة تابعة للجيش الأمريكي لغزو العراق عبر تركيا، ما أزعج التخطيط العسكري الأمريكي وزرع الشكوك في البنتاغون.

وكان "أردوغان" يخشى من أن يؤدي غزو العراق إلى زعزعة الاستقرار وأن يشعل العنف الكردي في النهاية، كان الأتراك لا يزالون يتذمرون من حقيقة أن الولايات المتحدة لم تفِ بالتزاماتها في تعويض الخسائر الاقتصادية التركية بسبب الإجراءات التي اتخذوها خلال حرب الخليج، بعد أشهر من الغزو، عندما قام جنود اللواء 173 المحمول جواً بتغطية رؤوس الجنود الأتراك أثناء محاولتهم تهدئة التمرد في شمال العراق، بدا أن هذه الهواجس كانت مبررة أكثر فأكثر في نظر الحكومة التركية.

التحول التركي

وبعد مرور عام على الغزو، عندما ألغى حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار وبدأ مرة أخرى في قتال القوات التركية بعد هدنة مدتها 5 سنوات، كان الخطأ في نظر الأتراك واضحًا، وقال "كوك": "حذر الأتراك الولايات المتحدة من أن غزو العراق سيقوض استقرارهم، وقد حصل ذلك".

تزامنت هذه التوترات الجيوسياسية مع تحول سياسي داخل تركيا ذي أبعاد تاريخية، وقبل عام من حرب العراق، فاز حزب "العدالة والتنمية" بالانتخابات التركية، وتولى السلطة منذ ذلك الحين، وبقيادة "أردوغان"، وهو إسلامي لديه رؤى لاستعادة هيبة وعظمة الإمبراطورية العثمانية المفقودة، وضعت تركيا جانباً جذور الحكم العلمانية للبلاد والاعتماد التقليدي على الغرب وبدأت في رسم سياسة خارجية مستقلة حقًا.

وكان رفض تركيا منح الجيش الأمريكي حق الوصول للأراضي التركية أثناء غزو العراق مجرد مظهر من مظاهر تركيا الأكثر ديمقراطية ولكن أيضا الأكثر حزما واستقلالية، في هذا الوقت، عندما عزز "أردوغان" قبضته على السلطة، بدأ بعض المسؤولين الغربيين يفكرون فيما إذا كانت المؤسسات الديمقراطية في تركيا تؤهلها للانضمام إلى الاتحاد الأوربي.

وفي منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وحتى في ظل تدهور العلاقات الأمريكية التركية، كانت تركيا في محادثات الانضمام للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مدعومة بالسكان المؤيدين للغرب ووعد الاندماج مع أكبر كتلة اقتصادية في العالم.

وكان الضم يتطلب قيام تركيا بإصلاحات حكومية واسعة النطاق تهدف إلى تعزيز الديمقراطية، لكن تلك الجهود توقفت في عامي 2008 و2009، وسط معارضة من ألمانيا وفرنسا، وكذلك قبرص - الجزيرة التي لا تزال منقسمة بعد غزو تركيا عام 1974 - للانضمام التركي.

وجعل موقف الاتحاد الأوروبي من السهل على الأتراك أن يشعروا أنه حتى لو قاموا بإصلاح كل شيء، فإنه ليس هناك ضمانات لانضمامهم، ولا تزال محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مستمرة من الناحية الفنية، لكن معظم المحللين يقولون إن العملية قد ماتت بالفعل.

ومع توقف المحادثات مع الاتحاد الأوروبي في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، أصبح "أردوغان" أكثر انشغالا بتدعيم سلطته السياسية، ولفترة وجيزة استعان بمساعدة "فتح الله غولن" وهو رجل دين تركي ثري مقيم في الولايات المتحدة يمتلك قاعدة عريضة من الدعم في أجزاء من المجتمع التركي من خلال إمبراطورية تجارية واسعة امتدت في النظام التعليمي والإعلام والمؤسسات المالية.

وساعد دعم "كولن" أردوغان جزئيا على تحقيق انتصار مهم لحزب العدالة والتنمية في عام 2011، لكن زواج المصلحة سرعان ما انهار بعد نشوب الاحتجاجات ضد الحكومة التركية في عام 2013، وألقى "أردوغان" باللوم على غولن لتحريضه على الاحتجاجات، ما أدى إلى حدوث خلاف بين الرجلين لم يشف قط وتطور في نهاية المطاف إلى انقلاب مثيرة في عام 2016.

في تلك الفترة، كانت مخاوف "أردوغان" وشكوكه تجاه الولايات المتحدة تتزايد وخاصة بعد إطاحة الجيش المصري في عام 2013 برئيس البلاد الإسلامي المنتخب ديمقراطياً، "محمد مرسي"، وهو انقلاب قبلته الولايات المتحدة وربما دعمته ضمنيا، ومع نشوب احتجاجات تركيا عام 2013، التي سميت باسم حديقة جيزي بارك في إسطنبول، بدأ "أردوغان" يرى اليد المظلمة للمؤامرة الغربية، الممثلة في نفوذ "كولن" المتوسع.

وعندما نظرت تركيا إلى جميع أنحاء المنطقة، فإن ما رأته لم يؤجج سوى مخاوفها. لقد دفعت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، من أجل تغيير النظام في ليبيا، ما أدى إلى مقتل "معمر القذافي"، وكانت تطالب بإسقاط حكم "الأسد في سوريا" كما فرض خصوم تركيا المؤيدين لأمريكا في الشرق الأوسط، بقيادة المملكة العربية السعودية حصارا على قطر وهي واحدة من أصدقاء تركيا القلائل في المنطقة.

وفي نفس الوقت، توترت علاقات تركيا مع (إسرائيل) بشكل كبير في عام 2010 بعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية سفينة تركية أرسلت لمساعدة الفلسطينيين في قطاع غزة.

المعضلة الكردية

وقال "دانفورث": "من وجهة نظر تركيا كانت كل الشواهد تشير إلى زيادة العداء الغربي. وكان لذلك كله تأثير تراكمي في تغير السياسة الخارجية التركية"، وتفاقم هذا الشعور بسبب النهج الأمريكي لمحاربة الجهاديين في الحرب الأهلية السورية، وبينما زعمت الولايات المتحدة في عهد الرئيس "باراك أوباما" إنها تريد رؤية "الأسد" يغادر السلطة، فإن الجهود العسكرية الأمريكية في سوريا كركزت على استهداف "الإرهابيين الإسلاميين"، وخاصة الدولة الإسلامية.

بالنسبة لواشنطن، احتلت الحرب ضد الدولة الإسلامية الأولوية المطلقة؛ أما بالنسبة لتركيا فلم يكن الجهاديون هم أكبر تهديد يخرج من سوريا، بل الأكراد المسلحين الذين كانوا يقومون على نحو ثابت بالسيطرة على أراضي في شمال سوريا، على الحدود مع تركيا.

وللحصول على قوة قتالية موثوقة على الأرض للعمل بالتوازي مع القوة الجوية الأمريكية، استقرت واشنطن بحلول عام 2015 تقريبًا بشكل افتراضي على المقاتلين الأكراد في وحدات حماية الشعب التي تنظر إليها تركيا أنها جناح مسلح سوري لحزب العمال الكردستاني، الذي قاتل أنقرة لعقود.

وكانت الولايات المتحدة نفسها قد صنفت حزب العمال الكردستاني على أنه جماعة إرهابية في عام 1997، لكنها أتاحت المجال للعمل مع المقاتلين الأكراد المسلحين في سوريا لأن المسؤولين الأميركيين شعروا أنه لا توجد بدائل قابلة للتطبيق.

وقال "إيسنستات": "في الأساس، أساءت الولايات المتحدة فهم أولويات تركيا في الحرب واعتقدت أن المخاوف من الدولة الإسلامية سوف تطغي على هوس تركيا التاريخي بمنع الدولة الكردية". وكانت الولايات المتحدة تحتاج إلى مقاتلين برييم وكانت الخيارات إما الجيش التركي أو وحدات حماية الشعب، لكن أنقرة لم تضع الجيش التركي أبدًا في خدمة حرب "أوباما" ضد الدولة الإسلامية بل أقامت حواجز على الطرق أعاقت استخدام الولايات المتحدة للمنشآت التركية،بما في ذلك قاعدة إنجرليك الجوية.

وأدى ذلك إلى سوء فهم قاتل أدى في نهاية المطاف إلى تسمم العلاقة. وكانت الساحة الرئيسية للنزاع هي سوريا. وقال "روبرت مالي"، مستشار أوباما للشرق الأوسط من عام 2014 إلى عام 2017، إن الإحباط الأمريكي من تقاعس تركيا، إلى جانب غضب تركيا من دعم الولايات المتحدة لوحدات حمايات الشعب الكردية، عمقا التدهور في العلاقات.

وأضاف "مالي" المدير التنفيذي الحالي لمجموعة الأزمات الدولية: "شعرت واشنطن أن أنقرة كانت تعد دائمًا بأكثر بكثير مما ستحققه في الحرب ضد تنظيم الدولة، واعتبرت أنقرة أن دعم الولايات المتحدة للجماعة الكردية كان بمثابة خيانة".

سعت إدارة "أوباما"، التي يقودها نائب الرئيس "جو بايدن"، مرارًا وتكرارًا إلى طمأنة تركيا بشأن تعميق تعاون الولايات المتحدة مع القوات الكردية، لكنها اصطدمت بمخاوف تركيا العميقة الجذور.

وقال "مالي": "في كل مرة تتخذ فيها إدارة أوباما خطوة في اتجاه الأكراد، كانت تسبقها محاولة لاسترضاء الأتراك".

وأضاف "مالي": "لكن عندما بدا حسب تقدير الإدارة أن تركيا ليست مستعدة للقيام بما يكفي وأن الطرف الوحيد على الأرض الراغب في خوض المعركة مع تنظيم الدولة هو وحدات حماية الشعب الكردية، شعر أوباما أنه لا خيار له، وجاء الانخراط الأمريكي مع المقاتلين الأكراد في الوقت الذي كانت فيه تركيا تعارض استخدام الولايات المتحدة لإنجيرليك لتنفيذ هجمات ضد الدولة الإسلامية".

ولمدة عام كامل، تنازع حليفا الناتو على قدرة الولايات المتحدة على الاستفادة الكاملة من قاعدة جوية كانت - في نظر الولايات المتحدة - تعمل لعدة عقود كمظلة أمنية للناتو. ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، كانت "إنجرليك" قاعدة أمريكية، لكن الأتراك تعاملوا على أنها قاعدتهم.

وقال "كوك": "تركت المفاوضات المطولة مع أحد حلفاء حلف شمال الأطلسي حول استخدام إنجرليك لخوض المعركة ضد الدولة الإسلامية انطباعا سيئا لدى بعض مسؤولي البنتاغون الذين لديهم بالفعل وجهة نظر متهيجة ضد تركيا بسبب حرب العراق".

من التوتر إلى العداء

إذا كانت حالة من عدم الثقة وسوء الفهم بين الولايات المتحدة وتركيا قد وصلت بالفعل إلى مرحلة الحمى بحلول عام 2016، فقد كانا على وشك مواجهة وضع أكثر سوءًا. وفي 15 يوليو/ تموز 2016، قامت عناصر من الجيش التركي بانقلاب فاشل ضد "أردوغان".

وقامت طائرات تركية من طراز "إف - 16" أقلعت من إنجرليك بتتبع الطائرة الرئاسية بعد أن نجا "أردوغان" من محاولة اغتيال في فيلا ساحلية، وقامت طائرة أخرى بقصف البرلمان.

وعلى مدار ساعات مضطربة، كان من غير الواضح ما إذا كان الجنرالات قد أطاحوا بأردوغان أم لا, وعندما جاءت فرصة لدعم "أردوغان" علنًا مع تكشف مؤامرة الانقلاب ترددت واشنطن وقوى أوروبية أخرى في تقديم الدعم. وأثناء ترددهم، قفز الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" وشغل الفراغ ، ليصبح واحدًا من أوائل القادة الأجانب الذين اتصلوا بـ"أردوغان" وأدانوا محاولة الانقلاب مما دفع تركيا أكثر إلى مدار روسيا ودعم نفوذ موسكو المتزايد في الشرق الأوسط بعد تدخل روسيا العسكري في سوريا لدعم "الأسد". وقال "كاجبتاي"، وهو خبير تركي في معهد واشنطن: "لقد رأى بوتين حدثا يمكن أن يكون بداية لخلاف دائم بين أنقرة وواشنطن لأن الحكومة الأمريكية ترددت في الوقت نفسه للرد على الانقلاب".

وبعد أن خرج "أردوغان" من محاولة الانقلاب الفاشلة دون أن يلحق به أذى، شرع في حملة انتقامية على مستوى البلاد، وأقال أكثر من مائة ألف موظف حكومي، واعتقل أكثر من 40 ألف شخص، ووسع سلطاته الرئاسية لاقتلاع المعارضين.

وأصبحت واشنطن والحلفاء الأوروبيين يشعرون بالقلق بشكل متزايد إزاء تفكيك "أردوغان" للمؤسسات الديمقراطية وقمع الصحافة الحرة والمجتمع المدني. كما أصبح احتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي - حتى مع تحمل تركيا وطأة أزمة اللاجئين وسط النزاع السوري - مجرد حلم صعب المنال.

ويعتقد الكثيرون في تركيا أن الولايات المتحدة إما لعبت دورًا في الانقلاب أو عرفت به مسبقًا - وهي اتهامات نفاها المسؤولون الأمريكيون بثبات وبشدة - مما زاد من ابتعاد حكومة تركيا وشعبها عن الولايات المتحدة.

وكانت إقامة "غولن"، المتهم بالوقوف وراء الانقلاب في الولايات المتحدة أحد الأسباب الكبيرة التي أكدت شكوك أنقرة خاصة بعدما رفضت وزارة العدل الأمريكية الخضوع للمطالب التركية لإرساله إلى تركيا لمواجهة التهم، قائلة إن تركيا لم تقدم أدلة كافية لتبرير أي طلب تسليم.

ومع الفوز المفاجئ لـ"دونالد ترامب" في عام 2016، ظهرت احتمالات لتحسن العلاقات الأمريكية التركية نظريا، ويتشاطر "ترامب" و"أردوغان" الإعجاب بالسلطوية، وازدراء الصحافة الحرة، والرغبة في التواصل مع روسيا.

والأهم من ذلك، من وجهة نظر أنقرة أن مستشار الأمن القومي الجديد "مايكل فلين" على قائمة من يعملون بنشاط من أجل المصالح التركية خلال الفترة الانتقالية الرئاسية وحتى بعد التنصيب.

ولكن على الرغم من التقارب الشخصي بين الرئيسين، والذي يبدو أنه مستمر على الرغم من الخلاف بين البلدين، فإن وصول "ترامب" لم يغير المسار الأساسي للعلاقة. وبعد أشهر من الانقلاب الفاشل، احتجزت تركيا قسًا إنجيليًا أمريكيًا يعمل في تركيا، هو "أندرو برونسون"، بتهمة الإرهاب.

وفي عام 2017، سعى "أردوغان" إلى مقايضة القس للحصول على "غولن" لكن الولايات المتحدة رفضت ذلك، بحلول عام 2018، فرضت إدارة "ترامب" عقوبات على كبار المسؤولين الأتراك لفرض إطلاق سراح "برونسون".

عكس سوء التفاهم بين "أردوغان" و"ترامب" الانهيار الأوسع نطاقًا في العلاقة التي خرجت بالفعل عن القضبان في سوريا.

وسبق أن رفضت واشنطن مرارًا وتكرارًا سعي تركيا لسنوات للحصول على أنظمة دفاع جوي أمريكية وجميع التقنيات المرتبطة بها، وفي عام 2015، سعت أنقرة إلى شراء صواريخ صينية، ولكن قامت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بمنع ذلك.

في النهاية، تحولت إلى روسيا بحثًا عن أسلحة، على أمل إجبار الولايات المتحدة على إعادة النظر. لكن بالنسبة لمسؤولي الدفاع في الولايات المتحدة، كان نقل التكنولوجيا هذا دائمًا غير وارد فضلا عن أن المنظومة الروسية تتعارض تمامًا مع شراء تركيا لأحدث الطائرات الأمريكية.

وقال "تاونسيند"، المسؤول السابق في البنتاغون: "الأمر المختلف هنا، أكثر من أي شيء آخر، هو أن الكثير من الخلافات السابقة داخل حلف الناتو كانت سياسية. هذا خلاف عسكري"، ورغم الرفض الأمريكي الشديد للخطوة فقد أقدمت عليها تركيا في النهاية.

ويكمن الدافع الخفي لـ"أردوغان" لشراء المنظومة الروسية في محاولة الانقلاب، التي أخافته بشدة وصدمت الجمهور التركي. فإلى جانب الجغرافيا السياسية أو العداء تجاه واشنطن، يريد "أردوغان" ببساطة البقاء محصنا في حالة ظهور محاولة انقلاب أخرى.

ويقول بعض المحللين إنه بعد مواجهة طائرة "إف - 35" الأمريكية الصنع في محاولة الانقلاب لعام 2016، فإن تفكيره مدفوع بما سيكون أفضل نظام صاروخي لإيقاف أي مقاتلات غربية. وبطبيعة الحال، تكمن الإجابة في نظام روسي الصنع.

بخلاف ذلك، ومع انتقال تركيا للأسلحة الروسية المتقدمة، فإنها تقترب أيضًا من موسكو في قطاع الطاقة، بما في ذلك خط "ترك ستريم" وهو خط أنابيب رئيسي للغاز يمتد من ساحل البحر الأسود الروسي إلى تركيا يهدف إلى تزويد كل من السوق المحلية (ثاني أكبر عميل أوروبي لروسيا) وفي المستقبل، جنوب أوروبا.

ويثير اقتراب تركيا من روسيا أسئلة أكثر حدة الآن من أي وقت مضى منذ منتصف القرن العشرين مثل عضوية تركيا في الناتو وديمومة تحالفها مع روسيا، ويقول البعض إن تحول "أردوغان" شرقًا قد يكون مؤقتا، لأنه يدرك أن روسيا ليست حليفًا مثاليًا في سوريا أو في أي مكان آخر.

وحتى لو كان بمقدور الناتو طرد تركيا من الحلف، فلا يبدو أن هناك شهية في واشنطن أو أي عواصم تابعة للناتو للقيام بذلك، بالنظر إلى أهمية تركيا التاريخية والجيوسياسية كعضو، وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "ينس ستولتنبرغ" في مؤتمر أمني يوم الأربعاء عندما تم الضغط عليه: "تركيا عضو مهم في الناتو، ولم يثر أي حليف هذه القضية"، وأضاف: "تركيا، كعضو في حلف شمال الأطلسي ، هي أكثر بكثير من مجرد صفقة إس-400".

المصدر | فورين بوليسي - ترجمة الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية

سفارة أمريكا بتركيا: مباحثات جيفري كانت صادقة ومثمرة

مباحثات تركية أمريكية حول سوريا وليبيا ومكافحة الإرهاب