ببطء لكن بثبات.. كيف تؤسس روسيا نفوذها في الخليج؟

السبت 26 أكتوبر 2019 11:37 م

في 14 أكتوبر/تشرين الأول، تم استقبال الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" على درج ممر للطائرات في الرياض، وكان في انتظاره سجادة حمراء مزودة بحاجز ذهبي (درابزين). وفي المقابل، لاحظت صحيفة "فيدوموستي" الروسية أن آخر زيارة دولة قام بها "بوتين" للبلاد، عام 2007، حظيت باستقبال متواضع بوجود السجادة فقط.

وخلال المحطة التالية من رحلته، أشاد ولي عهد أبوظبي، الأمير "محمد بن زايد آل نهيان"، بـ"بوتين"، واصفا إياه بأنه "أخ عزيز وصديق". ويعد البروتوكول الجديد الأكثر ودية الذي رافق زيارة "بوتين" إلى السعودية والإمارات "قفزة نوعية" في العلاقات الخليجية الروسية خلال الأعوام الـ12 الماضية. وعلى وجه الخصوص، تعززت التبادلات التجارية من خلال تعاون استراتيجي أعمق في أسواق الطاقة والأمن الإقليمي والاستثمارات المتبادلة في مجالات البنية التجتية ومبادرات التنويع الاقتصادي. وعلى الرغم من أن الخليج لم يكن تقليديا ذا أولوية في السياسة الخارجية الروسية، على عكس الدول الأوروبية المجاورة، فإن التغييرات النوعية في الارتباط الروسي الخليجي صارت ملحوظة ولافتة.

العلاقات التجارية والاستثمارية

وخلال زيارة "بوتين"، تم توقيع سلسلة من مذكرات تفاهم واتفاقيات تعاون بقيمة ملياري دولار مع المملكة العربية السعودية، و1.3 مليارات دولار مع الإمارات العربية المتحدة. وفي ضوء الهدف المشترك المتمثل في تزيز الأصول الهيدروكربونية، احتلت الاتفاقات المتعلقة بالطاقة مركز الصدارة. وشمل ذلك منح "أدنوك" الإماراتية حصة قدرها 5% في امتياز "غشا" للغاز الحامض المملوك لصالح شركة "لوك أويل" الروسية، ما يمثل أول مشاركة لشركة طاقة روسية داخل دولة الإمارات.

وتنضم "لوك أويل" إلى شركة أبوظبي الوطنية للنفط "أدنوك" و3 من أصحاب الامتيازات الأجنبية لتسهيل هدف الإمارة المتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز. وكان هناك اتفاق مهم آخر هو الاستحواذ المشترك على حصة 30.76% في شركة معدات خدمات حقول النفط الروسية، "نوفومنت"، من قبل صندوق الاستثمار العام السعودي وصندوق الاستثمار المباشر الروسي. ومع حصة 4% من سوق خدمات حقول النفط العالمية، تعد "نوفومنت" أحد الأصول الجذابة التي كانت تتطلع إليها شركة "هاليبورتون" الأمريكية عام 2018. ومع ذلك، قد يتم حظر البيع للشركة الأمريكية بواسطة "هيئة مكافحة الاحتكار الفيدرالية الروسية"، بسبب أن "نوفومنت" تقوم بتصنيع المضخات التي تنتج 20% من النفط الروسي، وتصنف على أنها من الأصول المحلية الاستراتيجية.

وكان التعبير عن الاهتمام بالمشاريع غير الهيدروكربونية، بما في ذلك الفضاء والصحة والمفاعلات النووية الصغيرة والبنية التحتية، من معالم زيارة "بوتين". وتتماشى هذه المشروعات مع خطط التنويع الاقتصادي في السعودية والإمارات، بالإضافة إلى المشاريع الوطنية الروسية لتحديث البنية التحتية البشرية والمادية، التي تستهدف جذب التمويل من الجهات الفاعلة الحكومية في الشرق الأوسط والصين.

وستستفيد المشروعات المحتملة من النجاح الذي تحقق في الأعوام القليلة الماضية في التعاون المستمر بين صندوق الاستثمار العام السعودي وصندوق الاستثمار المباشر الروسي في بناء مجمع "توشينو" التكنولوجي في روسيا، وكذلك استحواذ صندوق الثروة السيادية في أبوظبي، "مبادلة"، على حصة في "المجموعة الروسية للياقة البدنية" بمشاركة صندوق الاستثمار الروسي. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى نية بعض الشركاء الروس لتوطين الإنتاج أو الخدمات في السعودية، تمشيا مع مبادرة المملكة لخلق فرص العمل ونقل المعرفة.

فرص وتحديات

ومع ذلك، يبقى تحقيق المشاريع التي تم الإعلان عنها خلال الزيارة قيد الانتظار، لأن معظم الاتفاقيات لم تكن ملزمة. وخلال زيارة العاهل السعودي "سلمان بن عبد العزيز" إلى موسكو عام 2017، تم إبرام عدد كبير من الصفقات، لكن الكثير منها لا يزال على الورق، بما في ذلك اهتمام الرياض بشراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي  "إس-400".

ومن المرجح أن يتعزز حجم التجارة الثنائية المتبادلة بعد الزخم الذي حققته زيارة "بوتين" الأخيرة، إلى جانب اتفاقات التعاون بشأن الاستثمارات، والاستقرار النسبي لأسعار النفط وبالتالي الإنفاق الحكومي مع خضوع الإيرادات الحكومية إلى تقلبات أقل في الأسعار، والنمو في التبادل السياحي والثقافي بفضل نظام التأشيرات الأكثر تحررا. وكأكبر شريك تجاري لروسيا في الخليج، وفقا لصندوق النقد الدولي، زادت تجارة الإمارات مع روسيا من 600 مليون دولار إلى 2.4 مليارات دولار بين عامي 2007 و2018. ووصلت التجارة السعودية الروسية إلى 1.9 مليارات دولار في عام 2014، خلال ذروة أسعار النفط، لتتراجع إلى 900 مليون دولار في عام 2018، بما يعادل ما كانت عليه عام 2007. وعلى الرغم من أن روسيا تحتفظ بفائض تجاري صحي، إلا أن التحسينات في التجارة بين الخليج وروسيا تواجه تحديا بسبب تشابه اقتصاداتها القائمة على الطاقة. وعلى النقيض من ذلك، فإن تجارة روسيا مع الدول الأقل وفرة في الطاقة مثل مصر أو تركيا أكبر بكثير من الحجم الإجمالي لتجارة روسيا مع دول الخليج الست.

ومن المرجح أن تظهر مصادر جديدة للتجارة والاستثمار خلال الأعوام الـ 5 القادمة، في مجالات مثل الغذاء والموانئ. ومن المتوقع أن تدخل روسيا، أكبر دولة مصدرة للقمح في العالم، من جديد إلى سوق الحبوب السعودي، لتستحوذ على حصتها في السوق من الموردين الأوروبيين. وبفضل جهود الضغط التي بذلتها روسيا، مع المخاوف السعودية بشأن الأمن الغذائي لسكانها الذين يتزايد عددهم بسرعة، أعلنت المملكة في أغسطس/آب أنها ستخفف من المواصفات القياسية لواردات القمح، ويفتح هذا السوق بشكل فعال للواردات الروسية. وتدرس الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والحيواني الاستثمار في منتج الحبوب الروسي "آر زد أغرو"، لتأمين إمدادات الحبوب، في حين تهتم "مبادلة" بشراء حصص في شركتين زراعيتين روسيتين.

وقد يكون السبيل الجديد الآخر للتعاون بين الخليج وروسيا هو إدارة الموانئ على طول ممر بحر الشمال الروسي في القطب الشمالي، حيث تجعل ظاهرة الاحتباس الحراري وكسارات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية الروسية من الممر خيارا قابلا للتطبيق وتوفر طريقا أقصر للشحن بين الشرق والغرب. ومنذ عام 2013، على سبيل المثال، ازدادت حركة الملاحة البحرية هناك 5 أضعاف، ومن المتوقع أن تتضاعف 4 مرات من الآن حتى عام 2024 بعد اعتماد الصين لـ"طريق الحرير القطبي". ووافقت موانئ دبي العالمية، ومقرها دبي، في يونيو/حزيران، على دراسة جدوى لبناء سلسلة من الموانئ على طول القطب الشمالي مع شركاء روس. وليست هذه هي المرة الأولى التي تهتم فيها موانئ دبي العالمية بروسيا. لكن الفرق هذه المرة أن المشروع يقع في منطقة القطب الشمالي المزدحمة بشكل متزايد، وهو استثمار مشترك بمشاركة صندوق الاستثمار المباشر الروسي المدعوم من الدولة.

ومن المقرر أن تستمر المشروعات القائمة على الهيدروكربونات في التوسع. وتشمل المشاريع المحتملة تعاون شركة "سيبور" الروسية للبتروكيماويات و"أرامكو" السعودية لبناء مصنع للمطاط الصناعي في المملكة وحصة سعودية محتملة في المرحلة الثانية من مصنع "نوفاتيك" للغاز الطبيعي المسال في "يامال" في القطب الشمالي.

التفاعلات الاستراتيجية

وعلى المستوى الاستراتيجي، من المرجح أن تعزز زيارة "بوتين" التنسيق داخل التحالف بين أوبك ومنتجي النفط من خارج أوبك، أو ما يعرف بـ"أوبك بلس" بشأن إمدادات النفط العالمية. وعلى الرغم من أن وزراء النفط قاموا بالتوقيع على ميثاق تعاون خلال فصل الصيف، إلا أن حفل التوقيع الرسمي بين الملك "سلمان" و"بوتين" خلال الزيارة الأخيرة قد أضفى ثقلا على الاتفاقية. وعلى الرغم من وجود بعض التذمر والاستياء داخل صناعة النفط الروسية بشأن حدود تخفيضات الإنتاج التي تمتد حتى عام 2020، إلا أن الاتفاقية ظلت صامدة. وجاء هذا النجاح في تنسيق سوق الطاقة في أواخر عام 2016 بعد محاولات سابقة فاشلة لدعم أسعار النفط في الأعوام 1999 و2001 و2009.

ولعل المصدر الأكبر للاختلاف في العلاقات الخليجية الروسية بين الماضي والحاضر يتعلق بدور روسيا في الشرق الأوسط، حيث تمارس الآن نفوذا في كل صراع كبير تقريبا في المنطقة بعد فترة سابقة من الغياب. وبالنسبة لروسيا، يعد نجاحها في المنطقة فرصة مفاجئة ومرحب بها لأن الشرق الأوسط لم يكن يمثل أولوية استراتيجية لها مثل أوروبا والمحيط السوفيتي. وكما أشار مستشار السياسة الروسية البارز، "فيودور لوكيانوف"، فإن موسكو "لن ترفض فرصا إضافية في البلدان المهمة وأسواقها. لكن النهج الذي تبنته روسيا في المنطقة منذ عام 2011 تمليه في المقام الأول الرغبة في حماية نفسها من الصدمات الأكبر، التي تعتقد موسكو أنها ستنجم عن التدخلات الغربية لإسقاط الأنظمة القائمة المرتبطة بموسكو، وانتشار الأنشطة الإرهابية إلى روسيا وجمهوريات ما بعد الاتحاد السوفيتي.

وتأمل السعودية والإمارات، بعد أن شرعتا في تطبيق سياسات خارجية أكثر تدخلا، في استغلال علاقة موسكو بالأنظمة في إيران وسوريا وتركيا؛ لتهدئة التوترات في الخليج وسوريا واليمن وليبيا. على سبيل المثال، سيجعل التوغل التركي الأخير في سوريا من روسيا بلا شك لاعبا أكثر أهمية. ومع ذلك، تدرك روسيا أنه لكي تكون أي تسوية سياسية ذات مصداقية في سوريا فإنها تحتاج لدعم الدول العربية الرئيسية، مثل السعودية والإمارات، ومن هنا تأتي قيمة إعلان الشراكة الاستراتيجية لعام 2018 بين روسيا والإمارات.

وأخيرا، من المرجح أن يكون "بوتين" قد ناقش مع مضيفيه خطة روسيا الأمنية الجماعية للخليج، التي تم الكشف عنها في الأمم المتحدة في يوليو/تموز. وتدعو الخطة إلى إنشاء تحالفات دولية بين دول الخليج وأصحاب المصلحة الخارجيين، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند والصين. ويمكّن الاقتراح الروسي البلاد من ممارسة نهج استباقي؛ ويعزز من تأثير السياسة الخارجية الروسية، بينما يظهر التقييدات التي تعامي منها السياسة الأمريكية.

هيمنة جديدة في الخليج؟

ومن غير المحتمل إلى حد كبير أن تحل روسيا محل الولايات المتحدة كضامن أمن للممالك الخليجية في المستقبل القريب. فموارد روسيا محدودة نسبيا، ولديها رغبة ضئيلة في تبديدها في منطقة ذات أولوية منخفضة نسبيا مثل الخليج. ومن الواضح أن لها مصالح مشروعة في المنطقة، وهي تنمو في نطاقها وعمقها كما توضح زيارة "بوتين" للمنطقة، لكن هذا يتطلب فقط أن تعزز روسيا تفاعلاتها مع الخليج والشرق الأوسط الكبير.

وفي مقابلة تم إجراؤها معه قبيل زيارته للمنطقة، أقر "بوتين" بأن لدى روسيا "مستوى غير مسبوق من الشراكة، والعلاقات الودية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وأنها تسعى للصداقة مع كل البلاد". وبالطبع فإن روسيا وإيران جارتان، ولديهما علاقات طويلة الأمد. ويبدو أن وجهة نظر "بوتين"، إلى جانب إحجام الرئيس "دونالد ترامب" عن استخدام القوة الأمريكية في الخليج، تشير إلى أن الرئيس السابق "باراك أوباما" ربما كان على حق بعد كل شيء. فربما يجب على دول الخليج فقط أن تتعلم كيفية مشاركة الشرق الأوسط مع إيران، وقد تساعد روسيا في هذا.

المصدر | معهد دول الخليج العربي في واشنطن

  كلمات مفتاحية