قلب طهران المخترق.. هكذا اخترق الجواسيس الأجهزة الثورية الإيرانية

الجمعة 15 نوفمبر 2019 10:05 م

قبل 40 عاما من مثل هذه الأيام، اقتحم مجموعة من الطلاب الإسلاميين الثوريين السفارة الأمريكية في طهران واحتجزوا موظفيها كرهائن. وكانت الحكومة الإيرانية الثورية الجديدة، بقيادة "الخميني"، قد وصفت السفارة بأنها "عرين للتجسس".

وألقت أزمة الرهائن التي تلت ذلك بظلالها الطويلة على علاقات إيران بالولايات المتحدة، وهو ما لا يزال واضحا حتى اليوم. ومع ذلك، ربما كان هناك تأثير أقل وضوحا في واشنطن، وهو التأثير الدائم للحدث ورمزيته على رؤية الحكومة الإيرانية للعمل المخابراتي والاستخبارات المضادة.

ومنذ وقت الاستيلاء على السفارة، قضت الجمهورية الإسلامية عقودا في البحث عن جواسيس ومتسللين أينما كان هناك أثر قوي للغرب. وكانت عقلية الشك التي عملت الأيديولوجية الثورية على تعزيزها هي التي وجهت في نهاية المطاف شكوك الجهاز الأمني ​​في الأفراد والمؤسسات المنتخبة في دولة ما بعد الثورة، أي الجزء "الجمهوري" من الجمهورية الإسلامية، الذي استمد قوته من آليات تشبه بشكل ما نظيرتها السائدة في الدول الديمقراطية الغربية.

وربما لأول مرة منذ ثورة 1979، بدأت هذه العقلية في التغير، داخل دوائر الاستخبارات وبين الجمهور على حد سواء. وقد دفعت حملة "أقصى ضغط"، من قبل إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، النظام السياسي الإيراني المنقسم نحو التجانس والإجماع حول مسائل الأمن والبقاء. وبخلاف ذلك، أدت الإخفاقات الفادحة في الاستخبارات، التي سمحت لـ (إسرائيل) باستخراج أكثر من نصف طن من "المحفوظات الذرية" الإيرانية من مستودع في طهران العام الماضي، إلى جانب تقلص موارد الدولة نتيجة للعقوبات، إلى إعادة تقييم هائلة بشكل نادر داخل أجهزة المخابرات والأمن الإيرانية.

وفي مواجهة التهديدات العسكرية المتزايدة في الخارج، واحتمالات الشغب والاضطرابات في الداخل، يبدو أن القادة الإيرانيين خلصوا إلى أنهم لم يعد بإمكانهم التغاضي عن الوجود المحتمل للعملاء والجواسيس، ليس فقط في المكاتب المنتخبة في البلاد مثل الرئاسة والبرلمان التي يتمتع السياسيون الإصلاحيون بنفوذ كبير فيها، ولكن أيضا في أكثر المؤسسات ثورية وعداء للغرب في الدولة.

  • العدو في الداخل

أثار وزير الاستخبارات الإيراني "محمود علوي" ناقوس الخطر على شاشة التلفزيون يوم 24 أغسطس/آب بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وروى "علوي"، أن "الأعداء أصبحوا قريبين جدا". وألمح إلى اختراق مراكز قوة متشددة مثل "الحرس الثوري الإيراني"، الذي يدير منظمته الاستخباراتية الموازية. وقال "علوي" إن السلطات العليا في البلاد كانت "مندهشة"، عندما تلقت تقارير من وزارته حول الأماكن التي يقبع فيها الجواسيس.

ومضى "علوي" للإعلان عن تشكيل "إدارة تجسس" داخل وزارة الاستخبارات، تتمثل مهمتها الرئيسية في المراقبة "الثابتة" عن كثب لأجزاء من أجهزة الدولة. وأشار إلى هذه الأجزاء كفروع من الدولة يعتقد أن فيها الآلاف من العناصر المعادية التي تدعمها وكالات الاستخبارات الأجنبية، وأنهم قد زرعوا أنفسهم على مدى فترة طويلة تصل إلى 20 عاما، في استراتيجية بطيئة للتسلل داخل مفاصل الدولة الإيرانية.

وأكد "علوي" أن استئصال الجواسيس لن يأتي بالعثور على أولئك الذين يبدون متعاطفين مع دول أجنبية بشكل صريح، ولكن بالتدقيق في من هم عكس ذلك؛ حيث "عادةً ما يتبنى الجواسيس أهم الشعارات الثورية، ويتهمون الآخرين بالخيانة بسرعة كبيرة، قبل أن تظهر خيانتهم"، وفقا لـ "علوي".

ولم يمض وقت طويل على تصريحات "علوي" قبل أن يقوم الحرس الثوري الإيراني، الذي يشرف عليه المرشد الأعلى آية الله "علي خامنئي" مباشرة، بإجراء تعديلات في مناصب بعض القادة البارزين. وكانت التغييرات تهدف إلى تعزيز الموقف الإيراني الهجومي في المنطقة، ومعالجة الهفوات الأمنية السابقة. وقد فشلت المخابرات الإيرانية في النهاية في توقع أو منع العديد من الخسائر الكبيرة، مثل اغتيال "أبو الصواريخ" الإيرانية، الجنرال "حسن طهراني مقدم"، في انفجار وقع بالقرب من طهران عام 2011، واغتيال عدد من العلماء النوويين الإيرانيين بين عامي 2010 و2012، ومؤخرا، تسريب كنز من الوثائق النووية السرية للغاية التي حصلت عليها (إسرائيل) في سرقة تاريخية. وتشير مثل هذه الإخفاقات إلى أن التأمين كان هشا للغاية في أكثر أجهزة الدولة سرية.

وبدأت رواية جديدة تنتشر بين الجمهور الإيراني حول أن هيئات الدولة الأكثر ثورية ربما تأوي "أوكار التجسس الحقيقية". وفي أواخر أغسطس/ آب هرب صحفي يعمل لدى وكالة أنباء "موج" المتشددة إلى السويد معلنا عن معارضته للنظام في أواخر أغسطس/آب. وكان الصحفي "أمير توحيد فاضل" يتمتع بأوراق اعتماد قوية بين المتشددين، واكتسب ثقة شخصيات وأعضاء مؤثرين في جهاز الأمن وقام باستخدام علاقاته الإعلامية لتعزيز مصالحهم السياسية وسط تنافسات شرسة بين الفصائل. وقد أثار طلبه اللجوء في السويد أسئلة حول إخلاص وموثوقية المتشددين في الدوائر "الثورية" الداخلية للحكومة.

وفي غضون أيام من هروب "فاضل"، تم إلقاء القبض على عدد من خطباء الجمعة للاشتباه في قيامهم بالتجسس لصالح (إسرائيل). وقبل عامين، تم القبض على ثلاثة أئمة آخرين مرتبطين بميليشيا "الباسيج" بتهم مماثلة. والجدير بالملاحظة أن الأئمة غالبا ما تربطهم صلات وثيقة بالهيئات الحكومية المتشددة، مثل مكتب المرشد الأعلى، وهم محوريون في حملة الجمهورية الإسلامية لكسب القلوب والعقول في الداخل. ولم يكونوا أبدا أهدافا معتادة لعمليات كشف التجسس.

وتعد قصة "محمد حسين رستمي" و"رضا غلبور"، الصحافيين السابقين في موقع إلكتروني متشدد تابع للحرس الثوري الإيراني يدعى "عماريون"، مدهشة. فقد تم سجن الاثنين في أواخر عام 2016، بتهمة التجسس لصالح (إسرائيل). وكان الرجلان أيضا من رجال الداخل الموثوق بهم الذين يتمتعون بوصول خاص وعلاقات وثيقة بكبار مسؤولي الحرس الثوري. وقد عمل "رستمي" في السابق كمقاتل شبه عسكري في الحرب الأهلية السورية نيابة عن الحرس الثوري. وكان "غلبور" قد نشر كتابا عام 2002 بعنوان "تجسس الأشباح"، والذي انتقد أداء وزارة الاستخبارات الإيرانية في عهد الرئيس الإصلاحي السابق "محمد خاتمي". ووفقا لصادر داخلية، كان الحرس الثوري قد كلف "غلبور" بـ "مهمة تخريبية" لتقويض مصداقية وزارة الاستخبارات، التي اعتبرها الحرس الثوري منافسا غير موثوق به. وكانت مثل هذه المهمة حساسة للغاية وتتطلب قدرا عاليا من الثقة.

ولهذا السبب، لم تكن اتهامات التجسس بمثابة صدمة للكثيرين فحسب، بل أثارت تساؤلات حول مصداقية وكفاءة الحرس الثوري الإيراني نفسه، الذي سمح على ما يبدو لـ "خائن" بالعمل ضمن صفوفه لأعوام. وفي وقت لاحق، بدا أن "غلبور" لم يكن جاسوسا تقنيا فحسب، ولكن ربما سرب معلومات استخباراتية حساسة لـ (إسرائيل). وقد نشرت وسائل الإعلام المتشددة التهم الموجهة إليه بمباركة الحرس الثوري الإيراني، من أجل تخويف المسربين أو المتسللين المحتملين.

  • الكوادر الموالين

ولم تتبن القيادة الإيرانية العليا الرأي القائل بأن "أوكار التجسس" الحقيقية لإيران تكمن في معاقل الدولة المتشددة. وبدلا من ذلك، يخشى القادة الإيرانيون من أن يؤدي التشكيك في المتشددين إلى إضعاف قاعدة دعمهم وهز سيطرتهم على السلطة. وقد جعل "خامنئي" نقطة تعزيز مكانة وولاية مراكز السلطة المتشددة أحد أولوياته. وفي خطاب ألقاه في 26 سبتمبر/أيلول، حث المرشد الأعلى السلطات الإيرانية على توظيف "قوى متدينة وثورية" في "المراكز الحرجة" للدولة، لأنهم، على حد تعبيره، "نفس الأشخاص الذين اقتحموا الساحات" دفاعا عن الجمهورية الإسلامية خلال الاحتجاجات الشعبية في عامي 2009 و2017 "لإحباط الأعداء".

وخرجت احتجاجات عام 2009، المعروفة باسم "الحركة الخضراء"، تعبيرا عن الرأي السائد بأن الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي جرت في يونيو/حزيران من ذلك العام، قد تم تزويرها لصالح الرئيس "محمود أحمدي نجاد". وكانت المعارضة واسعة الانتشار، سواء ضد نتائج الانتخابات أو القمع العنيف من الدولة لحركة الاحتجاج، إلى درجة أن المسؤولين كان لديهم مخاوف جدية بشأن استقرار النظام أو حتى حدوث انقلاب داخل نظام الأمن والمخابرات الإيراني. وبناءً على أوامر "خامنئي"، تعامل الحرس الثوري الإيراني مع هذا الاحتمال من خلال تطوير وحدة الاستخبارات الخاصة به إلى منظمة أكبر قد تكون بمثابة كيان مواز لوزارة الاستخبارات الحكومية.

وقام "خامنئي" بتعيين رجل دين كبير يدعى "حسين طائب" لرئاسة هيئة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني. وكان "طائب" شريكا موثوقا به للمرشد الأعلى منذ أعوام ما بعد الثورة، ولديه خلفية في مجال مكافحة التجسس، بالإضافة إلى علاقات وثيقة مع "خامنئي" والحرس الثوري الإيراني. وجعلت هذه المؤهلات، إلى جانب سجله المتشدد في التعامل مع العناصر المعادية للثورة، من "طائب" رجلا مناسبا بشكل خاص لتنظيم حملة الاستخبارات والأمن لقمع "الفتنة الخضراء"، وهو الوصف الذي أطلقته الحكومة على الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات عام 2009.

وبدعم من المرشد الأعلى، وبسبب مؤهلاتها الثورية المزعومة، وترويجه لوجهة نظر أيديولوجية شديدة حول الأمن القومي، ساعدت منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني في حماية المؤسسة المتشددة، أو ما يشار إليه محليا باسم "الدولة العميقة" التي هي نواة القوة في الجمهورية الإسلامية، من التهديدات السياسية والأمنية في الداخل والخارج. وفي القيام بذلك، يمكن القول إن المنظمة اتبعت أجندة سياسية واضحة، تتمحور حول تمكين الركائز الثورية للدولة وتهميش منافسيها. وتتعاون وكالات الاستخبارات الإيرانية المتنافسة في الأمور الحيوية للأمن القومي. لكن بالنسبة إلى منظمة الاستخبارات في الحرس الثوري الإيراني، فقد ركزت على مهمة منع الخروج عن النهج، واحتمالات تحدي النظام، وحتى مراقبة التمرد داخل صفوف الاستخبارات والجيش الحكوميين، أو، بمعنى آخر، حماية جوهر الجمهورية الإسلامية الثورية.

لكن معاناة وكالة ذات أهمية حيوية مثل منظمة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني من إخفاقات أمنية متكررة تحمل تكلفة سياسية كبيرة على القيادة الإيرانية برمتها، حيث يؤدي ترك هذه الإخفاقات بلا إجابات إلى خطر تآكل سلطة المؤسسات المتشددة و الروايات الثورية. وهكذا استجاب جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري، بشكل رئيسي عن طريق التضحية بكبش فداء، مثل "كاووس سيد إمامي"، وهو ناشط بيئي يحظى باحترام واسع تم قتله في السجن العام الماضي، جنبا إلى جنب مع 8 من زملائه في مجال الحفاظ على البيئة الذين لا يزالون خلف القضبان بتهم تجسس مزعومة. لكن ما لم تفعله استخبارات الحرس الثوري الإيراني - ولا تستطيع فعله ربما - هو إنكار أن الأعداء قد تسللوا إلى صفوفها.

وبعد مرور 4 عقود على الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، يبدو أن القيادة الإيرانية مصممة على الحفاظ على الروح الثورية المناهضة للغرب داخل جهاز الأمن والحكم في البلاد. ولا تزال معركة اقتلاع "عرين التجسس" الغربي وتجسيده المحلي المتصوَّر هي السرد الرمزي الذي يريد "خامنئي" إبرازه حول إيران، في الداخل والخارج. لكن عددا متزايدا من الإيرانيين، بمن فيهم البعض داخل المؤسسة الاستخباراتية نفسها، يروون قصة مختلفة تماما.

المصدر | ترجمة وتحرير الخليج الجديد - فورين أفيرز

  كلمات مفتاحية

الحرس الثوري الإيراني جواسيس عملية اختراق قابلية الاختراق

جواسيس إيرانيون يكشفون كيف خذلتهم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية