جورج فريدمان: هل يمكن إصلاح العلاقات المتوترة بين تركيا والغرب؟

السبت 30 نوفمبر 2019 06:02 م

أكتب هذا المقال من إسطنبول، وأنا أحاول ألا أحسب عدد أعياد الشكر التي قضيتها بعيدا عن أولادي وأحفادي. ولكن كما يقولون، هذه هي الحياة التي اخترتها. والآن، وأنا أتطلع إلى مضيق البوسفور من غرفتي في الفندق، ألاحظ شيئا غريبا: لقد كنت هنا عدة مرات، لكنني لم أر قط حركة مرور السفن خفيفة للغاية هكذا. ولم أر سوى حفنة من الناقلات الروسية تمر عبر المضيق، لذا عليّ أن أتساءل عما إذا كان سوق النفط العالمي يعاني بالفعل، وأن روسيا تجد صعوبة في العثور على عملاء. نعم، أفكر في هذا كله بينما تستمتع زوجتي بجمال الشمس الذي يتلألأ عبر الماء.

وتعد إسطنبول بالنسبة لي المدينة التي ألقي فيها الخطب، وأستمع إلى الخطب، وأستمتع بتناول العشاء الفخم. لكن من النادر أن أتجول في المدينة بحرية، حيث فعلتها مرة واحدة في العقد الماضي، حين خرجت بسيارة وخريطة وتجولت في النصف الشرقي من البلاد. وأتذكر أنني فقدت طريقي في هذه الرحلة، وقد حملتني زوجتي الخطأ بالكامل، حيث أخذت أقود ببطء عبر القرى الصغيرة والفقيرة. وحين أصبح من الواضح أننا تهنا تماما، ظهرت سيارة يركبها رجلان في الثلاثينات من العمر إلى جوارنا، وطلب مني أحدهم بلغة إنجليزية ممتازة متابعته للوصول إلى وجهتي. ولأنه كان يقود سيارة حديثة جدا، ولكونه يتحدث الإنجليزية جيدا، فمن غير المرجح أنه كان مجرد قروي يريد المساعدة. وقد أخبرت هذه المرة مسؤولا بارزا بإصرار شديد أنني سوف أتجول بمفردي، ولكنه، لحسن الحظ، لم يستمع إلي، وربما كان السبب في ذلك مزيجا المجاملة والحذر النسبي.

حسنا، تلخص المجاملة والحذر هنا كل شيء. كان من المفترض أن أتحدث في اجتماع لمؤسسة "موسياد"، وهي منظمة أعمال إسلامية يتحدث فيها الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أيضا في بعض الأحيان. وكان العشاء مع مجلس إدارة المؤسسة قبل الحدث مفيدا أيضا، ويتألف مجلس الإدارة من رجال أعمال راغبين وحريصين على إيجاد الفرص في الولايات المتحدة، لكنهم في الوقت نفسه، أعربوا عن أسفهم للتوترات المستمرة في علاقات تركيا مع الغرب، كما عبروا عن غضب الأتراك بسبب تخلي الولايات المتحدة وأوروبا عنهم بشكل واضح.

مظالم أنقرة

وقد تحدث رجال الأعمال المضيفين معي في نقطتين يجب استيعابهما جيدا. الأولى هي أن الحرب الأهلية السورية تسببت في دخول 3 ملايين لاجئ سوري إلى تركيا، وهو رقم مذهل. وقد أوضحوا أن هؤلاء اللاجئين أحرار في العمل والعيش في تركيا، وقالوا إن الأوروبيين فشلوا في الوفاء بالتزامهم بتقديم المساعدات، مما يعني أن تركيا تتحمل العبء الأكبر. وما يثير غضب الأتراك هو انتقاد الأوروبيين لحقوق الإنسان فيما تتحمل تركيا العبء، وليس الأوروبيون.

كما يشعر الأتراك بالغضب أيضا مما يعتبرونه تحريفا متعمدا للمسألة الكردية. ويبلغ عدد سكان تركيا نحو 80 مليون نسمة، 18 مليون منهم من الأكراد. وتعد الغالبية العظمى من الأكراد جزءا من المجتمع التركي، وهم يمتلكون 10% من المقاعد في البرلمان. ووفقا لمضيفي ولما رأيته بنفسي أيضا، فإن الأكراد ليسوا في حالة حرب أهلية مع تركيا، لكن الأمر كله يتعلق بمجموعة صغيرة من الأكراد المنتمين إلى "حزب العمال الكردستاني" الذي اعتاد شن هجمات إرهابية ضد تركيا.

وقد تم تشكيل حزب العمال الكردستاني في الحقبة السوفيتية، وهي مجموعة ماركسية كما يشير اسم الحزب. ودعم السوفييت الجماعات المتطرفة في تركيا لزعزعة استقرار البلاد، وكان حزب العمال الكردستاني أحد الأحزاب التي ساندوها. وحافظ حزب العمال الكردستاني على نضاله بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. ومن وجهة نظر الأتراك، فإن عجز الولايات المتحدة عن التمييز بين الأكراد وحزب العمال الكردستاني يعد أمرا شائنا، لذلك، عندما تحرك الأتراك لنزع سلاح الأكراد على حدودهم مع سوريا، برروا ذلك بأنهم إرهابيون مرتبطون بحزب العمال الكردستاني، وكانوا غاضبين من أعضاء الكونجرس الأمريكي لحديثهم عن إبعاد الأكراد عن الحدود والتلميح إلى خطر الإبادة الجماعية.

ويشعر الأتراك بأن هذه الحقائق معروفة جيدا في الولايات المتحدة، لكن يتم ليها عمدا بهدف إضعاف تركيا. وكانت وجهة نظري هي أن الكونجرس الأمريكي لم يكن على دراية تامة بالسياسة التركية، وأن جهلهم بوجهة النظر التركية له علاقة كبيرة بجهل تركيا بكيف تتم إدارة الأمور في الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أتقن البريطانيون والأيرلنديون والإسرائيليون والأرمن فن التعامل مع الحكومة الأمريكية. أما تركيا، فهي ببساطة لا تعرف كيف تتعامل مع واشنطن، ولا تشعر أنها يجب أن تتعلم.

ويظهر هذا في قضية "فتح الله جولن" التي تمت إثارتها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016. ولا تعد الانقلابات غريبة في تركيا، حيث منح الدستور التركي، الذي كتبه "مصطفى كمال أتاتورك"، الجيش دور الضامن لعلمانية الدولة. وبالنظر إلى ذلك، رأى بعض قادة الجيش أن الانقلاب على "أردوغان" يأتي في إطار الواجب الدستوري للجيش الذي يقتضي إزاحة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم. ولكن هذا الدور للجيش أصبح قديما جدا، وبعد أن أصبحت تركيا الآن دولة ديمقراطية، صار يتعين على الجيش احترام نتائج الانتخابات.

لكن الخلاف في هذه المرة لم يكن مع الجيش في الواقع، ولكن مع مجموعة تسمى "جماعة [ولن" وهي مجموعة يتم قيادتها وإرشادها من قبل "فتح الله [ولن"، الذي يقيم الآن في "بنسلفانيا" الأمريكية. وقد جمع تنظيم "[ولن" بين نسخة مميزة من الإسلام مع نظام فعال للغاية لتجنيد الأعضاء عبر المدارس والنوادي إضافة إلى استقطاب رجال الأعمال المتوافقين مع الجماعة في الجماعة في أفكارها. وكان "[ولن" في السابق صديقا حميما لـ"أردوغان"، ما يعطي القصة مزيدا من التعقيد.

وكان "أردوغان" قد تحول ضد "جماعة [ولن" في أوائل القرن الحادي والعشرين بعد أن أيقن أن "[ولن" بدأ يحوز قوة كبيرة يمكنها أن تتحدى الحزب الحاكم. وبعد محاولة الانقلاب في عام 2016، تم شن جملة موسعة لتطهير الجيش كان الهدف الحقيقي منها هو "جماعة [ولن" و"[ولن" نفسه. وطالبت الحكومة التركية الولايات المتحدة بتسليم "[ولن" ليتم محاكمته في تركيا. وقد أدى الرفض الأمريكي إلى إثارة غضب الأتراك، الذين لم يدركوا الطريقة التي تسير بها الأمور في الولايات المتحدة.

ولا يتمتع الرئيس أو الكونجرس الأمريكي بسلطة تسليم مقيم قانوني في الولايات المتحدة إلى بلد أجنبي، وفي النهاية، يتطلب الأمر قرارا من القاضي الذي يراجع الأدلة ويقرر، على النقيض من تركيا أو روسيا أو غيرهما من البلاد. وإذا أراد "أردوغان" أو "بوتين" مثلا تسليم شخص ما، فسوف يتم ترحيله ببساطة، لذا فإن الأتراك لم يقبلوا ببساطة فكرة أن الرئيس ليس له سيطرة تذكر على العملية القانونية في بلده.

سوء الفهم

على أي حال، ما هو واضح بالنسبة لي، هو أن هناك القليل من الخلافات الجوهرية بين الولايات المتحدة وتركيا، ولكن هناك مجموعة مذهلة من مسببات سوء الفهم. ويرغب الأتراك لعب دور الضحية، ولا تريد الولايات المتحدة أن تأخذ مظالمهم على محمل الجد. ويعد هذا خطئا كبيرا، وكما قلت قبل 10 أعوام، فإن تركيا ينتظرها مستقبل كبير كقوة إقليمية رائدة، ويحتل الناتج المحلي الإجمالي التركي المرتبة رقم 13 عالميا، ويعد جيشها كبيرا، وتتحسن قدراته باستمرار، ما يعني في النهاية أن أنقرة ستكون دوما لاعبا مهما لا يمكن تجاهله.

وتوجد مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا. ويعارض الأتراك بشدة نظام "بشار الأسد"، بينما أنقذ الروس "الأسد" وقاموا بحمايته. ويشعر الأتراك بقلق كبير من الدور الإيراني في سوريا والعراق. ولكن على الرغم من هذه المصالح الحقيقية، فإن القضايا التي تحتل المناقشات الثنائية هي تلك المتعلقة بـ"[ولن" و"إس-400" وطائرات "إف-35". ويمكنني الحديث مع الأتراك عن القانون الأمريكي إلى الأبد ولكنهم لن يستمعوا لذلك، ويمكنني إخبار أمريكا أن امتلاك الأتراك منظومة "إس-400" سيمنح الولايات المتحدة فرصة للنظر إليها عن قرب وفحصها، ولكن هذ الرأي سوف يتم رفضه أيضا.

ولكن تركيا لديها تاريخ طويل من عدم الثقة تجاه كل مع روسيا وإيران، وهي لا تزال تحتاج إلى الولايات المتحدة. وتريد الولايات المتحدة تحقيق الاستقرار في المنطقة دون استخدام القوات الأمريكية، لذا فإنها تحتاج إلى تركيا. لكن هذه المصالح الجيوسياسية الراسخة يتم تجاهلها لصالح تفكير قصير النظر يركز على قضايا أقل أهمية بكثير. ورغم أن هذه القضايا تبدو معقدة في الوقت الراهن، فمن المرجح أنها سوف تتلاشى على المدى الطويل.

المصدر | جورج فريدمان - جيوبوليتيكال فيوتشرز

  كلمات مفتاحية