ممالك النار.. التزييف بأثر رجعي

السبت 7 ديسمبر 2019 06:32 م

منذ عرفت الدراما التاريخية العربية طريقها إلى العرض الجماهيري سواء عبر شاشات السينما والتلفزيون (فيلم/مسلسل) أو عبر العروض المسرحية المختلفة، وهي حبيسة أهواء الكاتب والمنتج الذي يقف خلفه، فالعلاقة بين الأعمال الفنية والتاريخ علاقة ليست بريئة دائما ولن نكون مبالغين إذا قلنا أن الصراعات السياسية ورغبة الحكام في تضخيم ذواتهم، أو رغبتهم في تمرير مفاهيم دينية داعمة لكرسي الحكم أو حتى داعمة لإنشاء شكل من أشكال التبني للحياة الاجتماعية، أثرت وما زالت تؤثر على مضامين تلك الأعمال فهي تزور الماضي بأثر رجعي وتسخره لخدمة سياسات معاصرة.

 فن بطعم الصراع السياسي

في مسلسل ممالك النار تتجلى صورة الصراع السياسي بين الإمارات (جهة إنتاج المسلسل) والسعودية (جهة العرض عبر مجموعة إم بي سي) من جهة، وبين تركيا من جهة أخرى، فتركيا نجحت من خلال مسلسلا "قيامة أرطغرل" و"الفاتح" و"كوت العمارة" في توضيح حقيقة التواجد العثماني والخلافة العثمانية وحكمها لأكثر من 5 عقود ودفاعها المستميت عن وحدة الأراضي الإسلامية التي امتدت على مساحة شاسعة من العالم واستطاعت أن تزيل كل آثار التشوية التاريخي من خلال قوتها الناعمة بالدراما التاريخية.

اما الإمارات والسعودية فبعدما فشلتا في إثارة القلاقل داخل الدولة التركية وبعد فضيحة قتل السعودية لأحد مواطنيها وتقطيعه بالمنشار داخل سفارتها بإسطنبول، أرادت عبر الإمارات أن تصم الدولة العثمانية بالدموية.

التزوير من أول لقطة

بدا ممالك النار منذ اللقطة الأولى وهو يقدم لنا السلطان "محمد الفاتح" متحفزا لمعركة التزوير فالتعليق الصوتي على مشهد "الفاتح" وهو يرتدي لباسه العسكري يتحدث عن قاتل قام بقتل إخوته الأربعة وأيضا قتل أخوه أحمد الرضيع وسنه لقانون قتل الإخوة وهو القانون الذي تسبب في مقتل 60 أميرا عثمانيا فيما بعد.

كان من الطبيعي أن يتم التوقف أمام الثواني القليلة التي عرضت فيها هذه اللقطة لنبحث عن الحقيقة وهو ما قادنا إلى جريمة تزوير تاريخية، فالفاتح أو السلطان "محمد الثاني" لم يحارب إخوته وانما انتقلت السلطة له انتقالا سلسلا من والده "مراد" دون ايه اعتراض من إخوته، فقد تعمد كاتب السيناريو أن يقفز قفزة تاريخية عمرها 50 عاما حيث السلطان "محمد الأول" الذي استلم سلطنة مفككة فأبو "يزيد الأول" أسر في معركة قونيا المشهورة من قبل "تيمور لنك" سلطان المغول، وإخوته الثلاثة تعاونونا مع البيزنطيين ليبقى كل منهم ملكا على قطعة أرض يحكمها فاضطر أن يحاربهم ويوحد السلطنة مرة اخرى بعد أن هزمهم.

الجريمة التزويرية الثانية كانت في نص قانون الإخوة الذي عرضه المسلسل فوفق نص المسلسل (يجوز لمن يعتلى العرش أن يقتل إخوته)ـ ووفقا للنص الذي تذكره المصادر التاريخية رغم أنها تشكك في وجد ونسبة القانون من الأصل إلا أنه تورده بنص آخر.

(في حال تمرد وقام بعصيان مسلح أحد الإخوة أو الأعمام أو أي من الأمراء على السلطان يجوز له قتلة حفاظا على وحدة المسلمين) فالقانون يتحدث عن العصيان المسلح من الأمراء ومواجهته هذا إن وجد مثل هذا القانون بالأصل.

عموما الأخطاء التاريخية في المسلسل والتزوير شمل كل شيء من أول قرط السلطان سبيم المتدلى من أذنه، والذي اعتمد فيه الكاتب على صورة رسمها أحد رسامي أوروبا للشاه "إسماعيل" الصفوي ونسبت فيما بعد لـ"سليم الأول"، مرورا بالسلطان "بايزيد الثاني" الذي صور كسكير وهو السلطان الذي لقبه أعدائه بالولي لارتباطه بالدين والعلماء.

40 مليون دولار والنتيجة ملل

يبدو أن برود الإنجليز انعكس على تكنيك العمل في المسلسل فالأحداث تنتقل بشكل مملل بأسلوب القطع المتقاطع بين تركيا ومصر مع إسهاب في محاولة رسم كل من شخصية "طومان باي" في مصر والذي يقدمه المسلسل في صورة الحنون المتدين ابن الشعب القريب من الفقراء العادل، مقابل شيطنة السلطان "سليم" الذي يظهر في صورة قاتل متعطش للدماء حتى أنه يقتل فرسه ومع ذلك فإن النقلات في السيناريو لم تعطنا التشويق ولا الإثارة لتتبع الحدثين المنفصلين ويبدو أن ثقافة المخرج البعيدة تماما عن المنطقة لم تستطع أن تخفي ضعف السيناريو ولا أن تضيف عليه شيئا.

الغريب أن المخرج اختار موسيقي مستوحاه من مسلسل "صراع العروش" فأخرج المسلسل تماما من الحس الشرقي ومن أجواء المنطقة التي تدور فيها الأحداث، فالمفترض أن المسلسل تدور أحداثه  بين تركيا ومصر وسوريا، وهي منطقة لها خصوصيتها في الأنغام والمقامات الموسيقية ألا ان جهل المخرج الإنجليزي وجهل القائمين على العمل بهذه الخصوصية يدعوان إلى الدهشة.

لماذا "سيلم الأول"؟

التشويه المتعمد للسلطان "سليم الأول" في المسلسل استرعى الانتباه فقد صب صناع المسلسل معظم افتراءاتهم التاريخية على ذلك السلطان، وبالرجوع إلى سيرته فإن الرجل استطاع أن يحمي المنطقة من المد الصفوي وانتبه إليه عندما كان في بدايات عمره فبعد أن أرسله والده "بايزيد الثاني" إلى طرابزون ليكون حاكما عليها، اكتشف "سليم" تزمر الجنود التركمان وهم عماد الجيش والدولة، وعلم بمحاولات استمالتهم من السلطان "إسماعيل شاه" الصفوي، فقام "سليم" بحمله في اتجاه جورجيا وضم أراضي أرزروم وغيرها إلى مملكة ابيه ووزع الغنائم كلها على الجنود التركمان وبذلك حمى السلطنة من الانهيار، وبعد توليه الحكم هزم "إسماعيل شاه" في موقعة تشالديرن وأرسى الحكم في الأناضول لصالح المذهب السني.

لذا لا نستطيع أن نفسر الهجوم على السلطان "سليم" إلا كحلقة من حلقات التزلف الاماراتي لإيران.

مسلسل إماراتي والصراع تركي

أطرف ما في هذا المسلسل أن الإمارات تتبنى "طومان باي" التركي المملوكي كبطل شعبي مصري ضد "سليم" التركي العثماني، يعني أتراك يحاربون أتراك على قيادة الأمة الإسلامية، فما هو موقع ولاد "زايد" من الإعراب.

فالمماليك أتراك كانوا يحكمون مصر، والعثمانيون أتراك جاؤوا لينقذوا المنطقة والأمة من المد الصفوي والخطر الذي بات يهدد المذهب السني، بعدما تآمر "قنصوة الغوري" مع الشاه "إسماعيل" الصفوي، لإسقاط دولة "بني عثمان" التي كانت تجاهد ممالك شرق أوروبا، مما اضطر "سليم أن يتجه إلى العمق الداخلي لتأمينه.  

ألم يكن من الأفضل أن يبحث أولاد "زايد" عن الأبطال أو المناضلين العرب ليقدموهم لنا، ويقنعونا بأنهم يستطيعون منافسة الدراما التركية، إم إنهم هواه صناعة الفشل والتباهي ببطولات الغير الوهمية.

المصدر | الخليج الجديد

  كلمات مفتاحية