استطلاع رأي

أي من هذه الدول تمارس الدور الأكثر إيجابية في حرب غزة؟

السعودية

مصر

قطر

إيران

تركيا

أهم الموضوعات

طبقات اليمين الإسرائيلي وبصيرة دا سيلفا

عن أوهام التفاؤل الأميركي

أزمة اقتصاد مصر وانتظار الفرج من الخارج

نحو وقف الحرب على غزة

سيناريو اليوم التالي للحرب

في اللبس بين «الدعوة» و«الجهاد» في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة

الثلاثاء 21 يوليو 2015 08:07 ص

صورت الجماعات الإسلامية الحديثة التي خرجت للوجود في بدايات القرن الماضي مشروعها على أنه مشروع «دعوة» إلى صحيح الإسلام. وهكذا عنون الشيخ حسن البنا سيرته المبكرة: «مذكرات الدعوة والداعية». والدعوة بطبيعتها رسالة حوار، والمسلم مأمور بالدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، أي بلباقة وحسن تصرف، وبالابتعاد ليس فقط عن العنف، بل كذلك عن فظاظة القول أو الاستفزاز. وحتى عندما بعث موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون الذي طغى وتجبر، كان التوجيه الرباني: «قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى». فالغرض من الدعوة هو تبليغ الرسالة بألطف الصور وأكثرها فعالية.

ومن هذا المنطلق، فإن الدعوة هي نقيض الجهاد والقتال. فالداعية لا يكون مقاتلاً، وإنما يكون ليناً لبقاً، مسالماً. وهو أيضاً متجرد، لا يطلب أجراً على أداء مهمته: أي لا يخلط مصالحه الاقتصادية بمهمة الدعوة. وهو لا يفرض الأمر على من يدعوهم، بل يخاطب عقولهم، ويستنفر حسهم الأخلاقي والروحي. فقد جاء أن «لست عليهم بمسيطر». وكذلك: «إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب». وأيضاً: «ليس عليك هداكم ولكن الله يهدي من يشاء.» أي أن مهمة الداعية ليست تحقيق النتائج بأي صورة كانت. فقد مكث نوح يدعو قومه قرابة عشرة قرون دون أن يهتدي منهم سوى حمل سفينة واحدة، ولم يعتبر ذلك فشلاً في مهمته، بل استحق المدح الإلهي، وعد من أولي العزم والرسل. كذلك إبراهيم، لم يستجب له من قومه إلا شخص واحد، هو النبي لوط، ومع ذلك فهو إمام الأنبياء وقدوتهم. 

ولكن كثيراً من الحركات الإسلامية خلطت بين تحصيل النتائج ومهمة الدعوة، وربطت بين نجاح مهمتها في مجال الدعوة بنجاحها الحزبي السياسي. ونتج عن هذا خلط بين الدعوة إلى دين الحق وبين تكثير عضوية الجماعة وإنجاح أجندتها السياسية، والتمسك بقيادتها في فترة معينة. وقد بنت هذه الحركات كذلك مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية، خلطت بينها وبين واجب الدعوة وحقيقتها. وخلق هذا كثيرا من اللبس في الأذهان، لدى الموالين لهذه الحركات ومن ناصبها العداء. فأصبح الخلاف في الاجتهاد مدعاة للمشاحنة، وتهديد مصالح الجماعة الاقتصادية أو مكاسبها السياسية مما يقدح في الدين. كذلك قد ترتبط هذه الجماعة بهوية طائفية أو قبلية أو جهوية، فيصبح العداء لأحد مكونات هذه الهوية من العداء للدين. 

ولكن الأفدح من ذلك هو ما جرى من محاولات للربط بين الدعوة والجهاد كما لو كانا وجهان لعملة واحدة. وهكذا نجد الجماعات المسلحة المنتسبة للإسلام، مثل الجماعات التي ظهرت في الجزائر وما حولها في التسعينات، سمت نفسها بأسماء مثل «الجماعة الإسلامية المقاتلة» أو «الجماعة الإسلامية المسلحة». وقد زاد فصيل منشق عن هذه الأخيرة في عام 1996 فسمى نفسه باسم «الجماعة السلفية للدعوة والقتال». كذلك فإن الاسم الأصلي للجماعة المعروفة باسم «بوكو حرام» في نيجيريا هو: «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد».

يعود جزء من الإشكال إلى قراءة خاطئة لبعض وقائع صدر الإسلام، حين كان خروج أي جماعة سياسية خروجاً مسلحاً، لعدة أسباب، من أبرزها عدم وجود إطار لفعل سياسي سلمي. فقد كان كل المواطنين في الدول السابقة للحداثة من حملة السلاح. وبالتالي كانت أي دعوة أو حركة سياسية تتحول تلقائياً إلى تجمع مسلح. 

وقد استصحبت بعض الحركات الإسلامية الحديثة ذاك التراث بدون كثير تمحيص، خاصة أنها نشأت في دول كانت واقعة تحت سيطرة الاستعمار، وبالتالي ركزت على الجهاد ومفاهيمه كمحور هام من محاور التعبئة. إلا أن المفارقة هي أن السيد أبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، حاول إعادة صياغة مفهوم الجهاد من منطلق حداثي، حين صوره بأنه أداة لتحرير العباد من الظلم. وكان المودودي يرد على اعتذاريات الحداثيين من المسلمين الذين ردوا على افتراءات المستشرقين حول نشر الإسلام بحد السيف بالادعاء بإن الإسلام دين مسالم، وأن القتال فيه شرع فقط للدفاع عن النفس. فكان رد المودودي تخطئة الطرفين: فالإسلام لا يأمر بنشر الدين بالقوة، ولكنه لا يبشر بالمسالمة، بل بالعكس، يدعو إلى مواجهة الظلم والطغيان أينما كان. فغزوات المسلمين لم تكن لنشر الدين الإسلامي، بل لتحطيم أركان العسف والطغيان، ثم ترك الناس أحراراً يختاروا أي دين شاءوا.

وقد أخذ سيد قطب هذه المقولة عن المودودي وطورها، استناداً إلى مقولة ربعي بن عامر الشهيرة في حضرة رستم: « لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد»، ومن واقع سيرة الفتح الإسلامي الذي هدم الامبراطوريات، ولكنه لم يجبر رعاياها السابقين على اعتناق الدين الإسلامي. وهناك سوء فهم عام لفكر قطب بأنه يدعو إلى العنف العشوائي، بينما نجد دعوى قطب-المودودي تشبه «مبدأ بوش» الذي دعا فيه لاستخدام قوة أمريكا العسكرية لنشر الديمقراطية، أو هي أقرب لمبدأ التدخل الإنساني. فبحسب قطب فإن مهمة الإسلام هي تحرير البشر من الطغيان، وليس فرض أي دين عليهم. فهي دعوة ليبرالية إن صح التعبير. وأنا شخصياً أعتقد أن هذا تفسير خاطىء، ومتأثر بالحداثة أكثر من اللازم، ولكن هذا مبحث آخر.

إلا أن اللبس المعاصر بين الجهاد والدعوة لا يعود إلى قطب والمودودي، بل لظهور حركات إسلامية متأخرة مثلت ردة ضد الحداثة الإسلامية التي تبنتها حركات مثل الإخوان والجماعة الإسلامية. وقد استندت هذه المخالفة مباشرة إلى التراث السلفي، مثل كتب ابن تيمية. وكان من أوائل ممثليها الجماعة الإسلامية في مصر، التي وصف منظرها عبد السلام فرج الجهاد بأنه «الفريضة الغائبة». وبأنه غاية في حد ذاته، وليس وسيلة. ومن الواجب على المسلمين أن يعلنوا الجهاد المستمر على من لا يتبع صحيح الدين، وليس من شأنهم أن يحقق الجهاد أي نجاح. فالمسلم يؤدي الفريضة، والنتيجة متروكة لله سبحانه وتعالى.

وبحسب هذا الفهم، فإن الجهاد لا يكون لدفع الظلم، كما جاء في الآية التي شرع فيها الجهاد («إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا»)، أو لرد العدوان، كما جاء في الآية المحكمة التي حددت الجهاد بواجب رد العدوان، ونهت عن البدء بالعدوان: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين». وبحسب هذه الآية، فإن وقف العدوان من الجانب الآخر يفرض وقف القتال: «فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين». ولكن فرج ومن تبعه من يرى مهمة المسلم هي العدوان المستمر على كل مخالف، بدون تمييز لنساء أو أطفال أو عجزة. بل وبدون الالتفات حتى إلى دين وموقف. فيجوز عند هؤلاء، بل يجب، العدوان على المصلين في المساجد، والعاكفين والركع السجود. 

لحسن الحظ، فإن أتباع فرج من أنصار الجماعة الإسلامية تابوا إلى الله من هذه الفرية، وألفوا الكتب في تسفيه مثل هذه الدعوات. ولكن لسوء الحظ، فإن كثيرين ممن جاءوا بعدهم ساروا على ذلك الطريق المؤدي إلى التهلكة، فعرفوا الجهاد بأنه العدوان، وربطوا الدعوة إلى الإسلام بكل أشكال العنف التي هي نقيض التي هي أحسن (وتفسيرها القرآني: «ادفع بالتي هي أحسن السيئة، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»).

ملخص ما سبق هو أنه لا علاقة للدعوة بالجهاد، وإلا صحت دعوى الشانئين بأن الإسلام نشر بحد السيف. فالداعية يجب أن يتجرد لمهمته من كل رابطة ومصلحة سوى الحق، ومن كل أجندة سياسية، وأن ينبذ العنف بكل شكل. وهو غير مسؤول عن النتائج، وليس ملزماً بأن يهدي الناس غصباً عنهم، فالهداية من الله وحده. وإنما الواجب هو البلاغ لا غير.

 

٭ د. عبدالوهاب الأفندي كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن

  كلمات مفتاحية

الدعوة الجهاد الحركة الإسلامية الإسلام حسن البنا العنف الإخوان المسلمون السلفية الجهادية

أصول الاستدلال الإسلامي للفكر المدني